المادة كاملة    
في هذا الدرس دحض لما يقوله أهل الكلام في (باب النبوات) -من أنه لا دليل على صحة النبوة إلا المعجزة فقط- بالأدلة القطعية، مع بيان أن دلالة نبوته صلى الله عليه وسلم ظاهرة ومنشورة إلى قيام الساعة، يفهمها الجاهل الأمي كما يفهمها العالم. ثم توضيح لقضية أن النبوة شأنها عظيم لا يدعيها إلا أحد رجلين: إما أصدق الصادقين، وإما أكذب الكاذبين، وحال الاثنين لا يلتبس على من عنده أدنى مسكة عقل، مع ذكر وقائع وأحداث تدل على أن دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم أوضح من الشمس في رابعة النهار عند من بعث فيهم، وهو أبعد من أن يكون شاعراً أو كاهناً؛ فشتان بين ما يأتي به الشعراء والكهان وما يأتي به الأنبياء.
  1. دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم متعددة ومتنوعة

     المرفق    
    يقول أهل الكلام: إنه لا دليل عَلَى صحة النبوة إلا المعجزة.
    والمعجزة عند أهل الكلام هي: الأمر الخارق للعادة الذي يجريه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى يد مدعي النبوة إثباتاً لصدقه لا غير.
    وماذكره أهل الكلام فهو من تضييق الواسع، وهذا الدليل ليس هو كل الأدلة، بل هو جزء من كل، وقطرة من بحر، وفي دلائل النبوة ما يدل ويقطع لكل ذي لب أنه رَسُول الله، وإن لم يبلغه من ذلك إلا البعض.
    1. دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم لم تمت بموته

      فدلائل نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظاهرة، وأعلامها منشورة إِلَى قيام الساعة، لم تمت بموته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا بموت أصحابه، وإنما هي باقية مخلدة، وكل إنسان مؤاخذ ومخاطب بما جَاءَ من عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وما من أحد يسمع به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الأرض ثُمَّ لم يؤمن به إلا كَانَ من أهل النار، وذلك لظهور الحجة واستبانة المحجة، وهذا من فضل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ورحمته بالعالمين.
    2. دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم يعرفها العالم والجاهل

      إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لما أرسل هذا الرَّسُول للناس كافة جعل آياته عامة لهم إِلَى قيام الساعة، وعامة للعالم منهم والجاهل، فالجاهل الأمي البدوي أو الفلاح القروي يجد في دلائل نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشيء الكثير ويفهمها ويستوعبها ويُقرُّ بِها.
    3. دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم أبهرت علماء الدنيا

      والعالم المتبحر - في أي علم - يجد فيها ما يبهره؛ فالمؤرخ يجد فيما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أخبار التاريخ ما يذهل العقول ويحير الألباب، دون أن يكون هناك أي مصدر آخر لهذا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ))[العنكبوت:48]، ومع ذلك يأتي بالآيات والأخبار عن الأمم الماضية التي لم يعرف المؤرخون كثيراً منها.
      وعالم الفلك يقرأ فيما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العجائب ما لم يكن الفلك ولا علماؤه يعرفونه في ذلك الزمن، وربما فيما يستقبل من الزمان. وعالم الطب يجد فيما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شفاء الأبدان، ومعالجة الأمراض ما تعجز عنه عقول البشر الذين تخصصوا في الطب وأفنوا أعمارهم فيه، وهكذا كل علم من العلوم حتى في علوم الرياضيات فإن ما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا المجال في ذلك العصر، يُعجب منه، وأعظم من ذلك ما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طرق ووسائل لإصلاح النفوس وتربيتها وتهذيبها.
    4. نجاح تربية النبي صلى الله عليه وسلم للأمة وفشل علماء الأخلاق في تربية الفرد

      فإن علماء الأخلاق والحكماء والآباء والمربين يعجزون أن يربوا فرداً واحداً تربية متكاملة، وأما هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد ربى أمة عظيمة، كانت أعظم الأمم جهلاً وأكثرها انحطاطاً في الحضارة، ثُمَّ أصبحت خير الأمم، وأصلحها، وأعدلها وأقومها بتمسكها بهديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما تزال إِلَى اليوم هي الأمة الوحيدة التي يمكن أن تحقق في العالم العدل والسلام والحق الذي ليس وراءه حق، فالمعجزات كثيرة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والدلائل عَلَى نبوته عظيمة.
    5. في كل صحابي آية تدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم

      في كل صحابي آية تدل عَلَى صدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
      ففي كل واحد ممن أسلم من الصحابة آية، وفي كل فتح فتحوه، وفي كل حق وخير وعدل وسلام نشروه في الأرض آية تدل عَلَى أنه نبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن هذا الدين ما كَانَ ليفترى من عنده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا من عند أحد، وإنما هو تنزيل من عند الله العزيز الحكيم، الذي اصطفى هذا النبي وفضله عَلَى سائر العالمين، واختاره ليكون نذيراً وبشيراً للعالمين، وأنزل عليه هذا النور دون غيره من البشر.
  2. عظم النبوة

     المرفق    
    قول المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [فإن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين، أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا عَلَى أجهل الجاهلين، بل قرائن أحوالها تعرب عنهما، وتعرَّف بهما، والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة، فيما دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة؟ وما أحسن ماقال حسان رضي الله عنه:
    لو لم يكن فيه آيات مبينة            كانت بديهته تأتيك بالخبر].

