أما
هرقل، فإن شأنه أعجب كَانَ -كما هو معلوم- يحكم النصف الغربي من العالم، وكانت
بلاد الشام، و
مصر، و
إفريقيا، كلها من مستعمراته ويحكم الإمبراطورية الرومانية، في
أوروبا، وكانت
روما مقر البابوية إِلَى اليوم، مقر الدين النصراني الكاثوليكي.
وكان لديه من العلم بأخبار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأحواله الشيء الكثير الذي تنطق به أناجيلهم وكتبهم، وتوراتهم، لأن النَّصَارَى يؤمنون بنفس توراة اليهود ويسمونها العهد القديم، ويضيفون إليه العهد الجديد، الذي هو الأناجيل، والرسائل التي كتبها من يسمونهم الرسل، وفي المجموع العهد القديم والعهد الجديد، يكون الكتاب المقدس عند النَّصَارَى.
فهَؤُلاءِ جمعوا بين بشارات التوراة التي كَانَ يعلمها اليهود في
المدينة وأمثالهم، وبين بشارات الإنجيل، التي هي موجودة في الإنجيل أيضاً، فكانت لديهم هذه البشارات.
وكانوا والفرس في حرب والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، كانوا يتمنون أن يظهر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أهل الكتاب -الروم- عَلَى الفرس الْمُشْرِكِينَ، وكان المُشْرِكُونَ يتمنون أن يظهر الله الفرس؛ لأنهم مُشْرِكُونَ مثلهم عَلَى الروم، ولهذا قال الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ((آلم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ)) [الروم:1-4].
وحصل أنه بعد صلح الحديبية أو قريباً منه، قدر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وحصل ما أخبر به تعالى، وغلبت الرومُ الفرسَ وانتصروا عليهم انتصاراً عظيماً.
وهرقل كانت نفسيته متقبلة للحق، وقد كَانَ أقسم عَلَى نفسه بالله إن نصرني الله عَلَى الفرس أنني أمشي من حمص إِلَى إيليا أي القدس، ماشياً يحج إِلَى القدس ماشياً شكراً لله عَلَى أنه نصره عَلَى الفرس، فلما حصل الانتصار أراد أن يفي بذلك، كانت تفرش له البسط وتوضع عليه الرياحين ويمشي عليها ووزراؤه راكبون، وهو يمشي حتى يبر بهذا اليمين فنـزل واستقر في حمص.
وكانت نفسيته مهيئة للحق ولشكر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
وإذا به في تلك الأيام يأتيه دحية الكلبي بكتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاء به إليه، فلما رأى الكتاب وقرأه كتب إِلَى الأسقف لبابا الكبير الذي في روما، كما في لفظ صحيح البُخَارِيّ فجاء الأسقف هذا، وكتب له هرقل بما جرى، وأنه كما يعتقد ويظن هرقل أن هذا هو نبي آخر الزمان الذي بشر به المسيح، وينتظر الجواب من الأسقف.
والذي حصل أن هرقل قام يوماً من الأيام مهموماً مغموماً من رؤيا رآها، وكان له نظر في النجوم فقَالَ: هذا أوان ظهور ملك الختان أو أمة الختان، وجمع البطارقة، والأساقفة والقساوسة وقَالَ: هذا أوان ظهور ملك الختان أو أمة الختان، فَقَالَ له أصحابه: لا يهمك هذا الأمر يا ملك! قَالَ: لا.
هذا يقين هذا حق، فابحثوا لي عن أي أمة تختن.
قالوا: لا نعلم أمة تختتن إلا اليهود، وهم عبيدك وفي مملكتك، فلا يضرنك الأمر ولا تهولنك هذه الرؤيا.
قَالَ: لا، ألا من أمة غيرهم.
فكتب إِلَى ولاته قالوا نعم توجد أمة، وهي العرب أيضاً تختتن
فقال لهم: من عثرتم عليه من هَؤُلاءِ القوم فابعثوا به إلي.
وكان أبو سفيان زعيم قريش قد استغل الصلح الذي حصل في الحديبية وتاجر، كما فرحت قريش بالصلح والهدنة، لتتاجر، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه فرحوا به ليتاجروا مع الله وليدعو النَّاس إِلَى دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- فكانت الكتب إِلَى ملوك الأرض بعده.
