المادة    
يقول: ''اعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بيَّن في آيات كثيرة صفات من يستحق أن يكون الحكم له، ويؤخذ منه التشريع، ويؤخذ منه التحليل والتحريم، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة التي سنوضحها الآن -إن شاء الله- ويقابلها مع صفات البشر المشرِّعين للقوانين الوضعية، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع، سبحان الله وتعالى عن ذلك، فإن كانت تنطبق عليهم -ولن يكون- فليتبع تشريعهم، وإن ظهر يقيناً أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية'' يبين الشيخ: أننا إن وجدنا أن صفات من له التشريع سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تنطبق عليهم -ولن يكون ذلك- فلنتبع تشريعهم، وإلا فلا نتخذهم طواغيت ونتبع ما يشرعون من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: ''وتعالى الله أن يكون له شريك في عبادته أو حكمه أو ملكه'' جعل الثلاثة -العبادة والملك والحكم- كما جاء في القرآن في مواضع كثيرة خاصة به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يجوز أن يشرك به في عبادته ولا في حكمه ولا في ملكه.
  1. الصفة الأولى

    يقول: ''فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع قوله: ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ))[الشورى:10] ثم قال مبيناً صفات من له الحكم: ((ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ))[الشورى:10]'' .
    فقوله تعالى: ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ))[الشورى:10] بيَّن بعده صفات هذا الإله الذي لا يستحق غيره أن يرجع إليه وإذا وقع النزاع أن يتحاكم إليه؛ لأنه لا يوجد فيه هذه الصفات، فهي صفات خاصة بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ''((ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))[الشورى:11-12]'' .
    يقول الشيخ رحمه الله بعدما أورد هذه الآيات: ''فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوَّض إليه الأمور، ويتوكل عليه.
    وهذه من قوله تعالى: ((ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ))[الشورى:10]''.
  2. الصفة الثانية

    ثم قال: ''وأنه فاطر السماوات والأرض أي خالقها ومخترعها على غير مثال سابق'' .
  3. الصفة الثالثة

    ثم قال: ''وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجاً'' وهذه من قوله تعالى: ((جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً)) [الشورى:11].
    وهذه من صفات الله التي بها ومن أجلها يستحق وحده أن يتحاكم إليه، فإنه لا يمكن لأحد أن يخلق شيئاً ولو ذباباً ولو اجتمعوا له، ومع ذلك فإن الله جعل في هذا الخلق آية عظيمة وهي أنه جعل من كل شيء زوجين، فجعل الزوجية هي قاعدة عامة في الحياة، سواء منها الحياة الإنسانية أو غيرها، ولذلك من أعظم وأهم التشريعات التي أنزل الله تعالى ومن أولها ما يتعلق بالأسرة، وما يتعلق بالعلاقة بين الزوجين وبين الأبناء، وهذا هو أهم جانب من جوانب التشريع.
    ولذلك تجد أن الناس اليوم في العالم الإسلامي رغم أنهم أخذوا القوانين الوضعية في شئون الاقتصاد والمال، وفي الشئون السياسية والتعليمية وفي أمور كثيرة، يظل هذا الجانب معترفاً به إلى حدٍ ما، لأنه إذا فُقد لم يبق للإنسان معنى أنه مسلم أبداً، وهو ما يسمونه هم في القوانين الوضعية: الأحوال الشخصية.
    فيقول تعالى في ذلك: ((جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))[الشورى:11] يقول الشيخ رحمه الله: ''وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة في قوله تعالى: ((ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ))[الأنعام:143]'' فهو سبحانه المستحق وحده للعبادة، والمستحق وحده لأن يؤخذ منه التشريع.
  4. الصفة الرابعة والخامسة

    قال: ''وأنه ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))[الشورى:11] '' فهل يمكن أن يقال في أي مشرع كائناً من كان: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))[الشورى:11]؟
    جل الله سبحانه وتعالى: ((وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))[الشورى:11] وهاتان الصفتان من أعظم ومن أخص صفات الله تعالى، فهو الذي يحكم ويشرع ويحلل ويحرم؛ لأنه السميع الذي أحاط سمعه بكل المسموعات، والبصير الذي أحاط بصره بكل شيء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
  5. الصفة السادسة

