المادة    
وقد ادعى قوم الخروج عن دائرة العبودية ومقتضاها إِلَى شيء آخر وهم فئتان: الأولى: الفلاسفة، والثانية: الصوفية الغلاة، هذا في القديم، وفي عصرنا هذا برز غير ذلك -مما سنذكره إن شاء الله- ممن ادعو الخروج عن مقتضى العبودية، وزعموا أن الكمال؛ إما أنه في درجة الأعلى من العبودية، أو أن الكمال يتحقق بغير العبودية لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهاك بيان موقف هذه الفرق:
  1. الفلاسفة والعبودية

    يقول الفلاسفة: كمال النفس في أن تعلم، وأن تكون عَلَى مقتضى الحكمة، أي: أن يكون لديها علم، وأن تكون أخلاقها وتصرفاتها عَلَى مقتضى الحكمة العقلية التي يرونها، قالوا: فليس هناك من ضرورة، ولا داعٍ يوجبُ أن يكونَ الإِنسَانُ عبداً لله، وأن يندرج تحت العبودية الشرعية إذ لو أن إنساناً بمقتضى حكمته العقلية يتحلى بالأخلاق الفاضلة، والمعاملات الجميلة التي يتكلم عنها الحكماء في كتبهم وتزين بها، وطبقها لاستغنى عن أن يكون عبداً ولما احتاج أن يدخل تحت هذه العبودية.
    وبالغ بعضهم في ذلك فقَالَ: إن النَّاس أكثرهم جهال وعوام، والحكمة العقلية لا يفهمها كل أحد ولا يمكن أن يكون النَّاس عَلَى مستوى يفهمون فيه كلام الحكماء والفلاسفة.
    فجاء الأَنْبِيَاء بالوعد والوعيد، والأمر والنهي، والجنة والنار؛ لأنها هي التي تشوق الجماهير وتجذبهم وتجعلهم يعملون الخير، بخلاف ما لو كَانَ كلاماً عقلياً فإنه لا يؤثر، فلذلك فإن هذه الشرائع التي جَاءَ بها الأَنْبِيَاء تصلح للجمهور؛ لكن الإِنسَان الفاهم -الذي يفهم بعقله كل شيء- لا يحتاج إِلَى أن يندرج تحت شرائع الأنبياء، هذا إفكهم وما كانوا يفترون، وهذا كلامهم الذي قالوه من قبل بعثته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قاله فلاسفة اليونان، ثُمَّ جَاءَ من يسمون فلاسفة الإسلام، فادعوا ذلك وزعموه ومنهم: ابن سينا والفارابي ومنهم إِلَى حد ما ابن رشد.
    ولذلك قال بعضهم: إن الشريعة -التي هي الدين- والحكمة -التي هي الفلسفة- شيء واحد وتدعونا إِلَى شيء واحد وطريق واحد، وأنهم اختبروا جميع الشرائع، ووجدوا أن أفضلها: هي شريعة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك يرتاحون لها ويقولون: لو أخذ بها الإِنسَان لكان حسناً.
    فكل مكارم الأخلاق التي يتكلم عنها جاءت في هذه الشريعة وهذا منهج صحيح؛ لكنهم لا يوجبون دخول الإِنسَان تحت هذه الشريعة، كما نلاحظ اليوم من بعض المستشرقين، أو الكتاب الأوروبيون، فإنهم يثنون عَلَى الإسلام أنه جَاءَ بالأخلاق الراقية في حقوق المرأة، وفي أنظمة الحكم، ويمدحونه مدحاً طويلاً قد لا يكون لنا عليهم مأخذ في نفس المدح، وبقدر ما يكون الكلام كله مدحاً حقيقياً وصحيحاً؛ لكن لا يرى أنه يلزمه أن يدخل في هذا الدين.
