المادة    
قبل أن نقول: ما الحكم إذا اجتمع الوعد والوعيد على مذهب أهل السنة والجماعة فقد سبق أن ذكرنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {كلها في النار إلا واحدة} فهذا يدل على الوعيد.
فكيف نفهم نصوص وآيات الوعيد وفق منهج أهل السنة والجماعة أن الزاني في النار, وأن شارب الخمر في النار؟
نقول: إنه يستحقها بمعنى أنه إن فعلها فهذه عقوبته.
وهل يلزم من ذلك أن تلحق به العقوبة فعلاً؟
الجواب: لا يلزم.
إذاً نقول: أهل الوعيد المستحقون له في جملتهم كأصحاب الكبائر، قد يدخلون النار وقد لا يدخلون.
فالنتيجة أننا نقول: إن كل مرتكب كبيرة مستحق للوعيد؛ لكن هذا الوعيد ينفذ في حق البعض ولا ينفذ في حق البعض الآخر؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل هناك أسباباً وموانع ومن ذلك الشفاعة, والحسنات الماحية, ومغفرة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
  1. الفرق بين المرجئة وأهل السنة والخوارج

    إذاً ما الفرق بين الخوارج والمرجئة وأهل السنة؟
    قالت الخوارج في أهل الوعيد: (كل من أطلق عليه الوعيد فينفذ في حقه، إذاً كلهم يدخلون النار).
    أما المرجئة فقالوا: (يجوز ألا يدخل النار منهم أحد لأنهم يقولون: لا إله إلا الله) أما أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون: (يدخل بعضهم وبعضهم لا يدخل) بحسب الشروط والأسباب والموانع، فهناك حديث صحيح يدل على أن بعض الزناة في النار, ومن يشرب الخمر في النار, بينما نجد أيضاً أن هناك أحاديث تدل على تكفير الذنوب بالحسنات, ومن ذلك حديث شارب الخمر لكونه يحب الله ورسوله فقد قام به مانع, وهذا المانع علمناه في الدنيا، ويوم القيامة تنكشف الحقائق أن هذا الشارب كان يحب الله ورسوله, وهذا يزني ويجاهد, وهذا يتصدق؛ وذاك يفعلها ولا خير فيه فهذا يدخل النار وهذا لا يدخلها, لأنه بحسب الأسباب والموانع، أما أن يقال: لا يدخل أحد من أهل القبلة النار، فهذا خطأ.
    ولا يُعكس فيقال: كل من عصى واستحق الوعيد من أهل القبلة لا بد أن يدخل النار!
    فمذهب أهل السنة والجماعة مذهب عدل، نقول: لا ننفي مطلقاً ولا نثبت مطلقاً، فيلحق الوعيد بعضهم, وبعضهم لا يلحقه, لأسباب وموانع والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحكم بينهم جميعاً بالقسط, وهذا هو الحق الذي يليق بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وصفاته, كما هو الحق في نظر أي إنسان.
  2. فساد كلام المرجئة والخوارج

    ثم يقول المصنف رحمه الله: ''وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي احتجت بها المرجئة كقولهم: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وجمع معها نصوص وآيات الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة مثل {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} " إذا اجتمعت تبين لك فساد القولين " -أي: يظهر لك فساد قول الخوارج والمعتزلة من نصوص الوعد- ويتبين فساد قول المرجئة من نصوص الوعيد، ويتبين أن الحق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة بالجمع بين الوعد والوعيد؛ ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد كلام الطائفة الأخرى'' الأصل أن لا نحتاج في الرد على الخوارج إلى كلام المرجئة ولا نحتاج إلى كلام الخوارج في الرد على المرجئة؛ لكن من الإنصاف أننا لم نستفد من كلام كل طائفة شيئاً, إلا أننا عرفنا فساد الطائفة الأخرى, فربما يكون هناك خصمان تسمع من أحدهما فتتيقن أن كلامه في حق خصمه حق؛ لكن لا يلزم من ذلك أنه على الحق لاحتمال أن يكون الحق عند ثالث لهما، فقد يختلف المختلفان وكلاهما مخطئ؛ لكن لنعتبر أن الاثنين مخطئان فأين الحق؟ بالتأكيد أنه عند ثالث غيرهما.
    فأنت لا تستفيد من كلام المرجئة لأنك تعرف أن مذهب الخوارج باطل من نصوص الوعد, ولا تستفيد أيضاً من كلام الخوارج أن كلام المرجئة باطل, لأنك تعرف هذا من نصوص الوعيد، ومن خلال الاستدلالات العقلية التي يأتون بها، لكن لا يلزم من ذلك أنه إما هؤلاء على حق أو هؤلاء على حق وإما كلاهما على حق، بل الواضح الجلي أن كلاً منهما على باطل وعلى ضلالة.
  3. وسطية مذهب أهل السنة بين الفرق

