المادة    
ننتقل سريعاً إلى مرحلة الحروب الصليبية، وفي الحروب الصليبية أو نهايتها بالذات، نجد أنها هي بداية الصليبية الحالية التي تتقنع بألف قناع وأكثر، إننا نجدها في وصية لويس التاسع، وهو أحد ملوك الصليبيين المعروفين، في وصيته التي دونها المؤرخ الصليبـي جوانفيل ودونت واشتهرت، وظهرت فيما بعد حينما أوصى بني جنسه وهو في الأسر بعد معركة المنصورة بأننا لن نستطيع القضاء على هذا الدين إلا بتغيير العقيدة، وبحرب العقيدة التي قام عليها هذا الدين، فالمسلمون أمة لا تقهر، ولن نقهرها إلا بأن نبذر بينهم الشقاق والفرقة، وذكر من ذلك الاستعانة بالنصارى المقيمين في الشرق، وذكر تفريق وتمزيق المسلمين، والاستعانة بالفرق المنشقة عن الإسلام كما سبق.
  1. التحالف الصليبي في القديم والحديث

    كانت تلك التحالفات الدنسة -التي تمت في أيام الحروب الصليبية- بين الباطنيين الحشاشين من جهة وبين العبيديين وهي الدولة التي تسمى الفاطمية من جهة، وبين الصليبيين من جهة أخرى، والكل كان يريد القضاء على الصحوة الإسلامية التي قادها نور الدين، وصلاح الدين -رحمهما الله تعالى- ثم كان التحالف الدنس بين التتار وبين الصليبيين على مستوى عالٍ، وهذا أيضاً مما ثبت.
    ثم جاءت المرحلة التالية بعد ذلك، وهي مرحلة الحملات الصليبية المقنعة بالاستعمار الحديث -كما يسمى- حيث قدمت أوروبا على العالم الإسلامي وقطعته، ومزقته إرباً، وسيطرت عليه.
    ونعود فنجد أن الصليبية واضحة أيضاً في هذه الحملة الجديدة، فعندما وقف الجنرال القائد الصليبي اللنبي الإنجليزي على جبل الزيتون في القدس وقال: ''الآن انتهت الحروب الصليبية''.
    وعندما دخل الجنرال الفرنسي "غورو" إلى دمشق، وسأل عن قبر صلاح الدين، ثم ذهب إليه وركله بقدمه وقال: ''قم يا صلاح الدين ها قد عاد الصليبيون من جديد'' وقد كان معه المخططات التي هدفت إلى نشر الحضارة الغربية -كما تسمى- وإبعاد المسلمين عن دينهم، وإقصائهم عن حقيقته، وتزويد هذه الأمة الإسلامية بهذه الحضارة الغربية، ولا يخفى على أحد مؤامرات "كرومر، ودلو"، وغيرهما ممن لا يخفى ذكرهم، ولا مجال للإطالة والإفاضة فيه.
    ولكن في نهاية الحرب العالمية الأولى، والتي كان "اللنبي، وقورو" قائدين فيها، انتهت هذه الحرب كما هو معلوم بالنقاط الأربعة عشرة التي وضعها الرئيس الأمريكي "ولسن"، والتي بناءً عليها أعطيت الدول الصليبية حق الانتداب على العالم الإسلامي.
    وإذا استعرضنا صكوك الانتداب التي وضعتها أو أقرتها "عصبة الأمم" من أجل سيطرة هذه الدول وإضفاء الشرعية على حكمها للعالم الإسلامي، نجد أن من الأهداف الواضحة فيها هو: تزويد المسلمين، أو بعبارة ملطفة: إدخال الحضارة الغربية لهذه البلاد لتفقد انتماءها وتذوب شخصيتها وذاتها، وينعدم ولاؤها الذي كان حاجزاً قوياً لا يكسر -ولاؤها للمؤمنين وعداؤها للكافرين-.
    وظهرت نتيجة لذلك الدعوات المحمومة التي تنادي بالتعاون الدولي، وبالنصر الدولي، والأخوة الإنسانية، وهي الشعارات الزائفة التي وضعتها الماسونية وأخواتها وأذنابها، وما زالت الستار الخداع لما يديره الغرب من مؤامرات لهذه الأمة، وإن كان يكشر عن أنيابه في أحيانٍ كثيرة، ومن ذلك أنه انتهج المنهج الذي يعتبر أكثر خطورة ولؤماً، وهو نبش الفرق القديمة وإحياؤها، وإن كان ولا بد للمسلمين من تدين ورجوع إلى دينهم، فليكن إلى تلك الفرق التي يعلمون هم أنها أبعد شيء عن السنة، وعن حقيقة هذا الدين، ومن هنا يلتقي فكا الكماشة قديمها وحديثها.
    وانظروا إلى كتب الفرق التي حققها المستشرقون، فهي في الغالب تهدف إلى هذه القضية بالذات: إحياء الفكر الاعتزالي بحجة أنه يمثل تيار الحرية الفكرية في الإسلام، وإحياء أو نشر كتب الباطنية والروافض والصوفية على أنها تمثل مرحلة النضوج أو العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، وهو القرن الثالث أو الرابع -كما يزعمون- حيث أصبحت الثقافة متناولة أو ملقحة بالأفكار الهندية، والأوروبية، وغيرها من الثقافات بخلاف العصر الأول الذي يعدونه مجرد بداية لنشوء أو لوجود الأمة العربية كما يسمونها.
  2. الحروب الصليبية في العصر الحديث

