المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
[وأيضاً فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أبقى في العالم الآثار الدالة عَلَى ما فعله بأنبيائه والمؤمنين من الكرامة، وما فعله بمكذبيهم من العقوبة، كتواتر الطوفان، وإغراق فرعون وجنوده. ولما ذكر سبحانه قصص الأَنْبِيَاء نبياً بعد نبي في سورة الشعراء كقصة موسى وإبراهيم ونوح ومن بعده، يقول في آخر كل قصة: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)) [الشعراء:8، 9] وبالجملة: فالعلم بأنه كَانَ في الأرض من يقول: إنه رَسُول الله، وأن أقواماً اتبعوهم، وأن أقواماً خالفوهم، وأن الله نصر الرسل والمؤمنين، وجعل العاقبة لهم، وعاقب أعداءهم: هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها. ونقل أخبار هذه الأمور أظهر وأوضح من نقل أخبار من مضى من الأمم من ملوك الفرس وعلماء الطب: كـبقراط وجالينوس وبطليموس وأفلاطون وسقراط وأرسطو وأتباعه، ونحن اليوم إذا علمنا بالتواتر من أحوال الأَنْبِيَاء وأوليائهم وأعدائهم علمنا يقيناً أنهم كانوا صادقين عَلَى الحق من وجوه متعددة، منها: أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أُولَئِكَ وبقاء العاقبة لهم.
ومنها: ما أحدثه الله لهم من نصرهم وإهلاك عدوهم إذا عرف الوجه الذي حصل عليه: كغرق فرعون، وغرق قوم نوح وبقية أحوالهم عرف صدق الرسل، ومنها: أن من عرف ما جَاءَ به الرسل من الشرائع وتفاصيل أحوالها، تبين له أنهم أعلم الخلق، وأنه لا يحصل مثل ذلك من كذاب جاهل، وأن فيما جاؤوا به من الرحمة والمصلحة والهدى والخير ودلالة الخلق عَلَى ما ينفعهم ومنع ما يضرهم ما يبين أنه لا يصدر إلا عن راحم برٍ يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق. ولذكر دلائل نبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المعجزات وبسطها موضع آخر، وقد أفردها النَّاس بمصنفات كالبيهقي وغيره] اهـ.

الشرح:
وهنا دليل آخر من أدلة كثيرة عَلَى إثبات النبوة للأنبياء جميعاً، وإمكان العلم والمعرفة بها، وهذا الدليل هو ما أبقاه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من الآثار المكتوبة أو المحفوظة أو المحسوسة، للدلالة عَلَى صدق نبوة الأنبياء، فإن البشرية جمعاء والعالم أجمع يتناقلون هذه الآثار، فمثلاً الطوفان جَاءَ علماء الاجتماع أو المكتشفون الأوروبيون وذهبوا إِلَى أمريكا الجنوبية، وذهبوا إِلَى أفريقيا، وذهبوا إِلَى الهند، وإلى شرق آسيا، وإلى الأدغال والأحراش، ومناطق كثيرة لاكتشاف المجتمعات، كيف تعيش؟ وكيف تعتقد؟ وبماذا تدين؟
  1. العالم أجمع يتناقل آثار الأمم الماضية

    وجد هَؤُلاءِ المستكشفون أن جميع المجتمعات تعتقد أدياناً ولهم عباداتهم، ووجدوا أنهم يؤمنون بالطوفان، وبأنه قد عم الأرض، وسموها الخرافة المشتركة، أو الأسطورة المشتركة؛ لأن كل القبائل اشتركت واتفقت عليها، بينما لكل قبيلة أو مجتمع أساطير أخرى، فيقال لهم: كيف تكون أسطورة مشتركة، وأنتم تقرؤون ذلك في كتبكم، في التوراة، وفي الإنجيل، والْمُسْلِمُونَ يقرؤون ذلك في القرآن، وهو محفوظ معصوم، والنَّاس الذين كتبوا التاريخ المحفوظ المقروء يتناقلونه، وهذا تاريخ محفوظ متناقل في السطور مذكور فيه والآثار الحسية في الأرض تقول بذلك.
    فإذا كانت كل الشواهد والدلائل تدل عَلَى أمر من الأمور فهل يكون هذا دليلاً عَلَى أنه خرافة مشتركة؟ إنما تدل عَلَى أن هذا الأمر حقيقة مشتركة.
    فاشتراك النَّاس في ذلك دليل عَلَى إثبات هذه الحقيقة، وكل البشر في جميع المجتمعات يعتقدون أن أصل البشر من أم وأب واحد، ثُمَّ يقولون: إنه بعد الطوفان غرق من في الأرض إلا النبي ومن كَانَ معه، ثُمَّ تناسلت منهم البشرية، وهذا كلام لا يمكن أن يكون مجرد اختلاق.
    أما دلالتكم أنتم عَلَى أن هذه الشعوب أو هَؤُلاءِ النَّاس خرافيون، وإنكاركم لآدم، وإنكاركم لنوح، هذا هو الظن والاختلاف الذي ليس عليه أي دليل عَلَى الإطلاق.
  2. كتب التاريخ وتغيبها لقصص الأنبياء مع أقوامهم

    إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أبقى من الدلائل عَلَى الأَنْبِيَاء وما حصل لهم مع أممهم، ما يدل عَلَى صدقهم، ونحن نؤمن به، ونقرأه في التواريخ وفي الآثار، وهو أكثر ثبوتاً من إثبات أرسطو وأفلاطون في علم الاجتماع وغيرهم في غيرها من العلوم، ونحن نجد من يكتب في التاريخ أنهم عندما يبدأون بالكلام عن الطب فيبدؤون بالطب عند اليونان، ويتكلمون عن تاريخ الطب وعلماء الطب من اليونان وجالينوس وبقراط.
    وفي علم الجغرافيا والفلك يبدؤون أيضاً من الجغرافيا عند اليونان فيحدثونك عن بطليموس وأمثاله، وهكذا كأن بداية العلم البشري ظهر من اليونان.
    ولابأس عندنا بالتحديث عن تاريخ هذه العلوم، لكن لماذا يتحدثون عن هذا التاريخ، ثُمَّ ينتقلون منه إِلَى القرون الوسطى، ثُمَّ منه إِلَى العصر الحديث، ولا يأتي ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا ذكر الإسلام، ولا التاريخ الإسلامي إلا عرضاً؟! حتى في الجامعات الإسلامية تأتي هذه الأمور عرضية فهم يبدؤون بالكلام عن اليونان والرومان.
    ثُمَّ العصور الوسطى ويتحدثون قليلاً عن الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ العصر الحديث، ولا تجد ذكراً للأنبياء في علم التاريخ؛ بل تجد الحديث عن الفراعنة ويؤلف فيهم المجلدات الطويلة ولا يذكر كفرهم، وما بعث الله إليهم من الأنبياء، ويعتبرون ذلك خاصاً بكتب الدين، حتى ما حصل من إغراق الله تَعَالَى لفرعون، فإنهم يمرون عليه كأنه حدث من جملة الأحداث العادية، فيقولون: في عصر فلان الثاني من ملوك الفراعنة، حصل أنه أراد أن يقاتل بعض الناس، فاجتاحه الماء وغرق، وانتهى الأمر.
    وماذاك -والله أعلم- إلا لأنهم لما نقدوا كتبهم وأناجيلهم وجدوها مزيفة لايصدقها التاريخ، ومع ذلك ليست كلها زائفة بل فيها حق وفيها باطل؛ لكن هَؤُلاءِ الحاقدين من الملاحدة الأوروبيين أنكروها بجملتها، وَقَالُوا: التاريخ هو الحقيقة.
    وأما الأديان فلا عبرة بها ولا يؤخذ بكلامها، ولا يؤخذ بالكتب الدينية في تسجيل الأحداث التاريخية.
  3. وفي المسلمين من يأخذ عن الحاقدين لهذا الدين

    فجاء بعض الْمُسْلِمِينَ وأخذ نفس الفكرة، وأخذ نفس الرأي فتراه يتحدث عن الفراعنة ولا يذكر موسى عَلَيْهِ السَّلام ولا ما حصل له، ويتحدث عن الأشوريين والكلدانيين، ولا يتحدثون عن رسالة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام ولا عن موقفه منهم، وهكذا. فكأن الأَنْبِيَاء ليسوا موجودين من التاريخ، لماذا؟
    لأن كتب التاريخ التي كتبها المُشْرِكُونَ والكفار من الأمم الماضية لم يذكروا فيها الأنبياء، وعليه فهم لا يذكرونها، بينما ذكرها الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه.

    الشاهد مما سبق: أن خبر إغراق فرعون معلوم لدى الناس، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد ترك من آثار الفراعنة شواهد دالة عَلَى أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد عذبهم وأهلكهم، وكذلك كثير من الأنبياء.
    كما نشاهد في مدائن صالح عَلَيْهِ السَّلام، فقد ترك الله عز وجل هذه الآيات الواضحة ليرى النَّاس أن نبياً قد بعث، وأن قومه قد كَفَرُوا به، فأهلكهم الله عز وجل، وهذه جبالهم التي كانوا ينحتونها ويتخذون منها القصور والبيوت لا تزال شاهدة ((فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) [النمل:52].
  4. مواقع الأمم الماضية آثار أم دمار ؟!