    قال: ''وأنه: له مقاليد السماوات والأرض'' الحكم والتشريع إنما يكون من الحاكم عادة، أو ينفذه الحاكم، حتى إن اقترح فهو من شأن الحاكم فمن الذي له مقاليد السماوات والأرض؟! الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    وهل يمكن لأحد أن ينازع في هذا أو يدعي أنه له مقاليد السماوات والأرض؟
    فهذا لا يمكن أبداً، بل الناس في هذا العصر الذي يسمونه عصر العلم وتسخير العلم للطبيعة وللكون -كما يسمونها- هم أكثر معرفة بكثير جداً ممن كان قبلهم بعظمة هذا الكون وسعته، ولا يرون ولا يعلمون منه إلا ما دون السماء الدنيا، بل جزءاً من ذلك، ومع ذلك فلا يمكن لأحد أن يقول: لي مقاليد السماوات والأرض.
    أو أن يقول: أنا ربكم الأعلى، الكلمة التي قالها فرعون وهو في منتهى غروره، ليخدع بها أولئك السذج البلهاء الذين لا يفقهون ولا يعقلون: ((إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً))[الفرقان:44] فهل يستطيع أحد أن يدعي ذلك، أو أن عاقلاً يفكر ويزعم أن أحداً له مقاليد السماوات والأرض فهذا؟
    لا يمكن أن يحدث.
    فالذي يتحاكم إليه هو من له مقاليد السماوات والأرض.
  6. الصفة السابعة

    يقول: ''وأنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، أي: يضيقه على من يشاء'' وهنا نلحظ أن كثيراً من المناهج الوضعية والقوانين تتعلق بالنواحي المالية والأرزاق، كالاشتراكيين الذين ادعوا أنهم أصحاب العدالة، وكادوا أن يسيطروا على الدنيا، فهؤلاء إنما بنوا نظريتهم على أساس العدالة في التوزيع كما يزعمون.
    والآخرون الرأسماليون الذين يحتكرون العالم ويمتصون خيراته وثرواته، ويبنون نظريتهم على أساس حرية التجارة، وحرية الربح، وحرية العمل، وحرية الكسب إلى آخر ذلك، فهؤلاء وهؤلاء يجعلون أساس نظمهم الوضعية وقوانينهم البشرية هو المال أو الرزق، وذلك بيده وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو إذاً الذي يجب أن يتحاكم إليه وحده ولا يشرك به في ذلك.
    ثم يقول الشيخ بعد قوله تعالى: ((وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))[البقرة:29] يقول الشيخ رحمه الله: ''فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم ولا تقبلوا تشريعاً من كافرٍ خسيس حقير جاهل''.
  7. الصفة الثامنة

