المادة    
قول المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[فإن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين، أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا عَلَى أجهل الجاهلين، بل قرائن أحوالها تعرب عنهما، وتعرَّف بهما، والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة، فيما دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة؟ وما أحسن ماقال حسان رضي الله عنه:
لو لم يكن فيه آيات مبينة            كانت بديهته تأتيك بالخبر].

الشرح:
من أعظم الأدلة التي ينبغي أن يعيها كل إنسان منا، وأن يقيس بها بقية الأمور: أن النبوة ليست أمراً هيناً، وليست أمراً عادياً يمكن أن يدعيه كل أحد، وأن يكذبه فيه أي أحد.
إن مسألة النبوة شأنها عظيم جداً، فلن يدعيها إلا أحد اثنين: إما أصدق الصادقين، وإما أكذب الكاذبين، فلا واسطة بينهما بإطلاق.
وأي حرفة أو مهنة أو صنعة من الصناعات قد يدعيها من يتقن بعضها أو جزءً منها، وقد يصدقه البعض، وقد يكذبه البعض الآخر دون أن يؤثر ذلك كثيراً، إلا النبوة فإن مدعيها: إما أن يكون صادقاً حقاً، ويلزم من ذلك اتباعه في أوامر عظيمة، وأن الذي يأتي به هو الحق، وإما أن يكون كذاباً حقاً، فيلزم من ذلك أن يكون كل ما يأتي به ضلالاً ومحقاً واعوجاجاً وانحرافاً، ولا يخلو الأمر من أحد هذين التقديرين أبداً.
  1. للنبوة قرائن وأحوال تعرف بها

    ثُمَّ ذكر المُصنِّف أنه لا يلتبس أصدق الصادقين، من أكذب الكاذبين حتى عَلَى الجاهل الأمي، فإنه يستطيع أن يميز بقرائن الأحوال، وهنا مبحث يسمى مبحث حصول العلم، متى يكون العلم نظرياً؟ومتى يكون قطعياً؟ وهو يبحث في علم الأصول، ويبحث في كتب العقائد. والعلم القطعي هو الذي تجد في نفسك قطعاً أنك مصدق به بأي دليل من الأدلة، أما العلم النظري فهو العلم الذي يحتاج إِلَى استدلال وتفكير..
  2. النبوة علم ضروري وبيان خطأ المتكلمين في ذلك

    والمتكلمون يقولون: إن النبوة علم ضروري، فالعلم بنبوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العلم الضروري، والخطأ الذي يقعون فيه أنهم يحصرون العلم الضروري بمصادر محدودة، وينسون أن له مصادر ومجالات أعظم مما يحدونه به.
    ومن ذلك مثلاً: ما يقال في علم الكلام أو في كتب العقائد: أن من أهم السبل لحصول العلم الضروري القطعي طريق التواتر، فإذا أصبحت المسألة متواترة، لم تعد تحتاج إِلَى عرضها عَلَى العقل، ولا إِلَى النظر والتفكير، أو أنها صحيحة موجودة أم لا؟
    وأصبح يُتكلم عنها كأنها حقيقة ترى بأم العين، هذا هو العلم القطعي الذي كَانَ سببه التواتر،والتواتر: هو أن جماعة كثيرين من النَّاس يستحيل في العادة أن يتواطئوا ويتفقوا عَلَى الكذب، فينقلون هذا الشيء ويتحدثون عنه.
    والناظر إِلَى دلائل نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى آياته يجد أن كل آية منها حصلت عن طريق التواتر إلا القليل، مثل القُرْآن المنقول إلينا عن طريق آلاف الأسانيد والأمة كلها مجمعة عليه.
  3. العلم القطعي يحصل أيضاً بطريقة القرائن

    هناك شيء أعظم من الطريق الذي قاله المتكلمون وهو حصول العلم القطعي عن طريق القرائن التي قد تأتي عن خبر الواحد، أو حتى بدون خبر فتدل عَلَى القطع وعلى الضرورة.
    ومثاله: لو أنك مشيت فرأيت بيت القاضي وحوله أناس مجتمعون عَلَى وجوههم الوجوم والحزن والأسف، ثُمَّ رأيت الحرس واقفين مصطفين باتجاه المقبرة مثلاً، ثُمَّ رأيت من يأتي بسيارة إسعاف، ورأيت أشياء تدل بواقع الحال عَلَى أن هناك موتاً، وفي هذا الوقت لو جاءك أحدٌ ولو كَانَ طفلاً صغيراً وقال أما تدري أن القاضي قد مات، لاستيقنت قطعاً أنه قد حصل الموت، بخلاف ما لو كنت مثلاً راكباً في الطائرة وقال لك أحد الناس: إن القاضي قد مات، لم يكن هذا قطعاً لك بصدق الخبر، فإذاً القرائن والملابسات تؤدي إِلَى العلم القطعي.
    وعليه فليس من الشرط لحصول العلم القطعي التواتر؛ بل اليقين القطعي قد يحصل بقرائن الأحوال.
  4. قرائن أحواله وسيرته صلى الله عليه وسلم أبهرت العقول

    إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد احتفت بسيرته وبأحواله وبكلامه من قرائن الأحوال العجيبة ما يبهر العقول فـأم معبد ينزل عندها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخيمة وهو عابر سبيل فتقطع بأنه نبي مرسل.
    والرجل الأعرابي يسمع أن هناك نبي ظهر فيقول أين هو؟
    فيرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: {والله ما هذا بوجه كذّاب}، وإن قالت قريش إنه كذّاب، ما نطق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا قلب العصى حية، ولا أخرج يده فإذا هي بيضاء للناظرين؛ بل هي قرينة حاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو لم يكن هناك أي آيات إلا أن بديهته تأتيك بالخبر لكفى بذلك برهاناً ساطعاً عَلَى صدق نبوته.
    ولذلك نجد السيرة كلها محفوفة بما يدل عَلَى نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما هو في كتاب دلائل النبوة للبيهقي، وهو -رحمه الله تعالى- من المحدثين المهتمين بعلم الحديث، والنقاد الذين لهم خبرة ودراية بهذا الفن، ألف كتاباً بعنوان دلائل النبوة، فما هي دلائل النبوة التي جمعها وألفها البيهقي؟
    هل تراه ألف في الأمور الحسية وخوارق العادات فقط؟!
    لا، إنما هو كتاب عن سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنه من سيرة ابن هشام، فيذكر حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغزواته وأموره وأعماله، ففي كل غزوة وفي كل عمل من أعماله بينة تدل عَلَى صدقه.
    كما في بدر وفي الهجرة، وفي معاملته مع أزواجه، وفي معاملته مع اليهود، وفي معاملته مع الْمُشْرِكِينَ، وفي كتبه التي كاتب بها الملوك، كل ذلك دال عَلَى نبوته.
    وانظر التشريعات التي يأتي بها، فكلمة واحدة يقولها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصبح قاعدة من أعظم القواعد التي ترجع إليها أصول عظيمة من أصول التشريع، مثل: {لا ضرر ولا ضرار} ومثل: {الضمان بالخراج} يعجز أن يأتي بمثل هذه العبارات والتشريعات القانونيون الوضعيون أو المفكرون المبدعون، أو أن يشبه أحد من هَؤُلاءِ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو أجل وأرفع من ذلك؛ لأنه يتكلم بكلام من عند الله وبنور الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فسيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حفت بقرائن كثيرة تدل عَلَى صدقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك كل أمر من أموره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    ولذلك يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز، فإن الرَّسُول لا بد أن يخبر النَّاس بأمور ويأمرهم بأمور، ولا بد أن يفعل أموراً يبين بها صدقه. والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به ويخبر عنه وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة، والصادق ضده بل كل شخصين ادعيا أمراً، أحدهما: صادق، والآخر كاذب. لا بد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا] كما سيأتي شرحه.
  5. هرقل يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة في مناظرته لأبي سفيان

    إن من أعظم المناظرات في التاريخ هذه المناظرة التي جرت بين أبي سفيان وبين هرقل في شأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فزعيم أعظم أمة متحضرة في العالم في ذلك الحين -الأمة التي تحمل لواء الحضارة العالمية وتسيطر عَلَى نصف العالم الغربي- يناظر العدو اللدود للدعوة آنذاك والذي يرفع لواء محاربة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أبو سفيان فذاك يسأل وهذا يجيب.
    ومن المعلوم أن هرقل ليس بمتهم أن يمالئ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو يجامل معه، وما الذي يدعوه إِلَى ذلك وهو لا يعرفه؟ وكذلك أبو سفيان ليس بمؤمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يداري في الجواب ليجامله، بل كَانَ يتحين الفرصة للطعن في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    ولذلك لم يجد مطعناً يمكن أن ينفذ منه إلا لما قَالَ: {وبيننا وبينه عهد لا ندري ماذا يفعل؟} ولم يستطع أن يتهمه أنه غادر أو كاذب، ثُمَّ تكون النتيجة بعد تلك المناظرة الاقتناع بصدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    فلا يمكن أن يلتبس أمر من يدعي النبوة وهو كاذب بأمر الرَّسُول حقاً، ولا سيما نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    وقضية استلزام الصدق للبر والتقوى واستلزام الكذب للفجور، هذه حقيقة يعرفها كل واحد من الناس، حقيقة يتعامل بها النَّاس حتى بين الكفار بعضهم مع بعض: يعلمون أن من لوازم استقامة هذا الرجل أنه لا يكذب، وفي المقابل من عرف عنه أنه يكذب فمن غير المستبعد أن يسرق أو يختلس، وهكذا تلازم هذه الأمور هو كما ذكر -رحمه الله تعالى- هنا.