فوجدوا أبا سفيان في غزة وما شعر إلا وهم يقبضون عليه من؟ وإلى أين؟
قالوا: إِلَى هرقل وحملوه إِلَى هرقل، ودخل عَلَى هرقل، فأجلسه هرقل وكان معه قرابة عشرين أو ثلاثين رجلاً من قريش.
وقال له: إني سائلك عن أمر هذا الرجل وأنتم إن كذب فكذبوه -يعني- من معه وأبو سفيان -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- ذاك الوقت كَانَ كافراً، وكان يعلم أنه لو كذب لن يكذبه القوم لكن قَالَ: "والله ما منعني أن أكذب إلا الحياء" -الحياء لأن العرب لديهم الفطرة، ولما سأله قال من أقربكم إِلَى هذا الرجل؟
قال أبو سفيان: أنا، فهو زعيم القوم أولاً، وزعيم القوم لا يكذب، وإذا كذب الزعماء فكيف حال الأتباع، وخاصة أن العرب كانت تعد الكذب من الفجور.
ثُمَّ إنه أقرب النَّاس إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أُولَئِكَ الركب، لأنه من بني أمية وهم أقرب البيوت إِلَى بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن جد الجميع الرابع عبد مناف، وهو يريد أن ينتقم منه لأنه عدوه لكن الحياء والقرابة تمنعه وهو قد قَالَ: أنا أقرب النَّاس إليه فإذاً لن يلتزم في إجابته إلا أن يقول الحق, والصدق ثُمَّ ابتدأ تلك المناظرة الفريدة.
أكبر ملوك الأرض وأكبر زعماء الدنيا صاحب الكتاب والرأي وصاحب الخبر الحسي والدليل النقلي الذي يملك بقايا الوحي من السماء، يسأل زعيم قريش، وعدو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، التي تحاربه ليلاً ونهاراً وتسعد لاستئصاله كافة، وليس هناك أحد موجود لا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موجود ولا أحد من أصحابه، وليس للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سلطه لا عَلَى زعيم النصف الغربي من العالم، ولا عَلَى زعيم أعدائه حتى يجعلهم يحابونه أو يداهنونه، وإنما هي مناظرة تكون نتيجتها حقاً كم يظن هَؤُلاءِ النَّاس وكما يعتقدون من دون أي تأثير خارجي عَلَى الطرفين، ثُمَّ بدأت الأسئلة.
وقبل أن نبدأ بالأسئلة ننبه إِلَى أن أسقف روما هذا الذي هو البابا الأكبر جَاءَ بنفسه لما جاءه كتاب من هرقل، وتعجب فلما دخل عَلَى هرقل قال له هذا هو النبي الذي بشر به عيسى، هذا هو النبي وآمن به وصدقه وشهد شهادة الحق، وقتل هذا الرجل فيما بعد لمَّا أن رفض قوم هرقل الإسلام وتراجع هرقل نفسه لكنه شهد شهادة الحق.
ولهذا لم يكن هرقل في موقف المناظرة -كما سوف نرى في الأسئلة- ولم يكن موقفه موقف الإِنسَان الذي يجهل شيئاً؛ بل في موقف المستدل بصدق النبوة والمستدل بصحتها والمقرع والموبخ لـأبي سفيان، إذا كنت أنت قريبه وأنت الذي تعرف آياته ورأيتها وتكذب به فأنا أدلك عَلَى أنه كذا وكذا.
وكانت العرب تنظر إِلَى الروم نظرة عالية كما ينظر مثلاً الآن بما يسمى، العالم الثالث إِلَى أمم الحضارة أن نظرتها أصوب ورأيها أدق، وكذلك معروف عن هرقل هذا وعن أمثاله الحلم والحكمة والروَّية، فكانوا يزنون رأيهم وزناً ثُمَّ إنه لقوتهم وهيبتهم وبطشهم يعلمون أنه لن يؤثر فيهم أي قوة، فكيف يرون أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصل إِلَى هذه القوه، لذلك قال أبو سفيان: لقد أَمِرَ أمر ابن أبي كبشة -يريد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي أن أمره قد ظهر حتى ليخافه ملوك بني الأصفر ملوك الروم صاروا يهابون مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الشيء عجيب، وذهل أبو سفيان منه.
