المادة    
بسم الله الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعــد:
فنحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي جمعنا في هذا الدرس، ونسأل الله عز وجل بمنه وجوده وكرمه أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يفقهنا في الدين، وأن يجعلنا أئمة للمتقين، إنه سميع مجيب.
الموضوع الذي نريد الحديث عنه في هذا الدرس، موضوع كبير وخطير ومهم لكل من يدعو إلى الله تبارك وتعالى ومن يهمه أمر هذه الأمة ومستقبلها وشأنها، ولن نستطيع -بطبيعة الحال- أن نوفي الموضوع حقه، ولكن نرجو أن نوفق -بإذن الله تعالى- إلى أن نعطي كل أخٍ مسلم فكرة عنه؛ بحيث يكون هذا دافعاً له لمزيد من البحث والتحري والاهتمام، فإن أول ما تظهر الأعمال العظيمة - وكل أمر هذه الأمة يحتاج أعمالاً عظيمة - أول ما يكون ذلك هو الفكر، ثم يأتي الاهتمام ثم يكون العمل، وهذا ما نرجو أن يكون، وما ذلك على الله بعزيز.
إن التطلع إلى المستقبل والتشوق إليه والتشوف إلى معرفته أمر مفطور في النفوس جميعاً، فليس من البشر أحد إلا وهو يتطلع ويشتاق إلى معرفة ماذا سيكون له أو لأمته أو لغيره، وهذا أمر ركبه الله تبارك وتعالى في النفوس، وهو من حكمة الله عز وجل، ولذلك نجد أن الناس تنوعت مصادرهم في هذا -كما سنبين إن شاء الله- أو تحسّر من تحسر على فقده كما كانت عادة العرب، فظهر ذلك في شعر زهير بن أبي سلمى:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله             ولكنني عن علم ما في غدٍ عمي
فكلٌ مشتاق إلى ذلك.
  1. علم الغيب يختص بالله

    والله تبارك وتعالى قد بين لنا أصلاً كلياً عظيماً من أصول هذا الدين، التي يجب على كل مسلم أن يعتقدها، وهو أنه لا يعلم الغيب إلا الله، قال تعالى: ((قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ))[النمل:65-66].. ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ))[الأنعام:59].
  2. من يطلع على الغيب

    فالغيب لله تبارك وتعالى وحده، ولكن فضل الله تبارك وتعالى عظيم؛ فإنه يُطلع بعض رسله ويُطلع بعض أوليائه على شيء مما قد يحدث؛ كما قال الله تبارك وتعالى: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً))[الجن:26-27].
    ومن ذلك المبشرات وهي الرؤى الصالحة، ومن ذلك ما أخبر به الأنبياء مما أطلعهم الله تبارك وتعالى عليه من أمور الغيب مما سيقع، إلا أن هناك أموراً اختص الله تبارك وتعالى بعلمها، فهي من الغيب المطلق الذي لم يُطلع الله تبارك وتعالى عليه أحد، ومن ذلك علم الساعة، ووقت قيامها، فهذه علمها عند الله لا يجليها لوقتها إلا هو تبارك وتعالى، والناس اختلفوا في هذا اختلافاً عظيماً وتباينوا فيه، فإن هذه الحاجة الفطرية في النفوس لمعرفة الغيب دفعت كل أحد إلى أن يسلك طريقاً لمعرفته بحق أو بباطل، فاختلط الحق بالباطل أو الحابل بالنابل -كما يقال- في قديم الدهر وحديثه.