    يقول: ''ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: ((لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً))[الكهف: 26] '' فلا يمكن لأحدٍ أن يدعي ذلك، لأن النفوس حجبت عنه، ولهذا سمي غيباً: ((وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً))[لقمان:34] فأي نفس كائنة من كانت لا تدري ماذا سيحدث لها ولو كان هذا الأمر بعد ساعة أو بعد حين، كما قال الشاعر:
    وأعلم ما في اليوم والأمس قبله            لكنني عن علم ما في غدٍ عمي
    فانظر إلى هذه النقطة العظيمة: أو ليست القوانين قواعد أو أحكام توضع ليسير عليها الناس، فالذي وضعها لا يدري ماذا سيقع؟
    وكيف ستكون الأمور؟
    فكيف يوكل إليه أن يشرع؟!
    ولهذا تجد الذين يشرعون ويضعون القوانين من دون الله يضعون من التخبطات والانحرافات والظلم والحيف الشيء الكثير.
    ثم يأتي بعد ذلك زمن وإذا بذلك القانون لا يفي بالحاجة ولا يكفي للمطلوب، ثم تكلف لجان أخرى أو مشرعين آخرين أو برلمان آخر بحسب الدول المختلفة، ويبدءون من جديد، ويقولون: هذا لم يعد يصلح الآن، ولم يعد يتناسب مع هذا التوسع، ويضعون قانوناً جديداً، ويبدءون في تطبيقه، ثم سرعان ما ينخرم ذلك ويبلى، وتجد بعض القوانين الوضعية في المادة أو المادتين في القانون تأتيها من التعقيبات ومن الاستثناءات حتى تصبح ملفاً ضخماً، وكل ذلك لأنهم بشر لا يعلمون الغيب، والله تعالى يقول: ((لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ))[الكهف:26] فهذا صفات من لا يشرك معه في حكمه، بل هو وحده له الحكم.
    ويتكلم الشيخ عن هذه الآية: ((لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً))[الكهف:26] فيقول: ''فهل في الكفرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض، وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات وبصره بكل المبصرات؟''.
    وقوله تعالى: (( مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ))[الكهف:26] أي: وهو رب كل شيء وولي كل شيء، فكيف يكون لغيره أن يشرع وأن يحلل ويحرم، ثم قال في قوله تعالى: (( وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً )) [الكهف:26]: ''فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته'' والمقصود بالعبادة هنا الصلاة والصيام وما أشبه ذلك.
    ومعنى ذلك أن من اتبع شرعاً غير شرع الله فهو كمن صلى وسجد وصام وحج لغير الله، فالإشراك به في هذا، كالإشراك به في هذا، يوضحه بجلاء قوله تعالى عن أهل الكتاب: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ))[التوبة:31] كما صح في تفسيرها، وهو أنهم لم يكونوا يسجدون أو يركعون لهم، ولكنهم اتبعوهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال، ويقول الشيخ أيضاً عند قوله تعالى: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً))[الكهف:26]: ''وفي قراءة ابن عامر من السبعة: ((وَلا تُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً))[الكهف:26] بصيغة النهي، وقال في الإشراك به في عبادته: ((فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً))[الكهف:110] فالأمران سواء'' والآيتان في سورة واحدة، يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ))[الكهف:26] ثم قال: ((وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً))[الكهف:110] ''.
    فالموضوع واحد، والحكم واحد، والشأن واحد، فلا يشرك بالله لا في تشريعه، ولا في أمره ونهيه، ولا في عبادته والتقرب إليه والتمسك بأمره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
  8. الصفة التاسعة

    يقول الشيخ رحمه الله: ''ومن الآيات الدالة على ذلك -أي: من الآيات الدالة على أنه لا يجوز لأحدٍ أبداً أن يتبع شرعاً غير شرع الله، وأن الله تعالى هو وحده المستحق لأن يؤخذ منه التشريع- قوله تعالى: ((وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ))[القصص:88].
    قال: فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد، وأن كل شيء هالك إلا وجهه؟!'' الذي له البقاء ودوام الحياة لكمال حياته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ))[الرحمن:26] فكل هؤلاء هالكون ميتون، فكيف يوكل التشريع إلى أموات وإلى هالكين!
    قال: ''وأن الخلائق يرجعون إليه'' وهذا من قوله تعالى: ((وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ))[القصص:88] فلا رجوع إلا إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قال: ''تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف أخس خلقه بصفاته''.
  9. الصفة العاشرة

    ثم قال: ''ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: ((ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ))[غافر:12] فهل في الكفرة الفجرة المشرعين النظم الشيطانية من يستحق أن يوصف في أعظم كتاب سماوي بأنه العلي الكبير؟!'' ((فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ))[غافر:12].
    أي: العلي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علو الذات، وعلو القهر، وعلو العظمة، وعلو القدر والمكانة وكل ما يليق بجلاله، ولا يشاركه أحد في هذه أبداً، وهو الكبير سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فمن يشاركه في ذلك؟!
    يقول الشيخ: ''سبحانك ربنا وتعاليت عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك''.
  10. الصفة الحادية عشر

    ثم قال رحمه الله: ''ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) [القصص:70-73].
    فهل في مشرعي القوانين الوضعية من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الأولى والآخرة؟!'' وهذا من الحكم العجيبة، فإن هذا الليل وهذا النهار لا يملك أحدٌ كائناً من كان أن يدبره إلا الله تعالى، وكل الخلائق يستفيدون من هذه النعم العظيمة، والله تعالى هو الذي يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، وهو الذي سخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى، وهو الذي يعبد وحده، ويتبع شرعه وحده، ويطاع أمره وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما عداه فلا يستحق شيئاً من ذلك أبداً.
  11. الصفة الثانية عشر

