المادة    
الحالة الثانية: لمن أراد أن يتوب وأناب إلى الله تبارك وتعالى، وجاء إلينا وقال: أنا كنت تاركاً للصلاة وأريد أن أتوب، فهل ترون أن أقضي، أم ماذا أفعل؟ فنقول له: كيف كنت تترك الصلاة وتعلم أنها الركن الثاني من أركان الإسلام، وأن الله تبارك وتعالى قال فيها: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)) [البقرة:43] وأن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {العهد الذين بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} فقال : إنه كان يعتقد أن الصلاة تسقط عن العارفين، أو عن الواصلين، وهذه بدعة الصوفية التي تملأ معظم بلاد العالم الإسلامي -وهي ضلالة كبرى، وفرية عظمى- أن أحداً من الخلق يترك فرائض الله مدعياً وزاعماً ومتوهماً أنه قد وصل إلى الله، وأن الفرائض أو التكاليف -كما يسمونها- إنما تجب على العامة لأنهم لم يعرفوا التوحيد، وأما الخاصة، أو كما يقولون أحياناً: خاصة الخاصة الذين عرفوا التوحيد، فهؤلاء لا يحتاجون إلى أن يأتوا بهذه الفرائض، لأن هذه مرحلة يفعلها المريد، وهم قد وصلوا وعاينوا الحق كما يقولون -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- وفي نظرهم أنه قد اتحد المخلوق بالخالق.
فإذا كان الذي جاءنا تائباً منيباً من هذا النوع -وهم كثير- وقال: كنت أعتقد أني بلغت درجة العارفين، أو الواصلين وزين لي ذلك شيوخ الضلالة في الطريقة التي كنت أنتمي إليها، والآن عرفت أن الصلاة لا تسقط عن أحد، ولو كانت ساقطة عن أحد لكمال علمه أو يقينه كما يؤولون قوله تعالى : ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)) [الحجر:99] لكانت سقطت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسائر الصحابة لأنهم أعلم الخلق بالله، وأكثر الخلق يقيناً الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه وسلم ثم صحابته رضوان الله عليهم، فهل تركوها؟ فالمعلوم أنه لم يتركها منهم أحد إلا إذا دخل في سكرات الموت، أما قبل ذلك فيصلي إما قاعداً، أو على جنبه، أو على أي حال من الأحوال، ولم يكن يترك الصلاة أبداً، بل كانوا يوصون بها، فقد أوصى بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو في حال الاحتضار، وأوصى بها قبيل موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأوصى بها عمر رضي الله تعالى عنه، وهذه أهمية الصلاة عندهم، إذاً: لا يمكن أن تسقط الصلاة عنهم إلى الموت، فإذا مات أحدهم سقطت عنه.
ومن باطل الصوفية أن الشيخ يصلي عنهم، فمن المصائب الكبرى التي ابتليت الأمة بها شيوخ الضلالة أن الشيخ يصلي عن أتباعه ويحفظهم، وبعض الشيوخ وصل به الحال كما فعل التيجاني وكما ينسبون أيضاً إلى غيره مثل الشاذلي والبدوي والجيلاني أنه يقول : الشيخ الذي يدخل مريده النار فليس بشيخ، ومن جاءه مريده يستغيث به أو يدعوه عند قبره ولم يجبه فليس بشيخ، فلقد جعلوا أنفسهم أرباباً، أو جُعلوا أرباباً من دون الله لأن بعضهم ما قال هذا الكلام.
والتيجاني ينسبون إليه في كتبه أنه قال: لا يدخل النار من رآني أو من رأى من رأى.. إلى سابع رجل يرى أحمد التيجاني مع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رآه المشركون وهم من أهل النار، ومنهم الذين آذوه في مكة، ومنهم الذين في قليب بدر وغيرهم من اليهود الذين رأوه في المدينة، فهذا شيء لم يكن، وحتى أبناء أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم، وغيرهم من الصحابة ما ضمن لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجنة لأنهم رأوا من رآه، أو يقول: كل من رأى أبا بكر فحرام عليه النار، ومن رأى عمر كذلك فكيف بالسابع، فكيف بغيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما يقرب كل إنسان إلى الله عمله وتقواه لله عز وجل.