    عليك أن تجمع الحق من نصوص الوعد وما صح من نصوص الوعيد وتخرج المذهب الحق وهو مذهب أهل السنة والجماعة المذهب الوسط في هذا الشأن, كما هو الوسط في جميع الأبواب, وسط في الصفات بين أهل التعطيل (النفي المطلق) وبين أهل التمثيل, (الإثبات المغالي فيه) وفي باب القدر بين المعتزلة النفاة الجبرية الغلاة، ووسط أيضاً في باب الصحابة الكرام بين من ألههم وبين من كفرهم, ووسط في باب الإيمان, بين من يخرج العاصي من الملة, وبين من يجعله مؤمناً كامل الإيمان؛ فهذا جزء من الوسطية ويظهر ذلك من خلال اجتماع النصوص فيهم والحمد لله.
    وهنا فائدة منهجية وهي أنه لا يوجد نص صحيح في الوعد أو الوعيد يرده أهل السنة والجماعة فهذا في القرآن معلوم, لكن في الأحاديث لا يمكن أن يصح حديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الوعد أو الوعيد ويرده أهل السنة والجماعة؛ لكن لو نظرت إلى الخوارج, فلابد أن يردوا أحاديث، وكذلك المرجئة لا بد أن ترد أحاديث, إذاً فما آمنوا بما جاء به الرسول حق الإيمان, لكن أهل السنة والجماعة يؤمنون بالكل, ويجمعون النصوص على بعضها البعض, فيقعون على الحق الوسط ويستمسكون به, وبه يلقون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولهذا كانوا الطائفة الناجية إن شاء الله تعالى، فهي وحدها الموعودة بالنجاة، أما غيرها فمتوعد بالهلاك.
    وكما كان الدين وسطاً بين الملل، فلو نظرنا إلى ما كان عليه أهل الأديان وأهل الكتابين قبلنا؛ لوجدنا أن هناك إفراطاً من جهة, وهناك تفريط من جهة فأرسل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجمع له بين العفو والعدل فكان وسطاً بينهما, إن أخذ فبالعدل وإن عفى فبالفضل.
    وفي الدنيا لم نؤمر بالرهبانية، ولا يجوز أن نكون كجشع اليهود وطمعهم, وإنما أحلت لنا الطيبات, وأحلت لنا زينة الله التي أخرج لعباده, ونهينا عن الإسراف والتبذير.
    وحتى في الأحكام، وعندما استعرضنا الجواب الصحيح في أحكام الطهارة وقلنا: نحن لا نقص الثوب إذا وقع فيه نجاسة, وفي نفس الوقت لا يجوز أن نصلي وعلينا نجاسة، وإنما نغسله, حتى في القصاص في القتلى، نحن لا نقول: إما أن تعفو ولا شيء لك، وإما أن تقتص، بل وضع الله حلاً وسطاً وهو الدية, فيمكن للإنسان أن يأخذ الدية, فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعلنا بين الأمم وسطاً.
    وكذلك أهل السنة والجماعة هم على المنهج الوسط بين أهل الإسلام, فجمعوا من كل طائفة محاسنها وكل حسنة تنسب إلى أي طائفة من الطوائف فلـأهل السنة مثلها, وكل شر أو بلاء أو معاصٍ أو فساد يقع في أهل السنة؛ ففي غيرهم من الطوائف مثله وأكثر, وهذا فضل من الله ورحمة بهذه الطائفة المنصورة, فنسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحشرنا معهم، وأن يجعلنا منهم, وأن نكون من المجاهدين في سبيله الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم حتى يلقون الله عز وجل, والحمد لله رب العالمين.