  2. غلاة الصوفية والعبودية

    موقف غلاة الصوفية قد أوضحناه في أول الكتاب عندما تحدثنا عن توحيد الربوبية حيث ذكر المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- أن: غلاة الصوفية: يجعلون توحيد الربوبية هو غاية التوحيد، ومما أوضحنا به ذلك وشرحناه أننا قلنا: إنهم يرون أن العبد يترقى في مشاهدة الحقيقة -ويسمونها مشاهدة القدر أو شهود الحقيقة الكونية- حتى يصل به الأمر إِلَى أن يرى أن كل شيء في هذا الوجود إنما يحركه في الحقيقة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: فالله هو الذي يسيره ويحركه، قالوا: إذا آمن الإِنسَان بهذا الشيء، وازداد الإيمان حتى يصل إِلَى أنه لا تأثير لشيء ولا فاعل في الوجود إلا الله، فحينئذ لا فرق بين أفعال من يصلي وبين أفعال النائم فكلها في الحقيقة بالتأمل وبالفهم العميق: أفعال لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    فهم بهذا الزعم -التوحيد الحقيقي شهود الحقيقة الكونية وتوحيد الربوبية الذي هو الكامل كما يزعمون ويسمونه توحيد خاصة الخاصة- يضيعون حقيقة الدين ويسقطون التكاليف، وبعضهم يصل به الأمر في هذا إِلَى الحلول والاتحاد -والعياذ بالله- فينتقل من دعوى أن فعله هو فعل الله إِلَى دعوى أعمق من ذلك فَيَقُولُ: تعمقتُ فترقيتُ فرأيتُ أنه ما في الوجود إلا هو فقط.
    فيصل والعياذ بالله إِلَى الكفر، وإن كَانَ الأول كفراً لكن هذا القول الأخير يصل بهم إِلَى الكفر الصراح التي تترفع عنه أية نفس.
    فلذلك يخيل لهم الشيطان هذه الأمور، ويزينها لهم بسوء أعمالهم وبتركهم للعبادات، فينقطعون عن العبادات وعن الفرائض، وعن الجمع والجماعات، ويقولون: نَحْنُ بلغنا الحقيقة فرأيناها، ووصلنا إِلَى اليقين الذي قال الله تَعَالَى فيه: ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)) [الحجر:99].
    فقالوا: إن العبادة لها أمد فإذا جَاءَ اليقين انتهت، وهذا من أكذب أنواع الافتراء عَلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لأن الذي أمر بهذه الآية هو: نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد طبقها وقد عمل بها وظل عَلَى العبادة من صلاة وذكر وغير ذلك، ولم يخرج عن العبودية إِلَى أن جاءه اليقين الذي هو الموت، كما جَاءَ في الحديث الصحيح الآخر: {أما فلان فقد جاءه اليقين من ربه} أي: جاءه الموت؛ لأن اليقين: هو الموت، فمعنى الآية: واعبد ربك حتى يأتيك الموت، وحتى يقبضك ربك إليه،
    فهَؤُلاءِ الملاحدة يقولون: إن حقيقة العبودية -عندهم- هي: شهود الحقيقة الكونية
    ، ولذلك لا يرون أن الصلوات الخمس والعبادات التي نفعلها نَحْنُ الآن؛ إلا مجرد مظاهر أو وسائل عَلَى الطريق التي عندهم
    وهم يقسمون الطريق إِلَى ثلاث مراحل:
    المتعلم وهو الذي يسمى مريداً وهو: المبتدئ.
    ثُمَّ السالك: وهو الذي مشى في الطريق مراحل.
    ثُمَّ الواصل: وهو الذي سقطت عنه التكاليف، ولم يعد بحاجة إِلَى أن يعمل أعمال المريدين، أو السالكين الذين هم بحاجة للعبادة ليريحوا أنفسهم.