    ثم قال: ''ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ))[يوسف:40] فهل في أولئك من يستحق أن يوصف بأنه هو الإله المعبود وحده، وأن عبادته وحده هي الدين القيم؟!
    سبحان الله وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً'' .
    فالحكم بما أنزل الله، واتباع دين الله تعالى هو من عبادة الله تعالى، فمن فرق وقال: نعبد الله بالصلاة والصوم والزكاة ونجعلها لله، وأما الحكم فهو لغير الله من قال ذلك كائناً من كان من الآراء أو المذاهب أو النظريات أو المشرعين، فقد فصل بين هذين وأشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما فعل المشركون من قبل عندما جعلوا لله نصيباً مما ذرأ من الحرث والأنعام وجعلوا لغير الله نصيباً، فهذا هو الشرك بعينه، وهذا هو الذي نهى الله عنه وقال: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))[النساء:116] (( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ))[يوسف:40] هذا هو الدين القيم، وما عدا ذلك فهو تلبيسات، ودين ممزوج فيه الشرك والنفاق والبدع والضلال وإن ظن صاحبه أنه على شيء.
  12. الصفة الثالثة عشر

    قال: ''ومنها -أي من الآيات الدالة على صفات من يستحق أن يعبد ويتبع في التشريع وفي التحليل وفي التحريم وهو الله وحده- قوله تعالى: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ))[يوسف:67] فهل فيهم من يستحق أن يتوكل عليه وتفوض الأمور إليه!'' وهذا لا يوجد في أحد منهم.
  13. الصفة الرابعة عشر

    قال: ''ومنها قوله تعالى: ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))[المائدة:49-50] فهل في أولئك المشرعين من يستحق أن يوصف بأن حكمه بما أنزل الله وأنه مخالف لاتباع الهوى؟!'' هذا لا يمكن؛ لأن المشرِّع أو القانوني أو المنظر إنما يضع أو يكتب أو يقرر من خلال ثقافته وفكره، وما يرى أنه صواب، فهو متبع لهواه بلا ريب، لأن كل ما خالف شرع الله ودين الله تعالى فهو هوى.
    فجعل الله تعالى شيئين متقابلين إما ما أنزل الله، وإما أهواء الذين لا يعلمون، فمهما كانوا في العلم الدنيوي فإنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، ومهما ادعوا أنهم بلغوا من المعرفة فهم لا يعلمون؛ لأن هذا حكم الله عليهم، ولذلك نجد أن سائر من اشتغل بهذه العلوم يعلمون أن الإنسان إذا اجتهد وتخصص وبحث في الأمور التجريبية، أو الطبيعية، أو الرياضية، أو ما أشبه ذلك.. أنه يأتي بشيء نافع ولو في دنياه، ويكون ذلك من العلم الظاهر في الحياة الدنيا، ولكن تجد أن الفرق كبير جداً بين النظريات العلمية كما تسمى في عصرنا الحاضر بالتجريبي والتطبيقي، وبين الدراسات والنظريات التي يسمونها الإنسانية، التي تتعلق بعلم النفس، وعلم الاجتماع، والإدارة والنظم، والقوانين أو ما أشبه ذلك، تجد الفرق بين هذين كبيراً جداً، وتجد أنها أهواء كما ذكر الله تبارك وتعالى.
    والدراسات النفسية والاجتماعية مأخوذة ومركبة على أهواء كثيرة، وأراء متناقضة مختلفة، فلا يجد الباحث شيئاً يستطيع أن يجزم بأنه حق، قال: ''وأن من تولى أصابه الله ببعض ذنوبه'' أي: شرع غير شرع الله ثم تولى عما شرع الله، أصابه الله ببعض ذنوبه: ((فَإِنْ تَوَلَّوْا))[آل عمران:32] أي: عن اتباع ما تحكم به من الحق، وما أنزلنا من الكتاب والشرع: (( فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ))[المائدة:49].
    وكل أمة وكل فرد وكل مجتمع لم يحكم بما أنزل الله فلا بد أن يصيبه الله ببعض ذنوبه، يقول: ''لأن الذنوب لا يؤاخذ بجميعها إلا في الآخرة'' فالمؤاخذة بجميع الذنوب لا تكون إلا في الآخرة، لكن في الدنيا يؤاخذ ببعض ما كسبوا ويعفوا عن كثير، مع أنه لا يصيبهم إلا بما كسبت أيديهم، لكنه يعفو ويصفح ويتجاوز ويمهل حتى إذا ظن الظالمون أن ذلك منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إهمال أو نسيان، أخذهم بغتة فإذا هم مبلسون.
    قال: ''وهل هناك أيضاً من يوصف أنه لا حكم أحسن من حكمه لقوم يؤمنون؟!''.
    وفي قوله: ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ))[المائدة:50] نجد أن الأحكام على نوعين فقط لا ثالث لهما: إما حكم الله الذي أنزله في كتابه أو جاء به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أخذ منه، وهذا كله يشمله حكم الله، أو حكم الجاهلية، سواء كان تشريعات بدائية أو أعراف البادية، أو سلوم القبائل، أو كانت نظم ودراسات متطورة حديثة في أرقى المجتمعات حضارة، فكلها يطلق عليها اسم واحد، وهي أنها حكم الجاهلية، ولا فرق بينها.
    ولذلك يلبس أحياناً على العقول بأن حكم الجاهلية هو الذي كان في الجاهلية الأولى قبل الإسلام فقط، لكن الذي يأتي من دول الغرب والباحثين والدارسين ومن الفقهاء -فقهائهم- لا يسمى جاهلية!! بل هذه دراسات علمية أو نظريات علمية!!! إلى أن يقول: ''((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ))[الأنعام:57] فهل فيهم من يستحق بأن يوصف بأنه يقص الحق، وأنه خير الفاصلين؟!'' ويفصل في الأمور كلها!
  14. الصفة الخامسة عشر