نأتي إِلَى أسئلة المناظرة التي هي أكثر من عشرة أسئلة كلها في صميم إثبات نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
[وكذلك هرقل ملك الروم فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إِلَى الإسلام، طلب من كَانَ هناك من العرب وكان -أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إِلَى الشام فسألهم عن أحوال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأل أبا سفيان وأمر الباقين إن كذَب أن يكذبوه، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الإخبار.
{سألهم: هل كَانَ في آبائه من ملك؟
فقالوا: لا.
قَالَ: هل قال هذا القول أحد قبله.
فقالوا: لا.
وسألهم: أهو ذو نسب فيكم؟
فقالوا: نعم.
وسألهم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
فقالوا: لا ما جربنا عليه كذباً.
وسألهم: هل اتبعه ضعفاء النَّاس أم أشرافهم؟
فذكروا أن الضعفاء اتبعوه.
وسألهم: هل يزيدون أم ينقصون؟
فذكروا أنهم يزيدون.
وسألهم: هل يرجع أحد منهم عن دينه سُخطةً له بعد أن يدخل فيه؟
فقالوا: لا.
وسألهم: هل قاتلتموه؟
قالوا: نعم.
وسألهم عن الحرب بينهم وبينه؟
فقالوا: يدال علينا مرة ونُدال عليه أخرى.
وسألهم: هل يغدر؟
فذكروا أنه لا يغدِر.
وسألهم: بماذا يأمركم؟
فقالوا: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وينهانا عما كَانَ يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
وهذه أكثر من عشر مسائل، ثُمَّ بين لهم ما في هذه المسائل من الأدلة.
فقَالَ: سألتكم هل كَانَ في آبائه من ملك؟
فقلتم: لا.
قلت: لو كَانَ في آبائه من ملك؛ لقلت: رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتكم: هل قال هذا القول فيكم أحد قبله؟
فقلتم: لا.
فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله؛ لقلت: رجل ائتم بقول قيل قبله.
وسألتكم: هل كنتم تتهمونه بالكذب، قبل أن يقول ما قال؟
فقلتم: لا.
فقلت: قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب عَلَى الناس، ثُمَّ يذهب فيكذب عَلَى الله.
وسألتكم: أضعفاء النَّاس يتبعونه أم أشرافهم؟
فقلتم: ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل، (يعني في أول أمرهم)
ثُمَّ قَالَ: وسألتكم: هل يزيدون أم ينقصون؟
فقلتم: بل يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم.
وسألتكم هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟
فقلتم: لا، وكذلك الإيمان، إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.
وهذا من أعظم علامات الصدق والحق، فإن الكذب والباطل لابد أن ينكشف في آخر الأمر، فيرجع عنه أصحابه ويمتنع عنه من لم يدخل فيه، والكذب لا يروج إلا قليلاً ثُمَّ ينكشف.
وسألتكم: كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقلتم: إنها دول، وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها.
قَالَ: وسألتكم هل يغدر؟
فقلتم: لا، وكذلك الرسل لا تغدر}.
وهو لما كَانَ عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم وأنهم لا يغدرون -علم أن هذه علامات الرسل، وأن سنة الله في الأَنْبِيَاء والمؤمنين أن يبتليهم بالسراء والضراء، لينالوا درجة الشكر والصبر كما في الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له}
والله تَعَالَى قد بين في القُرْآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة فقال:((وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) [آل عمران:139].
وقال تعالى: ((الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)) [العنكبوت:1، 2] الآيات إِلَى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة عَلَى سنته في خلقه وحكمته التي بهرت العقول.
{قَالَ: وسألتكم: عما يأمر به؟
فذكرتم أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة، وينهاكم عما كَانَ يعبد آباؤكم، وهذه صفة نبي.
وقد كنت أعلم أن نبياً يبعث، ولم أكن أظنه منكم، ولوددت أني أخلُصُ إليه، ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه، وإن يكن ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين}.
