المادة    
ولقد اتُهم النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتهامات عدة فكان أكثر ما اتهم به أنه كاهن، فناقش المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ مسألة الكهان؛ ولأن الكاهن يأتيه خبر من السماء، ويخبر بأمور مغيبة لا يعلمها الناس، فَقَالَ الكفار: إن محمداً كاهن، أو قالوا: ساحر؛ لأن الساحر يعمل أعمالاً خفية، ويفرق بين المرء وزوجه ونحو ذلك وهو قد فرق بينهم، وكانوا يقولون أيضاً: شاعر؛ لأن نظم القُرْآن يتفق في بعض الأحيان مع الأوزان الشعرية، أو قريب من الأوزان الشعرية التي كَانَ العرب يتعارفون فيها والعرب أنفسهم يعلمون أن حال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يختلف عن حال هَؤُلاءِ.
فأما الكهان فإن حالهم واضح وجلي، فقد كانوا يجلسون ويتصدرون لإخبار النَّاس بالمغيبات ويأتي الرجل إِلَى الكاهن فيخبأ خبأً ويضمر شيئاً حتى يتأكد من صدق الكاهن، كما فعل بعض العرب أنه ربط حبة بر في إحليل الفرس.
فأتى الكاهن، فَقَالَ له: ما الذي خبأت لك؟
فَقَالَ له: ثمرة في كمرة.
فيُقَالُ: أين؟
قَالَ: حبة بر في إحليل مهر، فإذا أخبر ما الذي خبأ قالوا: هذه علامة عَلَى أن الكاهن سيقول صدقاً؛ لأنه عرف الشيء المخبأ، وبعد ذلك يقول له: إني أريد أن أفعل كذا.
أو يسأله عما وقع من الأمر فيجيبه الكاهن بالسجعات المعروفة، فهذا حال هَؤُلاءِ الكهان عند النَّاس فأي هدى جَاءَ به هَؤُلاءِ الكهان وهم يتوارثون الكهانة من عصور قديمة؟
وهل جاؤوا بصلة الرحم أو بإعانة المظلوم؟!
لم يأتوا بشيء من ذلك، بل أخذوا أموال النَّاس بالباطل وارتكبوا الفجور والفواحش، أما ما يخبرون به من المغيبات فقد كَانَ ذلك بسبب ما يسرقونه من الشياطين.
ولما بعث النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجد الجن أن السماء قد ملئت حرساً شديداً وشهباً، إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب.
فلما حصل ذلك تعجب الكهان وذعروا، وأصبح كل واحد منهم يتكلم عَلَى لسان التابع أو الجني الذي يأتيه بالخبر ويقول: ما حالنا؟ ما بال الأخبار انقطعت؟ وأصبح الجني يأتي بالخبر. فيرجم بالشهاب! هناك أمر عظيم، فوجدوا الإفلاس التام بعد ذلك، ثُمَّ بعد هذا يلتبس أمر النبي الذي يأتيه الوحي من السماء بأمر الكاهن؟


ثُمَّ أين القُرْآن من سجع الكهان؟
ولقد كَانَ العرب يحفظون ويسمعون من سجع الكهان الشيء الكثير فلا يبالون به لكنهم عند القُرْآن بخلاف ذلك، فذاك أعرابي يسمع رجلاً يقرأ قوله تعالى: ((فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً)) [يوسف:80] فيقفز من فوق الناقة ويسجد، مع أن الكلمات كلها معروفة عند العرب فاليأس كلمة معروفة عند العرب، وفي أشعار العرب، وكذلك الخلوص، والنجوى لكن نظم قوله تعالى: ((فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً))[يوسف:80] هذه لا يمكن أن يركبها عربي عَلَى الإطلاق، وأمثال ذلك كثير، أما الكاهن فإنه لو سجع ألف سجعة ما أثر ذلك في القلب، وما تحرك له ساكن؛ لأنه كلام ملفق مركب واضح الافتعال والتكلف.
  1. الفرق بين الشعر والقرآن

    وأما الشعر فإن العرب من أعلم النَّاس به ولذلك قَالَ: الوليد بن المغيرة: لقد عرفت الشعر ونظمه ورجزه وهزجه.. الخ والله ما هذا بشعر، فالناقد الذواق لا يستطيع أن يقول: إن القُرْآن شعر؛ لأنه بصير بالأوزان وبالقوافي. ولقد كانت العرب تعلق أشعارها في الكعبة وتفاخر به غيرها حتى قالوا:
    ألهى بني تغلب عن كل مكرمة            قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

    ويحفظون أبناءهم الفخر، فهل ترى أن هذه القصائد أحدثت أموراً عظاما؟!
    وهل غيرت إنساناً ضالاً فهدته؟ أو فاجراً فأصلحته وبرته؟
    وهل جاءت إِلَى إنسان ظالم مجحف فجعلته عدلاً براً تقياً؟
    الجواب: لا، لم يحدث من ذلك شيء.
  2. الفرق بين السحر والقرآن