    1) أحوال الخارجين عن دائرة العبودية عند الموت:
    مما يكشِف ويدل عَلَى أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد جعل أمثال هَؤُلاءِ النَّاس فتنة لغيرهم وابتلاهم وفتنهم في أنفسهم ما يروى من أحوالهم عند ما جَاءَ الموت لـابن الفارض ولـابن سبعين وهما من كبار الدعاة إِلَى هذا المذهب، وهو سقوط العبادات والتكاليف، والوصول إِلَى الحقيقة الكونية، والحلول والاتحاد أو الفناء كما يسمونه، كلها مترادفات أو متداخلات في التعبير عن هذه القضية وابن الفارض هو في الحقيقة من الدرجة الأولى في الشعراء، حتى قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ - ومنـزلة شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في اللغة والشعر معلومة ليس فقط في العلوم الشرعية، بل هو في سائر العلوم حتى في علوم اللغة وتذوق الشعر -: إن هذا الرجل وأمثاله قدموا لحم الخنزير في طست من الذهب، فهَؤُلاءِ أتوا بالشعر الراقي الجميل - أي ابن عربي وابن الفارض - لكن؛ الذي يتضمن الحلول والاتحاد ووحدة الوجود والشرك والزندقة -نسأل الله العافية- فالآلة عاليةٌ قيمةٌ لكن المضمون والمحتوى سيء وخبيث وقبيح فلما حضرت وفاة ابن الفارض قَالَ:
    إن كَانَ منزلتي في الحب عندكم            ما قد رأيت فقد ضيعت أحلامي
    أمنية ظفرت نفسي بها زمناً            واليوم أحسبها أضغاث أحلام
    عندما عاين ملائكة العذاب؟ أراد الله أن يدينه بلسانه ليسمع المريدين الذين حوله. فقَالَ: كَانَ يظن أنه يترقى حتى حلت فيه الألوهية، وإذا به في الأخير يكتشف أنه عبد مخلوق ذليل حقير، وأن ملائكة العذاب قد دنت لتنتزع منه هذه الروح، فهذا المسكين متى صار إله ومتى حل في الله ومتى اتحد في الله؟! كله كلام فارغ لا قيمة له، عند الموت تتجلى الحقائق تماماً، ولذلك لا يَثْبُتَ إلا من ثبته الله -عَزَّ وَجَلَّ- من كَانَ في الدنيا ثابتاً عَلَى الإيمان والتقوى والاستقامة، ثبته الله -عَزَّ وَجَلَّ- عند الموت كما أخبر تَعَالَى بقوله ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)) [إبراهيم:27].
    ولكن أُولَئِكَ الزائغون المنحرفون الضالون، مهما تصنعوا في الدنيا ومهما جاءوا بالتأويلات والشبهات والعلل وادعوا أنهم أهل الحق، فعند الموت تتطاير وتتبخر وتتلاشى ولا يبقى إلا الحق واليقين فـابن الفارض رأى ملائكة العذاب ورأى أن الأجل قد قرب منه فأظهر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ذلك عَلَى لسانه، وقال هذين البيتين: الأمنية التي عاش عمره كله يحلم بها أصبحت أضغاث أحلام، ليس فيها أي حقيقة عَلَى الإطلاق.

    وأما ابن سبعين فإنه يُحكي عنه مريدوه: أنه لما جاءه الموت وأراد أن يفيض اضطرب وخاف أو جزع، فَقَالَ له أحد مريديه: مالك يا شيخ؟ ما الذي تخاف منه؟ وأنت الذي كَانَ المريد يدخل عندك فيجلس ثلاثة أيام فيخرج وهو ولي من الأولياء في الطريقة، فما الذي يخيفك؟ فَقَالَ له: كل ذلك الآن لا حقيقة له.
    الآن لما رأى سكرات الموت لما بدأ يشعر بالانقطاع من الدنيا والإقبال عَلَى الآخرة قَالَ: كل ذلك لا حقيقة له، وليس بصحيح، لا الخلوات ولا الأذكار المنقولة ولا الدرجات كل تلك الفلسفات سقطت، وهو الذي بلغ به الفجور وركوب الرأي عَلَى غير هدى وبصيرة -نسأل الله العافية والسلامة- إِلَى عمى البصيرة، حتى أنه جاور بـمكة وذهب إِلَى غار حراء وكان ينام فيه الليالي ويطمع أن ينـزل عليه الوحي، ولما سمع رجل قال له: إن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لا نبي بعدي قال - والعياذ بالله -: (لقد حجَّر واسعاً) أي: ضيق شيئاً واسعاً؛ لأنه -نسأل الله العافية- كَانَ عَلَى نظرية الفلاسفة الذين يقولون: إن النبوة مكتسبة، وليست موهوبة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإنما هي مكتسبة يجتهد الإِنسَان كما يزعمون حتى يصل إِلَى الولاية، والولاية عندهم أعظم من النبوة، الولي عندهم فوق النبي وأعظم-فنسأل الله السلامة-
    وهكذا كَانَ ابن سبعين يفعل بـمكة، فلما جاءه الموت تلك اللحظة وجاء التلميذ يريد أن يطمئنه كما طمئن عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عمرَ بن الخطاب قال له: أبشر يا عُمَر، فوالله لقد كنت تحكم بالعدل، وقد بشرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجنة فأخذ يبشر عُمَر ويقول له، ذلك لأنه عَلَى الحق والحقيقة فصدقه عُمَر ولكن قال له أيضاً: إنما خوفي عليك وعلى أمثالك.