وكان المخاطب بذلك أبو سفيان بن حرب وهو حينئذٍ كافر من أشد النَّاس بغضاً وعداوة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال أبو سفيان بن حرب: فقلت لأصحابي ونحن خروج: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة، إنه ليُعَظِّمه ملك بني الأصفر، وما زلت موقناً بأن أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام وأنا كاره}] اهـ.
الشرح:
هذه الأسئلة أو المناظرة بين زعيمين كافرين في شأن نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رتب
هرقل الأمر وجعل
أبا سفيان أمامه والقوم خلفه، وبإمكانهم أن يكذبوه، ولو بالإشارة ليتأكد من صدق
أبي سفيان، وابتدأ الأسئلة أسئلة الإِنسَان البصير العالم الناقل الذي ينتقل خطوة خطوة حتى يصل إِلَى النتيجة الحاسمة المؤكدة.
فبدأ يقول: {هل كَانَ من آباءه من ملك؟}.
لأنه عادة قد يقَالَ: إن هذا يريد الملك، ولهذا قالت قريش: وإن كَانَ إنما يريد ملكاً ملكناه، فالذي يريد أن يكون له أتباع قد يدعي النبوة، كما فعل مسيلمة وغيره.
فقَالَ: {هل كَانَ من آباءه من ملك} فيريد أن يمشي عَلَى سنة آبائه ويكون له شأن؟
{قالوا: لا.
قَالَ: فهل قال هذا القول فيكم أحدٌ قبله؟}.
أي: هل كَانَ هناك أحد ادعى النبوة وفشل، وقال هذا: أنا سأرتبها وأدعي دعوة تنجح.
{
قالوا: لا.
فقَالَ: لو قال هذا القول أحد قبله لقلت رجل أتى بقولٍ قيل قبله} سمع ناساً قالوا شيئاً فظهر أمرهم فقَالَ: أنا أيضا سأدعو وأظهر حتى يكون لي مثل ما لهم لكن لم يعهد هذا في أمة العرب قال تعالى:
((مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِك))[القصص:46].
{قَالَ: وسألتكم أهو ذو نسب فيكم؟
فَقَالُوا: نعم} وكما قلنا أبو سفيان عندما يزكي نسبه، فهو يزكي نسبه هو؛ لأن القرابة بينهما وهذا هو الحق، فأخبره هرقل أن الأَنْبِيَاء تبعث من أشراف القوم ولا تبعث من أراذلهم، قال هرقل: هذا أيضا دليل عَلَى أن هذا النبي صادق.
{وسألهم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
قالوا: ما جربنا عليه كذباً قط.
فقَالَ: قلت قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب عَلَى النَّاس، ثُمَّ يذهب ويكذب عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ} هذا الذي ما كذب عَلَى النَّاس في شيء، لن يكذب عَلَى الله ويفتري عليه ويدعي عَلَى الله ما لم يقل، إذاً فهذا نبي صادق.
{وسألهم: هل اتبعه ضعفاء القوم أم أشرافهم؟ يعني في أول الأمر.
قالوا: بل اتبعه الضعفاء، قَالَ: وكذلك الأنبياء} لأنه يقرأ في قصص الأنبياء. كما تعلمون الملأ الذين استكبروا والملأ الذين استضعفوا، فريقان عادة أول ما يأتي أي نبي فإن الملأ الذين استكبروا يخافون عَلَى السلطان والمال والجاه والمكانة فلا يؤمنون، والملأ الذين استضعفوا لا يوجد معهم شيء من الدنيا، ويرون الحق واضحاً فيقدمون ويقبلون عَلَى الحق، لكن بعد ذلك يدخل الأشراف وغيرهم.
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد دخل معه من أشراف القوم في أول الأمر أيضاً، لكن كَانَ في المقابل الزعماء والكبراء ضده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن من المؤمنين من هو شريف ومنهم من هو من الموالي والعبيد، فهذه هي أيضاً علامة دالة عَلَى صدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
واستدل بها هرقل.