    إن بقايا وآثار مساكن الكافرين متواترة ومشهورة عند الناس، لا يغفل عنها إلا أصحاب القلوب المعرضة، فالذين يذهبون في رحلة، وفي نزهة، ويصورون تلك الجبال، وبعضهم يضخمها صورة كبيرة، ويعلقها في البيت، سُبْحانَ اللَّه العظيم!
    هذا عذاب أمة عظيمة، أهلكها الله بالمعاصي أتعلق صورها للزينة!! والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نهى أن نمر بها إلا مستعبرين، أي: باكين.
    ونهى عن الإقامة فيها كما هو ثابت في قصة غزوة تبوك، ولكن القلوب الغافلة أبت إلا أن تتخذها منتزهات وملاهي، ولذلك نبه المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الشعراء بعد أن يذكر كل أمة من الأمم، وماذا جرى لها يقول :((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ))[الشعراء:8-9].
    ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في آخر سورة يوسف لما قص قصة يوسف: ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ))[يوسف:111] وأولوا الألباب هم فقط الذين يعتبرون عندما يرون أمثال هذه الأحداث.

    فترك الله عَزَّ وَجَلَّ شواهد حسية مرئية، وشواهد منقولة بالتواتر تاريخياً، مكتوبة أو محفوظة تدل عَلَى أن له أنبياء، وأن هَؤُلاءِ الأَنْبِيَاء قد بعثوا إِلَى أقوامهم فمن آمن منهم نجى، ومن كفر من أقوامهم فإنه يهلك بأنواع من الهلاك ما تزال بعضها شاهدة شاخصة يراها أولوا الألباب، ويقر بها أولوا الأبصار.
    فهذه أيضاً من الدلائل التي يغفل المتكلمون والفلاسفة وأمثالهم عن الاستشهاد بها عَلَى صدق النبوة.
  5. هوس فلاسفة اليونان

    ومن الأمثلة العجيبة أنه لما جَاءَ فلاسفة اليونان وقد بلغهم أن بيتاً في بلاد العرب -وهو الكعبة- يؤمه النَّاس من جميع الأقطاب؛ لأن هذا البيت من أعظم الآثار الواضحة عَلَى النبوة -كما هو معلوم- من عهد آدم عَلَيْهِ السَّلام، ثُمَّ نوح عَلَيْهِ السَّلام، ثُمَّ إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام الذي جدد بناءه، ثُمَّ بقي بناؤه من إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام إِلَى اليوم.
    وهذا أيضاً مما يدل عَلَى النبوة، فتنجذب إليه قلوب البشر من أنحاء أفريقيا، ومن آسيا، ومن كل أقطار العالم، فأخذ الفلاسفة يفكرون عندما حاروا في أمر هذا البيت، فظلوا يفكرون لانجذاب القلوب نحو هذا البيت يتفق مع ما يقولون به من أنه لا نبوة، ولا دين، ولا شيء من هذا قالوا: إذاً حجر المغناطيس موضوع تحت الكعبة؛ فلذلك ينجذب إليه الناس!!
    ((وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)) [الحجر:14-15]
    فيقال لهم: ومن وضع هذا الحجر؟!
    فإن كَانَ من عند الله فلماذا لم يضعه إلا في هذا المكان؟!
    وإن كَانَ الذي وضعه بشر فلماذا وضعه في بلاد العرب؟!
    ومن هذا البشر الذي وضعه؟!
    ولماذا لم يضعه في الأرض الخصبة، والأراضي المتحضرة؟!
    إن ما يقولونه لا يمكن أن يقبله العقل.

    فالقصد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ترك من الأدلة الواضحة الجلية عَلَى إثبات نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأنبياء جميعاً ما يقطع لكل ذي لب بأن النَّاس منذ عهد آدم ومنذ أن وقع الشرك، ثُمَّ صار النَّاس فريقين: مؤمنين وكافرين.
    وإن أصل إيمان المؤمنين هو: الإيمان بالنبوات؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يبعث إليهم الرسل تتراً، أي: متتابعين، فيأتيهم النبي ويبلغهم رسالات ربهم، ويذكرهم بالله ويدعوهم إِلَى ما فيه صلاحهم.

    فلهذا يقول المؤلف رحمه الله تعالى: نَحْنُ اليوم نعلم بالتواتر من أحوال الأَنْبِيَاء وأوليائهم وكذلك من حال أعدائهم ما يدل قطعاً وصدقاً عَلَى نبوتهم، غير الأدلة التي يحصرنا فيها أُولَئِكَ الناس، فَيَقُولُ: ومن ذلك أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم، وبقاء العاقبة لهم وخذلان أعدائهم، فمنذ أن يُبعث النبي وهو موقن بالانتصار، كما هو حال نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد كَانَ ورقة بن نوفل موقن بأنه نبي، ويقول: {ليتني أكون فيها جذعاً، إذ يخرجك قومك} علم أن قومه سيخرجونه؛ لكنه هو الذي سينتصر في النهاية، وقد قالها هرقل: {الأَنْبِيَاء يُغلبون ابتلاءً من الله، ولكن تكون العاقبة لهم} وهكذا أخبرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن العاقبة كانت للأنبياء الذين من قبله، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أهلك الأمم التي كذبتهم وكفرت بهم جميعاً،كما في أحداث فرعون وقومه، ونوح وقومه وأمثالهم.