    فكأن عُمَر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يقول: إنما أجزع وأخاف عَلَى الرعية وعُمَر لما كَانَ مبشراً بالحق، رضي واطمأن، ومن السنة أن الإِنسَان إذا حضر إِلَى رجل قربت وفاته، أن يأتيه بالرجاء، ولا يذكر له الخوف والترهيب وإنما يأتيه بالترغيب، وما وعد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- للمؤمنين {وأن الله تَعَالَى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} وأنه لو كَانَ آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة وأمثال ذلك
    .
    فتلاميذ هذا المسكين الضال الزائغ جاءوا من هذا الباب: أرادوا أن يذكروه، فَقَالُوا: أنت الذي في ثلاثة أيام يأتيك المريد ويخرج ولياً من أولياء الله؛ تخاف من أي شيء؟ فقَالَ: كل ذلك الآن لا حقيقة له تبين له أنه لا حقيقة له، نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
    2) شبهة من يقول بالخروج عن العبودية والرد عليهم:
    ومما استدل به من يخرج عن العبودية، أن موسى -عَلَيْهِ السَّلام- لما ذهب إِلَى العبد الصالح الخضر وكان عَلَى غير شريعة موسى وهو حق فَقَالُوا: إذاً الولي لا يدخل تحت شريعة النبي، لأنه قد تلقى العلم اللدني
    ((وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)) [الكهف:65].
    وهذا القول يعلم بطلانه، لأدلة كثيرة منها أن شريعةَ موسى عَلَيْهِ السَّلام شريعةً محدودة بعثه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إِلَى قومه، ((أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّه)) [إبراهيم:5]، فموسى لم يقل له: ((لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)) [إبراهيم:1]، وإنما: ((أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ)) والذي أمره الله أن يخرج النَّاس من الظلمات إِلَى النور، هو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعث للناس كافة ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيرا)) [سـبأ:28] فالعالمية في الرسالة لمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما موسى فإنه في نفس الحديث الذي جَاءَ فيه قصة الخضر وموسى، قال له الخضر: {يا موسى أنت عَلَى علم علمك الله إياه لا أعلمه، وأنا عَلَى علم علمني الله إياه لا تعلمه} فهذا نبي وهذا نبي، وليس هناك شك في أن موسى هو أعلى درجة عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- من الخضر؛ لأنه من أولي العزم -رغم ما فعل موسى -عَلَيْهِ السَّلام- حينما ألقى الألواح، ورغم أنه لما وجد أبانا آدم أنكر عليه فقَالَ: {أنت الذي خيبتنا وأخرجتنا من الجنة} ويكون موسى -عَلَيْهِ السَّلام- في هذه المواقف عَلَى غير الأولى أو في جانب الخطأ، ورغم كل ذلك لم تنـزل درجته؛ لأنه من أولي العزم الذين جاهدوا في الله الجهاد العظيم الذي تلاه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وفصله علينا، وقاوم أكبر طاغوت في تاريخ الأمم الماضية، وهو فرعون.
    فالحاصل أنه ليست درجة الخضر كدرجة موسى،
    مع أن هذا نبي وهذا نبي، وإنما أراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- لموسى أن يتلقى عن الخضر لحكمٍ عظيمة ذكرها العلماء منها أن لا يدعي أحد العلم المطلق، أو أنه يعلم كل شيء.
    لكن نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن قبله ولا بعده، ولا في عصره من يمكن أن يتلقى عنه الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أية حال من الأحوال، لأنه هو المبلغ العام للبشرية عامة عن الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فلا أحد أعلم منه بالله أو بدينه في أي أمر من الأمور، وهذا مما يفضل به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سائر الأنبياء.
    فهذه شبه القوم، وردها واضح -إن شاء الله-
    ولهذا ذكر الشيخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللَّهُ- من جملة نواقض الإسلام العشرة: من اعتقد أن أحداً يسعه الخروج عن شريعة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى؛ ونص عَلَى المثال ليعلم المراد من قوله أن هذا الاعتقاد مخرج لصاحبه من الملة؛ لأن من ادعى أنه خارج عما ذهب إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يحكم تلقائياً عَلَى نفسه بالخروج من الملة والخروج من الدين.