    الشرح:
    من أعظم الأدلة التي ينبغي أن يعيها كل إنسان منا، وأن يقيس بها بقية الأمور: أن النبوة ليست أمراً هيناً، وليست أمراً عادياً يمكن أن يدعيه كل أحد، وأن يكذبه فيه أي أحد.
    إن مسألة النبوة شأنها عظيم جداً، فلن يدعيها إلا أحد اثنين: إما أصدق الصادقين، وإما أكذب الكاذبين، فلا واسطة بينهما بإطلاق.
    وأي حرفة أو مهنة أو صنعة من الصناعات قد يدعيها من يتقن بعضها أو جزءً منها، وقد يصدقه البعض، وقد يكذبه البعض الآخر دون أن يؤثر ذلك كثيراً، إلا النبوة فإن مدعيها: إما أن يكون صادقاً حقاً، ويلزم من ذلك اتباعه في أوامر عظيمة، وأن الذي يأتي به هو الحق، وإما أن يكون كذاباً حقاً، فيلزم من ذلك أن يكون كل ما يأتي به ضلالاً ومحقاً واعوجاجاً وانحرافاً، ولا يخلو الأمر من أحد هذين التقديرين أبداً.
    1. للنبوة قرائن وأحوال تعرف بها

      ثُمَّ ذكر المُصنِّف أنه لا يلتبس أصدق الصادقين، من أكذب الكاذبين حتى عَلَى الجاهل الأمي، فإنه يستطيع أن يميز بقرائن الأحوال، وهنا مبحث يسمى مبحث حصول العلم، متى يكون العلم نظرياً؟ومتى يكون قطعياً؟ وهو يبحث في علم الأصول، ويبحث في كتب العقائد. والعلم القطعي هو الذي تجد في نفسك قطعاً أنك مصدق به بأي دليل من الأدلة، أما العلم النظري فهو العلم الذي يحتاج إِلَى استدلال وتفكير..
    2. النبوة علم ضروري وبيان خطأ المتكلمين في ذلك

      والمتكلمون يقولون: إن النبوة علم ضروري، فالعلم بنبوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العلم الضروري، والخطأ الذي يقعون فيه أنهم يحصرون العلم الضروري بمصادر محدودة، وينسون أن له مصادر ومجالات أعظم مما يحدونه به.
      ومن ذلك مثلاً: ما يقال في علم الكلام أو في كتب العقائد: أن من أهم السبل لحصول العلم الضروري القطعي طريق التواتر، فإذا أصبحت المسألة متواترة، لم تعد تحتاج إِلَى عرضها عَلَى العقل، ولا إِلَى النظر والتفكير، أو أنها صحيحة موجودة أم لا؟
      وأصبح يُتكلم عنها كأنها حقيقة ترى بأم العين، هذا هو العلم القطعي الذي كَانَ سببه التواتر،والتواتر: هو أن جماعة كثيرين من النَّاس يستحيل في العادة أن يتواطئوا ويتفقوا عَلَى الكذب، فينقلون هذا الشيء ويتحدثون عنه.
      والناظر إِلَى دلائل نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى آياته يجد أن كل آية منها حصلت عن طريق التواتر إلا القليل، مثل القُرْآن المنقول إلينا عن طريق آلاف الأسانيد والأمة كلها مجمعة عليه.
    3. العلم القطعي يحصل أيضاً بطريقة القرائن

      هناك شيء أعظم من الطريق الذي قاله المتكلمون وهو حصول العلم القطعي عن طريق القرائن التي قد تأتي عن خبر الواحد، أو حتى بدون خبر فتدل عَلَى القطع وعلى الضرورة.
      ومثاله: لو أنك مشيت فرأيت بيت القاضي وحوله أناس مجتمعون عَلَى وجوههم الوجوم والحزن والأسف، ثُمَّ رأيت الحرس واقفين مصطفين باتجاه المقبرة مثلاً، ثُمَّ رأيت من يأتي بسيارة إسعاف، ورأيت أشياء تدل بواقع الحال عَلَى أن هناك موتاً، وفي هذا الوقت لو جاءك أحدٌ ولو كَانَ طفلاً صغيراً وقال أما تدري أن القاضي قد مات، لاستيقنت قطعاً أنه قد حصل الموت، بخلاف ما لو كنت مثلاً راكباً في الطائرة وقال لك أحد الناس: إن القاضي قد مات، لم يكن هذا قطعاً لك بصدق الخبر، فإذاً القرائن والملابسات تؤدي إِلَى العلم القطعي.
      وعليه فليس من الشرط لحصول العلم القطعي التواتر؛ بل اليقين القطعي قد يحصل بقرائن الأحوال.
    4. قرائن أحواله وسيرته صلى الله عليه وسلم أبهرت العقول

      إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد احتفت بسيرته وبأحواله وبكلامه من قرائن الأحوال العجيبة ما يبهر العقول فـأم معبد ينزل عندها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخيمة وهو عابر سبيل فتقطع بأنه نبي مرسل.
      والرجل الأعرابي يسمع أن هناك نبي ظهر فيقول أين هو؟
      فيرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: {والله ما هذا بوجه كذّاب}، وإن قالت قريش إنه كذّاب، ما نطق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا قلب العصى حية، ولا أخرج يده فإذا هي بيضاء للناظرين؛ بل هي قرينة حاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو لم يكن هناك أي آيات إلا أن بديهته تأتيك بالخبر لكفى بذلك برهاناً ساطعاً عَلَى صدق نبوته.
      ولذلك نجد السيرة كلها محفوفة بما يدل عَلَى نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما هو في كتاب دلائل النبوة للبيهقي، وهو -رحمه الله تعالى- من المحدثين المهتمين بعلم الحديث، والنقاد الذين لهم خبرة ودراية بهذا الفن، ألف كتاباً بعنوان دلائل النبوة، فما هي دلائل النبوة التي جمعها وألفها البيهقي؟
      هل تراه ألف في الأمور الحسية وخوارق العادات فقط؟!
      لا، إنما هو كتاب عن سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنه من سيرة ابن هشام، فيذكر حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغزواته وأموره وأعماله، ففي كل غزوة وفي كل عمل من أعماله بينة تدل عَلَى صدقه.
      كما في بدر وفي الهجرة، وفي معاملته مع أزواجه، وفي معاملته مع اليهود، وفي معاملته مع الْمُشْرِكِينَ، وفي كتبه التي كاتب بها الملوك، كل ذلك دال عَلَى نبوته.
      وانظر التشريعات التي يأتي بها، فكلمة واحدة يقولها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصبح قاعدة من أعظم القواعد التي ترجع إليها أصول عظيمة من أصول التشريع، مثل: {لا ضرر ولا ضرار} ومثل: {الضمان بالخراج} يعجز أن يأتي بمثل هذه العبارات والتشريعات القانونيون الوضعيون أو المفكرون المبدعون، أو أن يشبه أحد من هَؤُلاءِ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو أجل وأرفع من ذلك؛ لأنه يتكلم بكلام من عند الله وبنور الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فسيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حفت بقرائن كثيرة تدل عَلَى صدقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك كل أمر من أموره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

      ولذلك يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز، فإن الرَّسُول لا بد أن يخبر النَّاس بأمور ويأمرهم بأمور، ولا بد أن يفعل أموراً يبين بها صدقه. والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به ويخبر عنه وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة، والصادق ضده بل كل شخصين ادعيا أمراً، أحدهما: صادق، والآخر كاذب. لا بد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا] كما سيأتي شرحه.
    5. هرقل يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة في مناظرته لأبي سفيان

      إن من أعظم المناظرات في التاريخ هذه المناظرة التي جرت بين أبي سفيان وبين هرقل في شأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فزعيم أعظم أمة متحضرة في العالم في ذلك الحين -الأمة التي تحمل لواء الحضارة العالمية وتسيطر عَلَى نصف العالم الغربي- يناظر العدو اللدود للدعوة آنذاك والذي يرفع لواء محاربة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أبو سفيان فذاك يسأل وهذا يجيب.
      ومن المعلوم أن هرقل ليس بمتهم أن يمالئ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو يجامل معه، وما الذي يدعوه إِلَى ذلك وهو لا يعرفه؟ وكذلك أبو سفيان ليس بمؤمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يداري في الجواب ليجامله، بل كَانَ يتحين الفرصة للطعن في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      ولذلك لم يجد مطعناً يمكن أن ينفذ منه إلا لما قَالَ: {وبيننا وبينه عهد لا ندري ماذا يفعل؟} ولم يستطع أن يتهمه أنه غادر أو كاذب، ثُمَّ تكون النتيجة بعد تلك المناظرة الاقتناع بصدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      فلا يمكن أن يلتبس أمر من يدعي النبوة وهو كاذب بأمر الرَّسُول حقاً، ولا سيما نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

      وقضية استلزام الصدق للبر والتقوى واستلزام الكذب للفجور، هذه حقيقة يعرفها كل واحد من الناس، حقيقة يتعامل بها النَّاس حتى بين الكفار بعضهم مع بعض: يعلمون أن من لوازم استقامة هذا الرجل أنه لا يكذب، وفي المقابل من عرف عنه أنه يكذب فمن غير المستبعد أن يسرق أو يختلس، وهكذا تلازم هذه الأمور هو كما ذكر -رحمه الله تعالى- هنا.
  3. أسباب رد الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم

     المرفق    
    وقَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ:
    [وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين، إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز، فإن الرَّسُول لا بد أن يخبر النَّاس بأمور، ويأمرهم بأمور، ولا بد أن يفعل أموراً يبين بها صدقه، والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به، ويخبر عنه، وما يفعله، ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة والصادق ضده. بل كل شخصين ادعيا أمراً: أحدهما صادق والآخر كاذب لا بد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا ولو بعد مدة، إذ الصدق مستلزم للبر والكذب مستلزم للفجور.
    كما في الصحيحين عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إِلَى البر، وإن البر يهدي إِلَى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إِلَى الفجور، وإن الفجور يهدي إِلَى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً}.
    ولهذا قال تعالى: ((هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ)) [الشعراء:221-226].
    فالكهان ونحوهم -وإن كانوا أحياناً يخبرون بشيء من المغيبات، ويكون صدقاً- فمعهم من الكذب والفجور ما يبين أن الذي يخبرون به ليس عن مَلَك، وليسوا بأنبياء، ولهذا لما قال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـابن صيَّاد: {قد خبأت لك خبيئاً} فقَالَ: هو الدُّخ، قال له النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اخسأ فلن تعدو قدرك} يعني: إنما أنت كاهن.
    وقد قال للنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يأتيني صادق وكاذب}.
    وقَالَ: {أرى عرشاً عَلَى الماء}، وذلك هو عرش الشيطان، وبين أن الشعراء يتبعهم الغاوون، والغاوي: الذي يتبع هواه وشهوته، وإن كَانَ ذلك مضراً له في العاقبة، فمن عرف الرَّسُول وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعمله، علم علماً يقيناً أنه ليس بشاعر ولا كاهن.
    والنَّاس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة، حتى في المدعي للصناعات والمقالات، كمن يدعي الفلاحة والنساجة والكتابة، أو علم النحو والطب والفقه وغير ذلك.
    والنبوة مشتملة عَلَى علوم وأعمال لا بد أن يتصف الرَّسُول بها، وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب؟!
    ولا ريب أن المحققين عَلَى أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه العلم الضروري، كما يعرف الرجل رضى الرجل وحبه، وبغضه وفرحه وحزنه، وغير ذلك مما في نفسه بأمور تظهر عَلَى وجهه قد لا يمكن التعبير عنها، كما قال تعالى:((وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ)) [محمد:30]، ثُمَّ قَالَ: ((وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ))[محمد:30].
    وقد قيل: ما أسرَّ أحد سريرة إلا أظهرها الله عَلَى صفحات وجهه وفلتات لسانه، فإذا كَانَ صدق المخبر وكذبه يعلم بما يقترن من القرآئن، فكيف بدعوى المدعي أنه رَسُول الله؟
    كيف يخفى صدق هذا من كذبه؟
    وكيف لا يتميز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه من الأدلة؟] إهـ

    الشرح:
    قد يرد سؤال وهو: لماذا كذبت قريش بالنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
    هل تكذيبها راجع إِلَى أنها غير مصدقة بأنه نبي ورَسُول وأنه يأتيه الوحي من السماء أم لأمر آخر؟!
    1. سبب رد قريش لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم

      الذي يتتبع أحوال القوم فيما صح من السيرة يُعلم يقيناً أنهم إنما كذبوه عناداً وكبراً، وإقتداءً بالآباء والأجداد، وتمسكاً بالعادات وبالتقاليد، وحرصاً منهم عَلَى الجاه، وعلى المال، والدنيا، والمناصب، ونحو ذلك من الأسباب، وليس تكذيباً له في ذاته، ولذلك فرق بين ما تقوله قريش أمامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو تقوله للعرب، وبين ما يقولونه في أنفسهم.
    2. سبب رد اليهود لما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم

      سبق أن قريشاً كفرت بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عناداً واستكباراً وتقليداً، وأما اليهود فإنما كَفَرُوا بغياً وحسداً، وأمراض القلوب كلها متداخلة، لكن أكثر ما يظهر في تكذيب قريش الكبر والعناد، ولذلك لما ذهب مقتضى ذلك، وظهر دين الله بالقوة، ونصر الله نبيه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم تجد قريش غضاضة في أن تدخل هذا الدين وتحمل لواءه، وأصبح كبار المقاتلين له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقودون جيوش الإسلام، ويفتحون بلاد العالم.
      لكن اليهود عندما كَانَ كفرهم عن حسد، والحسد من أكبر أمراض القلوب تمكناً فيها، ولأنهم كانوا كذلك نجد أن أقل من أسلم من العالم هم اليهود، بخلاف النَّصَارَى والفرس فكثير منهم أسلم، وأسلمت العرب قاطبة إلا الشواذ.
      ولكن اليهود لم يُسلمْ منهم إلا القليل، حتى أنهم ليعدون عداً، ويقَالَ: إنهم عشرة أو بضعة عشر أو نحو ذلك، مع أنهم كانوا بنو قريظة، وبنو النضير والذين في خيبر وأمثالهم من القبائل، وهم عالمون بصدق نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكن هَؤُلاءِ هم اليهود!.
    3. موقف أبي جهل من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم

      لقد لاقى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعض كفار قريش الويلات أمثال أبي جهل فقد كَانَ يتبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يمر عَلَى العرب في الأسواق والمواسم يعرض عليهم دعوة ربه عَزَّ وَجَلَّ،
      فيقول لهم أبو جهل: أيها الناس! إن هذا الغلام منا، ونحن أعلم بكذبه، إنما هو كذاب صابئ فلا تصدقوه، وهكذا يتبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليكذبه في كل مكان، هذا أمام الناس، لكن أمام نفسه وأمام من يثق به فإنه كَانَ يقول: لما قيل له: لماذا لا تسلم؟
      قَالَ: كنا وبني عبد مناف كفرسي رهان، لهم السقاية ولنا الرفادة، لهم كذا ولنا كذا، كلما عملوا عملاً عملنا مثله -منافسة بين بطنين من بطون قريش العظام- قَالَ: فلما نبغ هذا الرجل قالوا: منا نبي، فوالله لا نؤمن به أبداً!.

    4. فإنهم لا يكذبونك

      ولقد كَانَ كفار قريش ينهون النَّاس عن الاستماع للقرآن الكريم ويقولون: هذا أساطير الأولين، وإفك قديم من كلام الكهان، وإن هو إلا قول البشر، وإنْ هذا إلا سحر يؤثر... إِلَى آخر ما يقولون، ومع ذلك كانوا يجتمعون في الليل يستمعون القرآن، ويتعجبون من هذا الكلام الذي ليس له مثيل لا في كلام الشعراء، ولا في سجع الكهان أبداً، ففي أنفسهم يعلمون أنه الحق.
      لكن أمام النَّاس في المنتديات يقولون: هذا كذب! هذا باطل! نعوذ بالله: ((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ)) [الأنعام:33] أي لا يعتقدون في قلوبهم أنك كاذب, ولا يقولون: إنه كاذب ((وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) [الأنعام:33] فالظلم والإجحاف، والأنفة، والعناد والاستكبار في الأرض، ومكر السيء.
      ومثل هذه الأمور هي التي حالت بينهم وبين الإيمان، مثل ما حالت بين فرعون وبين الإيمان،
      وأما اليهود فما أعجب ما فعلت في هذا الشأن! يتناجون بينهم أنه صادق وإذا ذهبوا إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذبوه.
    5. حادثة زيد بن الصنعة مع النبي صلى الله عليه وسلم

      ومن ذلك قصة اليهودي زيد بن سعنة - وكان من كبار أحبار اليهود- وذُكِرت في مجمع الزوائد، ورواها الطبراني وغيره وهي قصة حسنة السند، أن زيداً هذا قَالَ: لقد قرأت في التوراة وفي الأسفار من صفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحدة واحدة، إلا صفة واحدة ما اختبرتها.
      وهكذا هي النفسية اليهودية يقولون: كيف نسلم لهذا الرجل من الأميين، ونحن ورثة العلم والكتاب؟
      وأن يخرج نبي من الأميين من غير نسل إسرائيل من ذرية إسماعيل هذا شيء يستثقله اليهود جداً.
      فقَالَ: إلا خصلة واحدة بقيت وأردت أن أختبرها وأن أبلوها، وهي: أنه يسبق حلمه جهله، ولا يقابل الجهل بالجهل، وإنما يقابل الجهل بالحلم، قال فذهبت يوماً إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو جالس مع أصحابه وهم حوله، وإذا برجل منهم يقول: يا رَسُول الله إني قد ذهبت إِلَى بني فلان، ووجدتهم في سنة وجدب وقحط وشدة، وإني قلت لهم: أسلموا يفتح الله لكم وتمطرون وترزقون وقد أسلموا، وإني أخشى يا رَسُول الله إن بقي بهم الجدب والقحط أن يرجعوا عن إسلامهم قَالَ: فماذا نصنع؟
      ثُمَّ قَالَ: أرى أن نرسل لهم بطعام وغذاء.
      هذا - كما هو واضح - من تأليف القلوب عَلَى الإيمان، فَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هل بقي من تمر بني فلان أو من حائط بني فلان شيئاً؟ قالوا: يا رَسُول الله ما بقي منه شيء. قال زيداً: فوجدتها فرصة، وجدت أن هذه هي بغيتي، قَالَ: قلت: يا مُحَمَّد أتعطيني كذا وكذا من حائط بني فلان يعني إذا أثمر، وأعطيك المئونة؟ وهذا بيع السلم.
      فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نعم أعطيك، قال فدفعت إليه ما أراد من المئونة والطعام وأخذها، وأرسل بها إِلَى أولئك، قَالَ: ثُمَّ انتظرت بعد ذلك حتى قاربت الثمار أن تنضج، قَالَ: فجئت إليه، وهو واقف وحوله أصحابه، وهم خارجون من مكان ما.
      قَالَ: فأمسكت بتلابيبه وشددتها عليه وقلت له: يا محمد‍ أما آن لك أن تعطيني حقي: فوالله إنا لنعرفكم يا بني عبد المطلب إنكم قوم مطل -أي: تؤخرون صاحب الدين- فَحَلِمَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يرد.
      ولكن عُمَر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- اغتاظ غيظاً شديداً، وقَالَ: يا زيد أتفعل هكذا، ارفع يدك عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا فلقت هامتك بالسيف.
      فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أو شيء غير ذلك يا عُمَر‍! كَانَ عليك أن تأمره بحسن الطلب وتأمرني بحسن القضاء).
      قال زيد: فعلمت حينئذ أن حلمه يسبق جهله، وأنه لا يقابل الجهل بالجهل، وإنما يقابل الجهل بالحلم فقَالَ: اذهب يا عُمَر فأعطاه ما طلب وزده عشرين صاعاً.
      قَالَ: فذهبت مع عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فكال له ما طلب منه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما اكتمل حقه، قَالَ: انتظر لك عشرون صاعاً، قال ما هي؟
      قَالَ: أمرني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أزيدك إياها مقابل ما روعتك، وما كانت زيادة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك إلا لما يعلمه من جشع وحرص اليهود على المادة.