  1. حكم من ترك الصلاة معتقداً سقوطها عنه ثم تاب

    من كان يعتقد أن الشيخ يصلي عنه، أو أن لله عباداً أسقط عنهم الصلاة -كما يتوهم بعضهم، وهم كثير- من المنتسبين إلى الفقر والزهد، والفقير الذي نعرفه وهو المعروف في اللغة وكما هو معروف عند العامة: أنه الذي لا مال له ولا متاع، أما عندهم فهو في الحقيقة ترجمة لكلمة هندية، فالفقير في لغة الهندوس، والبوذيين وأشباههم هو المنقطع لله الزاهد، أو الراهب على دينهم الذين يتعبدون به، ولهذا قال بعض الصوفية: إن الفقر هو الله -تعالى الله عما يقولون- وهذا كلام عجيب.
    وفي الفتاوى سئل شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله عمن يقول: إن الفقر هو الله -تعالى الله- كيف يكون الفقر هو الله؟ لكن لأنهم يعنون بالفقر مصطلحاً آخر غير ما يعرفه الناس، هؤلاء الذين يقولون: إن الله قد أسقط عنا الفرائض حكمهم أنهم متأولة، أي: أنه ترك الصلاة متأولاً وهذا من أقبح أنواع التأويل، لأنه لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يصل الجهل بالمسلم إلى الجهل المركب وإلى أن يظن أن الصلاة تسقط بالتأويل، ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ: ''فهؤلاء يستتابون باتفاق الأئمة'' فهو إجماع بين العلماء والفقهاء أنهم يستتابون، فإن أقروا بالوجوب -وأن الله تعالى أوجب علينا هذه الصلاة- فيجبرون على أدائها، ويكونون من جملة المسلمين لهم مالهم وعليهم ما عليهم، كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا} وإن لم يفعل ذلك فليس له هذا الحق، قال تعالى: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)) [التوبة:11] فتبدأ الأخوة في الدين منذ أن يصلوا، فإن أبوا وجحدوا وجوبها عليهم، فهؤلاء يقاتلون قتال المرتدين.
    قال شَيْخ الإِسْلامِ: ''ومن تاب منهم وصلى لم يكن عليه إعادة ما ترك قبل ذلك في أظهر قولي العلماء -لأن المسألة فيها قولان؛ لكن الأظهر من القولين أنه لا إعادة عليهم، فقال:- فإن هؤلاء إما أن يكونوا مرتدين، وإما أن يكونوا مسلمين جاهلين بالوجوب، فإن قيل: إنهم مرتدون عن الإسلام؛ فالمرتد إذا أسلم لا يقضي ما تركه حال الردة عند جمهور العلماء'' فيريد شَيْخ الإِسْلامِ هنا أن يلزم الفقهاء المخالفين الذين قالوا: إن عليهم القضاء.
    وأخذ يستدل على ذلك فقال: ''كما لا يقضي الكافر إذا أسلم ما ترك حال الكفر باتفاق العلماء'' ومثله: ما لو جاءنا اليوم رجل من أمريكا أو من الهند أو من أي بلد سواء كان عابداً للنار، أو عابداً للصليب، أو يهودياً، أو كائناً ما كان دينه، وآمن بالله تبارك وتعالى، فإننا نقول: قد تبت من الكفر وعليك الصلاة، ونعلمه أحكامها، ويبتدئ عليه الوجوب منذ أن أسلم باتفاق العلماء، ولا نقول له: اقضِ منذ أن بلغت سن البلوغ إلى اليوم، لأنها قضية متفق عليها بين العلماء وهو أن الوجوب يبتدئ في حقه منذ إعلان إسلامه، فتبعاً لذلك قال جمهور العلماء: وكذلك المرتد لا يجب عليه أن يأتي بما تركه في حال كفره، وردته.
    قال شَيْخ الإِسْلامِ : ''ومذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في أظهر الروايتين عنه -هذا هو الاتفاق- والأخرى يقضي المرتد كقول الشافعي والأول أظهر '' -ثم أخذ يأتي بالأدلة على ذلك، ويقول:- : ''فإن الذين ارتدوا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كـالحارث بن قيس، وطائفة معه أنزل الله فيهم ((كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ)) [آل عمران:86] الآية والتي بعدها، وكـعبد الله بن أبي السرح والذين خرجوا مع الكفار يوم بدر أنزل فيهم: ((ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)) [النحل:110] فهؤلاء عادوا إلى الإسلام، وعبد الله بن أبي السرح عاد إلى الإسلام عام الفتح وبايعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يأمر أحداً منهم بإعادة ما ترك حال الكفر في الردة، كما لم يكن يأمر سائر الكفار إذا أسلموا'' فلم يأمره النبي بأن يعيد ما كان قد ترك من الأركان أو الواجبات في حال ردته، وهذا معلوم وثابت من السيرة، بل عاملهم معاملة الكافر إذا أسلم.