    3) شبهات الفلاسفة والرد عليهم:
    أما الفلاسفة فمن الواضح كونهم يزعمون أن الحكمة العقلية تغني عن الشرائع الدينية والنبوية، وهذه الرد عليها واضح؛ لأن العرب الذين بعث الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم، كَانَ لديهم الحكماء وكان عندهم ذو الأصبع العدواني وأكثُمَّ بن صيفي وقس بن ساعدة، كل هَؤُلاءِ كَانَ عندهم الحِكَم في أشعارهم، وأقوالهم ولكن لا قيمة لهذه الحكمة ولا قيمة للتحلي بأمثال هذه الأخلاق في نجاة العبد من عذاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأنها مثل شجرة مقطوعة لا صلة لها بالحياة، ولا صلة لها بالأرض فلا تنمو، فهي خشبة جوفاء، بخلاف الإيمان الذي هو شجرة نامية.
    فأخلاق العرب مقطوعة عن الإيمان والإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يترتب عليها فلاح في الدنيا، ولا نجاة يَوْمَ القِيَامَةِ من عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإنما غاية ما فيها أن يُقال عن الإِنسَان: إنه حسن الأخلاق، وجزاؤه يأخذه في الدنيا مقدماً كما جَاءَ في حديث الثلاثة الذين قاتل أحدهم ليقال له شجاع، قيل له: إنما قاتلت ليُقال لكَ شجاع، فقد قيل أي: أخذت الجزاء. والآخر المنفق يُقال له: إنما أنفقت ليقال لك جواد وقد قيل، ما الذي تطمع فيه بالآخرة كيف ترجو الآخرة.
    وكذلك القارئ ليُقَالَ: قارئ وقد قيل، إذاً ما دام أنه قد قيل انتهى؛ لأن هذا هو المراد.
    فمهما قلنا عن هَؤُلاءِ الناس، فإنما ينالون جزاءهم في الحياة الدنيا
    والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لما بعث الأَنْبِيَاء بعث أكمل النَّاس عقولاً, فإنه جعلهم هم الأَنْبِيَاء وآتاهم الحكمة، وأعظم الحكمة هي توحيد الله وطاعة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هذه هي الحكمة الحقيقية ولذلك في سورة الإسراء بعد أن ذكر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الوصايا التي تزيد عَلَى ثمانية عشر وصية قال في آخرها ((ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَة)) [الإسراء:39] الحكمة تعني: أن ترك الشرك، والتوحيد، وبر الوالدين والإنفاق المعتدل -لا إسراف ولا تقتير- من الحكمة، والوفاء بالكيل والوزن، وترك الفواحش من الحكمة، كل ما ذكره الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في تلك الآيات هي الحكمة الحقيقية، والتي من عمل بها بلغ غاية الحكمة فنجد أن ما يقوله الفلاسفة ويتكلمون به من المثاليات الجوفاء.
    ونجد أن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأولياء الله وعباده الصالحون: يحققونه واقعياً، حتى أن العامي من الْمُسْلِمِينَ يفعل من الأخلاق مالا يفعله غيره ممن يعلم ضرر وخطأ وخطر البعد والخروج عن مقتضى العقل والحكمة، ومع ذلك يفعله لوجه الله وعلى منهج صائب وطريق مستقيم.
    لكن لو تركت العقول كما تشاء، لاختلف النَّاس فيقول أحدهم مثلاً: من الحكمة أن الإِنسَان لا يتزوج إلا زوجة واحدة، بالمقابل، هناك عقول أخرى قالوا: ما المانع من أن الإِنسَان يتزوج مائة لو استطاع، ليس هناك مانع في العقل ولا في الحقيقة، لكن الدين حدد أربعاً.
    إذاً عرفنا أن الخمس خارجة عن الحكمة، والذي يدعي أن الأربع منافية للحكمة فهذا قد نافى الدين، فهنا أمر ديني حدد لغير مقتضى عقلي يفرض الأربع أو الثلاث، وإنما هذا تشريع رباني فوق العقول البشرية، وفوق إدراكها، فجعل هناك حداً فما بعده لا يجوز الزيادة عليه.
  3. الطائفة الثالثة دعاة الحرية وموقفهم من العبودية

    وهي ليست طائفةً بالمعنى الصحيح، ولكن هي اتجاه فكري، ولم تكتب عنهم الكتب السابقة، لأنهم لم يكونوا قد برزوا في هذا الوضوح.