    نجح الاستعمار بعد خروجه، أو بعد أن رأى أن يخرج، وبعد أن أجبر أحياناً على أن يخرج في أن يوجد البديل من أبناء جلدتنا، وممن يتكلمون بلغتنا، ويتمثل ذلك في أحزاب الضلال، والأحزاب القومية التي ظهرت، وجعلت القومية كما ذكر "فرناند لويس، وبرنداون" وغيرهما كثير جداً ممن لا يحصون : أن القومية أحلت محل الإسلام في العالم العربي، وهي المبدأ الذي عانت منه أوروبا في القرن التاسع عشر، ولفظته ورفضته في القرن العشرين، قرن الأحلاف والتكتلات الكبرى.
    زُرِعَتْ الأحزاب القومية ثم جاءت موجة الاشتراكية في أوائل الستينيات وما بعدها، وأصبحت كلمة الدين لا تطلق، وإنما المستخدم دائماً بدلها هو كلمة الرجعية أو التخلف، وحورب الدين حرباً لا هوادة فيها، حرباً صريحة معلنة، واستوردت أعتى وأشد المذاهب إلحاداً كـالماركسية، حيث أرغمت كثير من الدول والشعوب الإسلامية على أن تكون ماركسية بقوة الحديد والنار، ودول أخرى حكمتها العلمانية باسم القومية، وتارةً باسم الاشتراكية.
    إضافة إلى نبش تيار الوثنية -أو ما يسمونه الوطنية- وإعادة الجذور الجاهلية القديمة كما نصت عليه صكوك الانتداب نفسها ببعث الآثار القديمة، فأصبح المسلم في مصر ينتمي إلى الفرعونية ويفخر بها، وفي بلاد الشام والعراق يفتخر بالآشوريين والبابليين والفينيقيين، وهكذا في كل بلد نبشوا الحضارات القديمة ليفتنوا المسلم عن عقيدته وعن ولائه وبرائه، ليظل أسير هذه المفاخر الكاذبة الماضية التي لا تعطيه شيئاً في حاضره ولا في مستقبله، ويصبح الباب الوحيد المفتوح أمامه للرقي والتقدم والحضارة هو اللحاق بالفكر الغربي، والارتباط بالحضارة الغربية وبموكبها الشيطاني الزائف.
    واستطاعوا أن يجدوا لهم من هذه الأمة من يجند لخدمة أهدافهم مع إبقاء اللباس الإسلامي عليهم، وحصل ذلك في بداية البعثات، كما وجدوا في كتابات"رفاعة الطهطاوي" ثم بعد ذلك مدرسة "جمال الدين الإيراني" المسمى بـالأفغاني، والشيخ/ محمد عبده وما نتج عنها، والكواكبي، وأشباههما.
    ثم في تيار جديد أرادوا في المرحلة الأخيرة بعد فشل الأيديولوجيات الغربية جميعها وانهيارها في العالم الإسلامي، أرادوا أن يوجدوه وأن يظهروه في ثوب جديد، وأن يعطوه الفرصة لضرب الدعوة الإسلامية الحقيقية، وهو ما سنتحدث عنه -إن شاء الله- بما سيفتح الله تعالى به، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
  3. مقدمة لمذهب عصرنة الإسلام

    يقول المقدم:
    جزى الله الشيخ/ سفر على هذا الإيجاز السريع لهذا الموضوع الهام.
    حقيقةً يصعب الاختيار في التيار الذي نريد أن نتحدث عنه بشيء من التفصيل، وذلك لأننا لو أردنا أن ننظر إلى خطورة التيار المختار فكلها مشتركة في تلك الخطورة، وإذا كنا نريد أن ننظر إلى قوة تأثيرها في البناء الإسلامي، فكلها -والله- مؤثرة، وإن قلنا: ننظر إلى جهة إحرازها إلى بعض ما كانت تصبو وتهدف إليه،فكلها -والله- قد وصلت إلى بعض ما كانت تصبو إليه.
    إذاً: يمكن أن نختار من هذه التيارات تياراً قديماً حديثاً في آن واحد، وإن كان يحمل في العصر الحاضر هدفاً قد لا يطرأ على السابقين، والمؤسسين إلا أن أولئك قد فتحوا الباب والمجال له، وهؤلاء نفذوا من هذا المدخل "عصرنة الإسلام " أو محاولة تطويع الإسلام للحضارة الغربية، هذا من أقوى التيارات القائمة الآن، وقد سُخرت الأقلام إلى نشره وبيانه والدعوة إليه، بل إنه قد طبق في مجالات كثيرة فعلاً في كثير من بلدان المسلمين.
    هذا الهدف -وإن كان هدفاً قديماً- بدأ في أوائل هذا الغزو الفكري، وكان أحد الألمان المستشرقين الذي كتب كتابين في خدمة هذا التيار أحدها باسم "عصرنة الإسلام"، وفرق فيه بين الإسلام في العصور الوسطى، والإسلام الحديث الذي يجب أن يكون عليه الإسلام، وهذا لعله من أوائل من تحدث في هذا الموضوع أو فتح الباب للحديث في هذه القضية.
    ولهذا التيار مداخل متعددة، وأول هذه المداخل : الطعن في مصادر هذه العقيدة وهذا الدين، ولا يخفى على عاقل أن الطعن في الأصول والمصادر طعن في الأصل، والطعن في حملة هذه الأصول هو طعن فيما يحملون، وقد سلط الضوء على السنة النبوية، خاصة في هذا العصر وفي هذه الأيام بالذات، لمحاولة الطعن فيها بكثافة، وإن كان هذا ليس بجديد، إلا أنه يخدم أهدافاً بعيدة قد لا تطرأ على المشاركين والحاملين لهذه الأقلام في هذه القضية.