{ثُمَّ سألهم هل يزيد أتباعه أم ينقصون؟} لأن الإِنسَان يمكن أن يدعو بأي دعوى فيتبعه كثير؛ لكن بعد ذلك يتناقصون؛ لأنهم يظنون فيه ظنوناً مثالية، فلما خبروه، تبين لبعضهم أنه كذاب أو أنه يريد مصلحةً لنفسه دائماً تتعارض الأقوال والرغبات فيتراجعون عنه وهكذا في كل دعوة يتراجع كثير من أصحابها.
{فسألهم: هل يرتد أحد منهم سخطةً في هذا الدين؟ قالوا: لا}.
قال هرقل -انظروا كلامه وكأنه في أعلى درجات الإيمان واليقين-: {وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب} سُبْحانَ اللَّه! كأنه إنسان من الأولياء المقربين؛ لأنه يعرف هذا من الأَنْبِيَاء من قبل، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، لا يسخطه أحد ولا يرتد عنه أحد.
{ثُمَّ سأل: هل قاتلتم هذا النبي؟ قالوا: نعم، قَالَ: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قالوا: دول مرة لنا ومرة له} قَالَ: هذه أيضاً علامة الأَنْبِيَاء يبتلون ويمتحنون بأن يهزموا مرة أو مرتين؛ ولكن ستكون العاقبة لهم، ينذر أبا سفيان لا يغرك الصلح، كأنه يقول له: العاقبة له عليكم.
وابتلاء الأَنْبِيَاء فيه حكمه: أن الأتباع ليسوا كلهم عَلَى درجة من الإيمان فبعضهم يتراجع ويتمحص صف الإيمان بهذه الهزائم والنكبات، ولا يبقى إلا المؤمن القوي الثابت، وهذا المؤمن المتمحص بالأحداث وبالفتن هو المؤهل لأن يقود الدعوة، ولأن يبلغ الدين، ولأن يورثه الله الأرض، فالعاقبة لهم قطعاً -العاقبة لهذا النبي واتباعه- لكن لو أن كل من دخل معه دخل وانتصر لدخل أصحاب الأهواء والمطامع والشهوات، لكن يقتل من يقتل ويعذب من يعذب فينهزمون مرة وينتصرون مرة، وهكذا فيتمحَّصون ويتربَّون فلا يستمر ولا يبقى لهذا الدين إلا من كَانَ حقاً قوي الإيمان وصادق الإيمان.
{ثُمَّ سألهم: هل يغدر؟ قالوا له: لا يغدر، فقَالَ: هكذا الأَنْبِيَاء} لا يغدر النبي لأنه واثق من نصر الله، ولأنه يأتمر بأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
{ثُمَّ سألهم ماذا يدعوكم إليه؟
فَقَالُوا: يأمرنا أن نعبد الله وحده ويأمرنا بالصلاة، والزكاة، والعفاف، وصله الأرحام، وبر الوالدين} وكلها محاسن وفضائل تطبق عليها الفطر والعقول، فقَالَ: هذه جَاءَ بها جميع الأنبياء، الوصايا العشر في آخر سورة الأنعام، جَاءَ بها جميع الأنبياء.
إذاً هذا نبي، فاستنتج هرقل من هذا كله أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي حقاً بلا ريب.
وقال هذه العبارة التي قالها في آخر مرة، قَالَ: {قد كنت أعلم أن نبياً يبعث ولم أكن أظنه منكم -أمة حقيرة تافهه- ولوددت أني أخلص إليه -أي أذهب إليه- ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه} نعوذ بالله من الدنيا..
{وإن يكن ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين} وفي رواية البُخَارِيّ ولم يذكرها المُصنِّف هنا، قَالَ: {وددت لو أني أذهب إليه فأغسل قدميه} وهذه العبارة قالها المسيح -عَلَيْهِ السَّلام- لما جاءه رجل فسأله: أأنت الذي يأتي في آخر الزمان ويكون لك كذا وكذا مما هو في التوراة؟
قَالَ: لا لست أنا، ذلك نبي يأتي من بعدي ووددت أني أدركه فأحل سيور نعليه، وأغسل قدميه.
فعيسى -عَلَيْهِ السَّلام- يتمنى ذلك وهرقل يقول نفس الكلمة التي قالها عيسى يتمنى أنه يرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيغسل قدميه تشرفاً وتبركاً بغسل قدميه الشريفتين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.