    قال شَيْخ الإِسْلامِ: ''وقد ارتد في حياته خلق كثير اتبعوا الأسود العنسي الذي تنبأ بـصنعاء في اليمن-والذين عظمت فتنته حتى سلط الله عليه من قتله على فراشه- ثم قتله الله، وعاد أولئك إلى الإسلام ولم يؤمروا بالإعادة'' وكان ذلك قبيل وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    ثم قال شَيْخ الإِسْلامِ: ''وتنبأ مسيلمة الكذاب واتبعه خلق كثير'' كانوا في اليمامة، وهؤلاء توفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم ما يزالون على ردتهم، ثم جاء من بعده خليفته أبو بكر رضي الله تعالى عنه، قال شَيْخ الإِسْلامِ : ''قاتلهم الصديق والصحابة بعد موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أعادوا من بقي منهم إلى الإسلام، ولم يأمر أحداً منهم بالقضاء، وكذلك سائر المرتدين بعد موته ''.
    ثم قال شَيْخ الإِسْلامِ:- : ''وكان أكثر البوادي قد ارتدوا، ثم عادوا إلى الإسلام'' فكما هو معلوم أنه عندما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفر أكثر العرب وارتدوا، ولم يبق إلا ثلاث مدن هي: مكة والمدينة والطائف وفي البحرين وهم: بنو عبد القيس؛ لأن العقلية العربية والعقلية الجاهلية في كل زمان ومكان ترى أن المبادئ والعقائد ترتبط عندهم بالأشخاص، فإذا مات ظنوا أن دينه قد انتهى، فهذا هو الظن الباطل الذي ظنوه بالدين الذي أنزله الله تبارك وتعالى ليبلغ ما بلغ الليل والنهار، وليظهره الله على الدين كله ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون، فقالوا: مات محمد، إذن مات دينه، وظنوا أن الأمر سوف يرجع جاهلية، ويرجعون إلى عكاظ ومجنة وذي المجاز والأشعار، والأخبار، ونهب الطرق، وعبادة الأصنام لأن الإيمان لم يدخل قلوبهم، أما من آمن كما في هذه المدن الثلاث، ومن حولها ومن كانوا في البحرين وغيرها، ممن ثبت الله تبارك وتعالى الإيمان في قلبه، فإنهم كانوا أكثر علماً بالله، وأكثر يقيناً فيه وثقة في وعده، ونصرة لدينه من أن يرتدوا عنه.
    إذاً ترك أكثر العرب دينهم وارتدوا، فقاتلهم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ولم يأمروا أحداً منهم بأن يقضي، وأن يعيد ما كان قد فاته من الصلوات، ثم قال شَيْخ الإِسْلامِ: ''ولم يأمر أحداً منهم بقضاء ما ترك من الصلاة، وقوله تعالى: ((قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)) [الأنفال:38] يتناول كل كافر'' فكل كافر يتوب يغفر الله تبارك وتعالى له ما قد سلف، وهذا فضل من الله تبارك وتعالى ونعمة، وباب عظيم من أبواب الدعوة وتأليف القلوب، فإن كان كافراً أصلياً فإن باب الله مفتوح، وما عليه إلا أن يتشهد وأن يؤمن بالله حقاً، وأن يدخل في هذا الدين بصدق وإخلاص؛ فيكون كواحد من المسلمين، ويغفر له ما قد سلف، هذا فضل ونعمة من الله.
    وكذلك من أضله شيطانه، أو جهله وغيه، فارتد -عياذاً بالله- بعد أن عرف الحق يظل أمامه الأمل، وباب التوبة مفتوحاً، ليتوب إلى رشده، ويعود إلى الحق، وهذه ميزة عظيمة ورحمة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا على اعتبار أن هؤلاء كان حكمهم حكم المرتدين.
    والحالة الأخرى: أن يكون لهؤلاء الصوفية المتأولين حكم الجهال قال: ''وإن قيل: إن هؤلاء لم يكونوا مرتدين، بل جهالاً بالوجوب، وقد تقدم أن الأظهر في حق هؤلاء أنهم يستأنفون الصلاة على الوجه المأمور به ولا قضاء عليهم'' وهنا نرجع إلى الأدلة التسعة التي ذكرناها سابقاً، قال: ''فهذا حكم من تركها غير معتقد بوجوبها'' فهذا حكم يشملهم جميعاً وإن اختلف السبب؛ فهذا يعتقد أنها غير واجبة لأن الشيخ يصلي عنه، أو لأنه من العارفين، والآخر يعتقد عدم وجوبها لأنه لم يبلغه حكمها.