      فتعجب زيد من ذلك، فقَالَ: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رَسُول الله، قَالَ: والله ما فعلت ذلك إلا أنني قد بلوت خبره من التوراة ومن الأسفار، فما بقي من أمره شيء إلا وقد عرفت صدقه، وعرفت أنه نبي، إلا هذه الكلمة: أنه يسبق حلمه جهله، ولا يقابل الجهل بالجهل، إنما يقابل الجهل بالحلم. فأسلم زيد، وحسن إسلامه فيما بعد}
      وقد كَانَ من أحبار اليهود الكبار.
    6. اليهود قوم بهت

      إن اليهود قوم بهت حسدوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعادوه فلقد كانوا يتناجون ويقول بعضهم لبعض: أوليس هذا هو نبي العرب؟
      ويقول الآخر: بلى أليس النبي الذي يأتي بين يدي الساعة؟
      والآخر يقول: أوليس عندنا أنه يبعث من بني إسماعيل؟
      فإذا واجهوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: له لست بنبي، بل تآمروا عَلَى أن يقتلوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن يلقوا عليه الصخرة، وأعطوه الشاة المسمومة، وما تركوا وسيلة من وسائل الأذى إلا فعلوها مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بينما في أنفسهم وفي مجالسهم يعلنون بصدقه.
      وفي قصة عبد الله بن سلام -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ما يدل عَلَى حقيقة اليهود فإنه لما بلغه خبر هجرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ في نخلة يأخذ من تمرها، فسألت خالته -وكان عندها علم- وما شأنه مع موسى بن عمران؟ فَقَالَ عبد الله بن سلام وهو في النخلة: يا خالة‍! والله إنه لأخو موسى بن عمران دينهما واحد وربهما واحد لا خلاف بينه وبين موسى، فلما ذهب إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأيقن بالإسلام قَالَ: يا رَسُول الله! اختبر اليهود واسألهم عني فإنهم قوم بهت، فلما سألهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما تقولون في عبد الله بن سلام؟
      قالوا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا.
      قَالَ: أرأيتم إن أسلم؟
      قالوا: معاذ الله!
      فخرج عبد الله بن سلام، وقَالَ: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رَسُول الله.
      فَقَالُوا: هذا شرنا وابن شرنا وفعل وفعل، ولاموه وسبوه.
      فقَالَ: ألم أقل لك يا رَسُول الله! إنهم قوم بهت!
      .
      فالشاهد أنه لم يكن أحد ممن بلغته دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العرب أو من اليهود! ومِنْ أمم الأرض ليشكك في صدق النبي وفي رسالته، بل كانوا عَلَى يقين أنه صادق وأن ما يأتي به إنما هو حق من عند الله.
  4. براءة النبي صلى الله عليه وسلم من الكهانة والسحر والشعر