    قال: ''ومنها قوله تعالى: ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً))[الأنعام:114-115] الآية.
    فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي أنزل هذا الكتاب مفصلاً، والذي يشهد أهل الكتاب أنه منـزل من ربك بالحق، وبأنه تمت كلماته صدقاً وعدلاً، أي: صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام، وأنه لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم؟!
    سبحان ربنا ما أعظمه وما أجل شأنه!'' وتأمل قوله: (( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً ))[الأنعام:114] فهي مثل قوله تعالى: ((قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً))[الأعراف:140] وقال: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ))[الكهف:26] ((وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ))[الكهف:110] فجعل العبادة والحكم سواء، وهنا جعل اتخاذ غير الله رباً أو اتخاذ غير الله حكماً سواء.
    إذاً: هو وحده له الحكم، وهو وحده له العبادة، والشرك في هذه كالشرك في تلك.
  15. الصفة السادسة عشر

    قال: ''ومنها قوله تعالى: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ))[يونس:59] فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي ينزل الرزق للخلائق، وأنه لا يمكن أن يكون تحليل ولا تحريم إلا بإذنه؟!
    لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم'' فقوله تعالى: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً))[يونس:59] وهذا من أقدم أنواع التشريع الذي عرفه الناس، وهو أن العالم بما فطروا عليه من التعبد لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما أشركوا به غيره وأرادوا أن يتقربوا إليه، أخذوا ينذرون لغير الله، ويجعلون شيئاً مما أعطوا من الرزق لغير الله، وحرموا بعضاً وأحلوا بعضاً، فاتبعوا في ذلك شركاءهم، وقد سماهم الله شركاء: ((وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ))[الأنعام:137] وقال في آية أخرى: ((وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ))[الأنعام:121].
    ومن أنواع الإشراك بالله في التحليل والتحريم أنهم جعلوا البحيرة وغيرها من الأنعام محرم أكلها أو ركوبها كما قال الله عنهم: ((وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ))[الأنعام:138] وجعلوا تشريعات من عند أنفسهم، وهي تشريعات البدائيين كما يسميها الآن العصريون، فأول ما عرف أنهم جعلوا هذا حلال وهذا حرام، ثم تطورت بهم الأحوال فيما بعد حتى حرموا بعض ما رزقهم الله تعالى، مما أحل من فضله عز وجل.
    والخلاصة من المقدمة الأولى: أن الحكم بما أنزل الله أصل من أصول الدين وجزء من توحيد الله، ومن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
    وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى وآله وصحبه أجمعين.