المادة    
ثم قال المصنف رحمه الله: ''والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار'' ولهذا نختصر هذه الجملة بعبارة سهلة وهو أن نقول: إنهم متفقون في الحكم مختلفون في الاسم.
قال: فيوافقون الخوارج في حكم الآخرة، فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، أما الخوارج فمذهبهم معروف في هذا كما تقدم في حديث: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} أي: أن من زنى فهو كافر مخلد في النار لا يخرج منها أبداً, فجعلوا الزاني, والسارق, وشارب الخمر مرتداً على اختلاف وتفصيل في فرقهم ومذاهبهم.
أما المعتزلة فوافقوهم في الحكم، فقالوا: إنه مخلد في النار يوم القيامة وحكمه كحكم اليهودي, والنصراني, والمجوسي, والمشرك, سبحان الله! هل هذا من العدل؟! ولو تأمل أصحاب العقول السليمة لوجدوا أن مذهب أهل السنة هو المذهب المتفق مع النصوص من جهة, ومع الفطرة السليمة من جهة أخرى، وذلك أن من صلّى, وصام, وحج البيت الحرام, ولكنه زنى, أو شرب الخمر, لا يعامل معاملة اليهود والنصارى، فقد قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ))[الأعراف:156] ولكن إذا عميت البصيرة واتبع الإنسان هواه؛ فإنه يضرب بالنصوص عرض الحائط ولا يبالي, والمعتزلة تورعوا, ولكنه ورع بارد لا ينفع في شيء فقالوا: لا نقول إنه كافر ولا مؤمن؛ بخلاف الخوارج الذين قالوا: إنه كافر، بل حكمت المعتزلة عليه أنه فاسق، أي أنه ليس بمؤمن ولا كافر، لا على أساس الفسق الذي لا يعني الخروج من الملة، فلابد من إيضاح هذه العبارة على مصطلحهم، وتقول المعتزلة بأنه في منزلة بين المنزلتين ويزعمون أن الحسن البصري رحمه الله وافق مذهبهم وقال بقولهم، فـالحسن رحمه الله قال: [[كيف نقول: إنه مؤمن وقد ارتكب ما ارتكب؛ ولا نقول إنه كافر ولم يخرج من الدين؛ لكن أقول: إنه منافق؟ لأنه ادّعى الإيمان وتسمى باسمه, ولم يمتثل أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فوقع فيما حرم الله فترك ما أمر الله منه]] فـالحسن لم يقل هذا القول على أساس أن يخالف أمر أهل السنة والجماعة، أو يعطل مذهب أهل السنة، بل سئل سؤالاً فأجاب, وهكذا كثير من الناس, كما في قصة ذر بن عبد الله شيخ المرجئة لما قيل له أول عمره في هذا الأمر قال: (إنما هو أمر رأيته) وبعد زمن وإذا به يدعو الناس إليه، فنوظر بعد ذلك في قوله الذي قال فقال: ''والله الذي لا إله غيره إنه الدين الذي بعث الله به النبي نوحاً والنبيين من بعده'' سبحان الله! كيف الرأي أصبح الآن ديناً؟! ولهذا يحذر الإنسان أن يكون لديه شبهة فيأتي أحد يجادله فيصر عليها فيجعلها مبدأً وعقيدة, فيكتب هذا ويكتب هذا فتصبح مذاهب لهم, وكانت أول الأمر آراء مع أنه كان يمكن أن يرجع هذا ويرجع هذا وينتهي الموضوع ببساطة, لكن سبحان الله! النفوس إذا اشتعلت واشتدت وجاء الشيطان وجعل فيها الكبر والغطرسة، فإنها ترفع رأسها حتى ترى الرأي ديناً! نسأل الله العفو والعافية.
فهم قالوا: كيف يكون مؤمناً وهو يرتكب الفواحش، وكيف نقول: هو كافر وهو لم يخرج من الدين؟ إذاً نجعله بين هذه وتلك.
  1. الخلاف بين المعتزلة والخوارج في مرتكب الكبيرة

    ثم قال المصنف رحمه الله: ''والخلاف بينهم لفظي فقط'' كلمة الخلاف اللفظي هنا مهمة, لأنه سوف تأتي هذه اللفظة في باب الإيمان.
    اللفظ إما أن يكون مطلقاً وإما أن يكون باعتبار معين، فبالنسبة للخوارج والمعتزلة هو لفظي معين باعتبار الآخرة أو المآل، لكن في الدنيا هل الخوارج والمعتزلة يعاملون مرتكب الكبيرة معاملة واحدة؟ بمعنى لو أن إنساناً زنى عند خارجي وزنى آخر عند معتزلي, هل تكون المعاملة بينهما معاملة واحدة في الدنيا؟.
    الجواب: لا؛ لأن الخارجي يحكم بكفره ويقتله؛ أما المعتزلي فإنه لا يرى بالضرورة أن يقام عليه حد الردة؛ لأنه زنى أو شرب الخمر.
    صحيح أنه لا يسمى مؤمناً لكنه أيضاً لا يصل إلى درجة الكفر, وهذه العبارة المهمة تحدد لنا ما بعد؛ وهو أن النزاع لفظي في أحكام الآخرة، أو مآل الشخص، فالنزاع بينهم لفظي فقط في هذا.
    وكما أن المعتزلة والخوارج متفقون على أنه يخلد في النار, فإن أهل السنة متفقون على أنه يستحق الوعيد المترتب على ذلك الذنب، كما قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)) [النساء:10] هذا وعيد يستحقه من أكل مال اليتيم، وقد رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزناة وهم في تنور في النار فهم يستحقون هذا الوعيد.
    وكذلك وعيد القاتل -مثلاً-: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار} فيستحق القاتل هذا الوعيد.
    وكذلك قوله: {سباب المسلم فسوق وقتاله كفر} يستحق الساب الوعيد هنا أيضاً فـأهل السنة والجماعة لا ينفون استحقاق العاصي ومرتكب الكبيرة للعقوبة؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رتب في النصوص هذه العقوبة، فقال سبحانه: ((وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً)) [الفرقان:68-70] وقال سبحانه: ((لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ)) [النساء:123] إذاً هناك وعيد مستحق مترتب -كما ذكرنا- لا كما يقوله المرجئة من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب, ولا ينفع مع الكفر طاعة, وقد قلنا: إن مثل هذا قول غلاتهم، ولا يعرف أن معيناً منهم كتب هذا أو دعا إليه وإنما هو على سبيل الإلزام أحياناً، وعلى سبيل الجدل حيناً آخر وأكثرهم غلواً هو جهم وهو خارج من الملة! ومذهبهم خارج عن دين الإسلام بالكلية -نسأل الله العفو والعافية- والمهم أن هذه المقولة: لا يضر مع الإيمان ذنب, ولا ينفع مع الكفر طاعة لم يعرف أن أحداً منهم صرح بهذا اللفظ والتزمه, وقد ذكرنا أن الخوارج الغلاة ومنهم الأزارقة ثم النجدات ثم الإباضية فـالأزارقة لا يعلم لهم الآن كتاب نحاكمهم إليه؛ لكن أقرب مصدر فيه أخبار الأزارقة هو كتاب (الكامل) ومؤلفه المبرد النحوي وقد كان متهماً برأيهم ويميل إليهم وأسانيده عالية، وهو من أهم المصادر وأقدمها وقد أطال في ذكرهم.
    أما الإباضية فقد قامت عليها دولة فتطبع وتنشر لها, بل إن لها بعض المؤسسات في دول أخرى.