     المرفق    
    ولقد اتُهم النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتهامات عدة فكان أكثر ما اتهم به أنه كاهن، فناقش المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ مسألة الكهان؛ ولأن الكاهن يأتيه خبر من السماء، ويخبر بأمور مغيبة لا يعلمها الناس، فَقَالَ الكفار: إن محمداً كاهن، أو قالوا: ساحر؛ لأن الساحر يعمل أعمالاً خفية، ويفرق بين المرء وزوجه ونحو ذلك وهو قد فرق بينهم، وكانوا يقولون أيضاً: شاعر؛ لأن نظم القُرْآن يتفق في بعض الأحيان مع الأوزان الشعرية، أو قريب من الأوزان الشعرية التي كَانَ العرب يتعارفون فيها والعرب أنفسهم يعلمون أن حال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يختلف عن حال هَؤُلاءِ.
    فأما الكهان فإن حالهم واضح وجلي، فقد كانوا يجلسون ويتصدرون لإخبار النَّاس بالمغيبات ويأتي الرجل إِلَى الكاهن فيخبأ خبأً ويضمر شيئاً حتى يتأكد من صدق الكاهن، كما فعل بعض العرب أنه ربط حبة بر في إحليل الفرس.
    فأتى الكاهن، فَقَالَ له: ما الذي خبأت لك؟
    فَقَالَ له: ثمرة في كمرة.
    فيُقَالُ: أين؟
    قَالَ: حبة بر في إحليل مهر، فإذا أخبر ما الذي خبأ قالوا: هذه علامة عَلَى أن الكاهن سيقول صدقاً؛ لأنه عرف الشيء المخبأ، وبعد ذلك يقول له: إني أريد أن أفعل كذا.
    أو يسأله عما وقع من الأمر فيجيبه الكاهن بالسجعات المعروفة، فهذا حال هَؤُلاءِ الكهان عند النَّاس فأي هدى جَاءَ به هَؤُلاءِ الكهان وهم يتوارثون الكهانة من عصور قديمة؟
    وهل جاؤوا بصلة الرحم أو بإعانة المظلوم؟!
    لم يأتوا بشيء من ذلك، بل أخذوا أموال النَّاس بالباطل وارتكبوا الفجور والفواحش، أما ما يخبرون به من المغيبات فقد كَانَ ذلك بسبب ما يسرقونه من الشياطين.
    ولما بعث النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجد الجن أن السماء قد ملئت حرساً شديداً وشهباً، إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب.
    فلما حصل ذلك تعجب الكهان وذعروا، وأصبح كل واحد منهم يتكلم عَلَى لسان التابع أو الجني الذي يأتيه بالخبر ويقول: ما حالنا؟ ما بال الأخبار انقطعت؟ وأصبح الجني يأتي بالخبر. فيرجم بالشهاب! هناك أمر عظيم، فوجدوا الإفلاس التام بعد ذلك، ثُمَّ بعد هذا يلتبس أمر النبي الذي يأتيه الوحي من السماء بأمر الكاهن؟


    ثُمَّ أين القُرْآن من سجع الكهان؟
    ولقد كَانَ العرب يحفظون ويسمعون من سجع الكهان الشيء الكثير فلا يبالون به لكنهم عند القُرْآن بخلاف ذلك، فذاك أعرابي يسمع رجلاً يقرأ قوله تعالى: ((فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً)) [يوسف:80] فيقفز من فوق الناقة ويسجد، مع أن الكلمات كلها معروفة عند العرب فاليأس كلمة معروفة عند العرب، وفي أشعار العرب، وكذلك الخلوص، والنجوى لكن نظم قوله تعالى: ((فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً))[يوسف:80] هذه لا يمكن أن يركبها عربي عَلَى الإطلاق، وأمثال ذلك كثير، أما الكاهن فإنه لو سجع ألف سجعة ما أثر ذلك في القلب، وما تحرك له ساكن؛ لأنه كلام ملفق مركب واضح الافتعال والتكلف.
    1. الفرق بين الشعر والقرآن

      وأما الشعر فإن العرب من أعلم النَّاس به ولذلك قَالَ: الوليد بن المغيرة: لقد عرفت الشعر ونظمه ورجزه وهزجه.. الخ والله ما هذا بشعر، فالناقد الذواق لا يستطيع أن يقول: إن القُرْآن شعر؛ لأنه بصير بالأوزان وبالقوافي. ولقد كانت العرب تعلق أشعارها في الكعبة وتفاخر به غيرها حتى قالوا:
      ألهى بني تغلب عن كل مكرمة            قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

      ويحفظون أبناءهم الفخر، فهل ترى أن هذه القصائد أحدثت أموراً عظاما؟!
      وهل غيرت إنساناً ضالاً فهدته؟ أو فاجراً فأصلحته وبرته؟
      وهل جاءت إِلَى إنسان ظالم مجحف فجعلته عدلاً براً تقياً؟
      الجواب: لا، لم يحدث من ذلك شيء.
    2. الفرق بين السحر والقرآن

      وأما السحر فإن مجرد الاشتراك في التأثير لا يعني أنه سحر، فقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن من البيان لسحراً}، فكل ما كَانَ مؤثراً ففيه نوع من السحر، وكل ما كَانَ دقيقاً وخفياً فإنه يسمى في اللغة سحراً، والقرآن ليس بكلام ساحر، فإذا لم يكن كلام ساحر، ولا كاهن، ولا شاعر فكلام من؟
      قالوا: مجنون! وهذه أعجب وأعجب، أمجنون يأتي بهذا الكلام؟
      وأنتم العقلاء الذين في تمام العقل والفكر والوعي، وبيدكم أزمة البلاغة لا تستطيعون أن تأتوا بكلمة واحدة أو بآية واحدة فكيف بالمجنون؟
      وإذا كَانَ المجنون يأتي بالخير ويهدي النَّاس ويخرجهم من الظلمات إِلَى النور، فأين العقلاء؟!
      فقريش مهما حاولت بالطعن في النبي -وهي أكثر ما جَاءَ في القُرْآن التصريح بكذبها، وهي التي عاندته ووقفت في وجهه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن في كلامها ولا في مواقفها ما يدل عَلَى الإطلاق بأن هناك ما يقدح في نبوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل كَانَ الإِنسَان منهم يبهره خلقه وتبهره معاملته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    3. سراقة بن مالك وسواري كسرى