    وأما السحر فإن مجرد الاشتراك في التأثير لا يعني أنه سحر، فقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن من البيان لسحراً}، فكل ما كَانَ مؤثراً ففيه نوع من السحر، وكل ما كَانَ دقيقاً وخفياً فإنه يسمى في اللغة سحراً، والقرآن ليس بكلام ساحر، فإذا لم يكن كلام ساحر، ولا كاهن، ولا شاعر فكلام من؟
    قالوا: مجنون! وهذه أعجب وأعجب، أمجنون يأتي بهذا الكلام؟
    وأنتم العقلاء الذين في تمام العقل والفكر والوعي، وبيدكم أزمة البلاغة لا تستطيعون أن تأتوا بكلمة واحدة أو بآية واحدة فكيف بالمجنون؟
    وإذا كَانَ المجنون يأتي بالخير ويهدي النَّاس ويخرجهم من الظلمات إِلَى النور، فأين العقلاء؟!
    فقريش مهما حاولت بالطعن في النبي -وهي أكثر ما جَاءَ في القُرْآن التصريح بكذبها، وهي التي عاندته ووقفت في وجهه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن في كلامها ولا في مواقفها ما يدل عَلَى الإطلاق بأن هناك ما يقدح في نبوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل كَانَ الإِنسَان منهم يبهره خلقه وتبهره معاملته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
  3. سراقة بن مالك وسواري كسرى

    فهذا سراقة بن مالك الجعشمي يطارد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الهجرة؛ ليفوز بالنوق التي جعلتها قريش لمن يخبر بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما ساخت قوائم الفرس في الصخر - وهذه من الله -عَزَّ وَجَلَّ- آية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعجب، وكان كلما مشى ساخت قوائم فرسه، ولا تستطيع أن ترفع يديها ليدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك لم يرد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعود خائباً، فقَالَ: { يا سراقة لم تصنع هذا؟ قَالَ: إن قريشاً قد وعدوني بكذا من الإبل، قَالَ: (أوليس لك بخير منها؟ قَالَ: وما هما، قَالَ: سواري كسرى}.
    فكان هذا الكلام غريباً عليه، وكسرى ملك الدنيا ذو الأسوار الثمينة من الذهب، ومن أفخر اليواقيت والأحجار الكريمة تصبح أساوره لهذا الإِنسَان العربي، فضحك سراقة وقَالَ: أعرابي من بني جعشم يلبس سواري كسرى! ما حلم بها سادات قريش حتى يحلم بها أعرابي من بني جعشم!
    وتمر الأيام وتنتصر جيوش الْمُسْلِمِينَ، ويدخلون المدائن فاتحين، ويأخذون كنوز البيت الأبيض، ويبعثون بها إلى عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ويأتي إِلَى سواري كسرى فَيَقُولُ: أين سراقة بن جعشم؟
    فقَالَ: ماذا تريد؟
    قال له إن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد وعدك بسواري كسرى، وها أنا ذا ألبسك إياها، ويلبسه السوارين، أليس في هذا دليل عَلَى أن هذا النبي -حقاً وصدقاً- هو نبي من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    ولهذا تحققت نبوءة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمثال هذه الوقائع الكثيرة العظيمة البينة، فهل يصح مع هذا أن نقول: إنه لا دليل عَلَى صدق النبي إلا أن يأتي بخارقة أو معجزة؟‍! لا، فهذه الدلائل العظيمة كلها تدل عَلَى أنه نبي حقاً صادق من عند الله.
  4. المعايير العقلية والفطرية تميز بين الصادق والكاذب

    والمصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ- يضرب لنا مثلاً واضحاً وهو: أن النَّاس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة حتى في الحرف الفلاحة والنساجة والكتابة، فلا يلتبس الصادق في هذه الحرف بالكاذب المدعي لها زوراً.
    ففي كل الأمور تجد أن النَّاس يستخدمون للتمييز بين الصادق والكاذب في الأمور الحياتية الدنيوية المعايير العقلية والفطرية التي وهبها الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهم، فكيف بدعوى النبوة؟‍!
    والنبي يأتي بأقوال وبأعمال، وبأوامر، ويفنى عمره كُلّه في جهاد، وفي صراع، ثُمَّ يتهم بأنه كاذب أو يلتبس هل هو صادق أم كاذب؟!
  5. الأنبياء أبعد الناس عن طلب عرض من أعراض الدنيا من أتباع الدعوة

    وإن من الممكن أن يكذب الإِنسَان لأجل عرض من أعراض الدنيا مثل أن يحصل عَلَى الأموال أو النساء أو القصور، فيدعي أنه نبي، لكن الأَنْبِيَاء فإنهم كما أخبر الله: ((قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ)) [سـبأ:47] أي: أي شيء أطلبه منكم فهو لكم، ((قُل مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)) [صّ:86]، وكل الأَنْبِيَاء قالوا: ما أسألكم عليه مالاً، ((مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)) [الفرقان:57].
  6. الأنبياء لم يورثوا مالاً

    لم يورث الأَنْبِيَاء ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {نَحْنُ الأَنْبِيَاء لا نورث ما تركناه صدقة}،
    فهل بعد هذا يتهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه يريد عرضاً من أعراض الدنيا، وإن كَانَ الأَنْبِيَاء يريدون الجاه، فلماذا قتلوا؟ ومنهم من عذب، ونبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقي من العنت والشدائد، ولقي من الأذى الشيء الكثير، إن من يحصل له هذا لا يريد الجاه وهكذا نجد أن الدلائل القطعية الثابتة عَلَى صدق نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي أبين من الشمس في رابعة النهار، وأن الذين كذبوه إنما هم كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ))[الأنعام:33].