      فهذا سراقة بن مالك الجعشمي يطارد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الهجرة؛ ليفوز بالنوق التي جعلتها قريش لمن يخبر بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما ساخت قوائم الفرس في الصخر - وهذه من الله -عَزَّ وَجَلَّ- آية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعجب، وكان كلما مشى ساخت قوائم فرسه، ولا تستطيع أن ترفع يديها ليدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك لم يرد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعود خائباً، فقَالَ: { يا سراقة لم تصنع هذا؟ قَالَ: إن قريشاً قد وعدوني بكذا من الإبل، قَالَ: (أوليس لك بخير منها؟ قَالَ: وما هما، قَالَ: سواري كسرى}.
      فكان هذا الكلام غريباً عليه، وكسرى ملك الدنيا ذو الأسوار الثمينة من الذهب، ومن أفخر اليواقيت والأحجار الكريمة تصبح أساوره لهذا الإِنسَان العربي، فضحك سراقة وقَالَ: أعرابي من بني جعشم يلبس سواري كسرى! ما حلم بها سادات قريش حتى يحلم بها أعرابي من بني جعشم!
      وتمر الأيام وتنتصر جيوش الْمُسْلِمِينَ، ويدخلون المدائن فاتحين، ويأخذون كنوز البيت الأبيض، ويبعثون بها إلى عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ويأتي إِلَى سواري كسرى فَيَقُولُ: أين سراقة بن جعشم؟
      فقَالَ: ماذا تريد؟
      قال له إن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد وعدك بسواري كسرى، وها أنا ذا ألبسك إياها، ويلبسه السوارين، أليس في هذا دليل عَلَى أن هذا النبي -حقاً وصدقاً- هو نبي من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

      ولهذا تحققت نبوءة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمثال هذه الوقائع الكثيرة العظيمة البينة، فهل يصح مع هذا أن نقول: إنه لا دليل عَلَى صدق النبي إلا أن يأتي بخارقة أو معجزة؟‍! لا، فهذه الدلائل العظيمة كلها تدل عَلَى أنه نبي حقاً صادق من عند الله.
    4. المعايير العقلية والفطرية تميز بين الصادق والكاذب

      والمصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ- يضرب لنا مثلاً واضحاً وهو: أن النَّاس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة حتى في الحرف الفلاحة والنساجة والكتابة، فلا يلتبس الصادق في هذه الحرف بالكاذب المدعي لها زوراً.
      ففي كل الأمور تجد أن النَّاس يستخدمون للتمييز بين الصادق والكاذب في الأمور الحياتية الدنيوية المعايير العقلية والفطرية التي وهبها الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهم، فكيف بدعوى النبوة؟‍!
      والنبي يأتي بأقوال وبأعمال، وبأوامر، ويفنى عمره كُلّه في جهاد، وفي صراع، ثُمَّ يتهم بأنه كاذب أو يلتبس هل هو صادق أم كاذب؟!
    5. الأنبياء أبعد الناس عن طلب عرض من أعراض الدنيا من أتباع الدعوة

      وإن من الممكن أن يكذب الإِنسَان لأجل عرض من أعراض الدنيا مثل أن يحصل عَلَى الأموال أو النساء أو القصور، فيدعي أنه نبي، لكن الأَنْبِيَاء فإنهم كما أخبر الله: ((قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ)) [سـبأ:47] أي: أي شيء أطلبه منكم فهو لكم، ((قُل مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)) [صّ:86]، وكل الأَنْبِيَاء قالوا: ما أسألكم عليه مالاً، ((مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)) [الفرقان:57].
    6. الأنبياء لم يورثوا مالاً

      لم يورث الأَنْبِيَاء ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {نَحْنُ الأَنْبِيَاء لا نورث ما تركناه صدقة}،
      فهل بعد هذا يتهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه يريد عرضاً من أعراض الدنيا، وإن كَانَ الأَنْبِيَاء يريدون الجاه، فلماذا قتلوا؟ ومنهم من عذب، ونبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقي من العنت والشدائد، ولقي من الأذى الشيء الكثير، إن من يحصل له هذا لا يريد الجاه وهكذا نجد أن الدلائل القطعية الثابتة عَلَى صدق نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي أبين من الشمس في رابعة النهار، وأن الذين كذبوه إنما هم كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ))[الأنعام:33].