    دعاة الحرية أو التحرر في العصور الأخيرة عصور الإلحاد في أوروبا، والتي انتقلت إِلَى بلاد الْمُسْلِمِينَ فإذا قلت لأحدهم: هذا حرام يقول لك: أنا حر، ولو دققنا في الكلام لوجدنا أن مفهوم كلامه: أنه خارج عن مقتضى العبودية والشرع ودائرة الحلال والحرام، الذي جَاءَ في الشريعة، فيقول لك: انا حر إذا قلت له يا أخي ألبس زوجتك الحجاب، وإذا قلت: يا أخت تحجبي، قالت: أنا حرة سُبْحانَ اللَّه!
    فما معنى ذلك؟ إنه التمرد، وعلى من هذا التمرد هل هو عَلَى الأب الذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويقول لكَ أو لها: اتقوا الله عَزَّ وَجَلَّ؟ لا هذا تمرد عَلَى شرع الله -عَزَّ وَجَلَّ- وخروج وفسوق عما أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يدعي أحد كائناً من كَانَ أنه حر، ثُمَّ يفعل ما يشاء، أبداً، هذا كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ: ((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ))[المؤمنون:115] ولو قدرنا أن المليار كل واحد منهم حر، فكيف ستكون الحياة الإِنسَانية، وأين تقف حريتك؟ وحرية كل فرد؟

    1- الحرية الحقيقية هي حرية العبودية لله عز جل
    إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد بين أحكام الحلال والحرام، وأعطانا الحرية الحقيقية وهي حرية العبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    فالحر الحقيقي هو من لم يمتلك قلبه أي شيء إلا محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما من ملكته شهوة أو فتنة أو شبهة فهذا عبد حقير ذليل مقيد، وإن كَانَ يقول أنا حر، فمن أراد الحرية الحقيقية فليتق الله وليتمسك بدينه وليحقق العبودية له تعالى، فكلما كَانَ عبداً له وحده خالصاً كلما كَانَ أكثر حرية، ولهذا تجدون عباد الله الصالحين -الأحرار الحقيقيين- لا يحدهم أي شيء؛ لأن كل ما في الكون من العبيد هم عبيد لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما يصنعه العبيد لا يضرهم في شيء.
    فشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ مثلاً لما سجنوه ثُمَّ أخذوا الأقلام عنه، فتركوه حتى لا يكتب، قَالَ: " ما يصنع أعدائي بي، أنا قتلي شهادة، ونفيي سياحة، وسجني خلوة" فهذه غاية في الحرية، لا يمكن أن يخشى من أحد.
    فالحرية الحقيقية هي في التمسك بما أنزل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وبالثبات عَلَى دين الله عَزَّ وَجَلَّ، أما الإِنسَان الذي إذا أراد شيئاً من الدنيا يجد أنه يشعر بشيء من العبودية لصاحب هذه الحاجة، وإذا لم تكن لك عنده أي حاجة فإنك تجد نفسك عزيزاً حراً فلا تشعر أنك تتقرب إليه أو تخضع له بأي نوع من أنواع الخضوع، مهما كانت درجته وأياً كَانَ منصبه.
    فإذا جرد الإِنسَان التوحيد، ونقى قلبه من الخضوع والعبودية لغير الله؛ فإنه يكون في غاية الحرية التي ينشدها هَؤُلاءِ.

    2- دوافع ظهور ومجيء فكرة التحرر
    نحن في ما يسمى بالعالم الشرقي -العالم الإسلامي- أخذنا هذه الفكرة دون أن ندرك ما الذي جعل الغربيين يدعون إليها ويؤمنون بها؟
    ومن أين استقوا هذه الكلمة وكيف جاءتهم؟
    نَحْنُ أخذناها من باب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لتتبعن أو لتركبن سنن من كَانَ قبلكم، حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} هذا الإِنسَان الأوروبي تمرد عَلَى دينه وعلماء دينه، فقَالَ: أنا حر فجئنا نَحْنُ لنقول: نَحْنُ أحرار وعلى من نتمرد وعلى أي دين؟
    عَلَى دين الله -عَزَّ وَجَلَّ-.
    فالإِنسَان الغربي لم يأت بكلمة الحرية هذه إلا من الضغوط التي كَانَ يعاني منها، أما أنت أيها المسلم فالله -عَزَّ وَجَلَّ- أنعم عليك وأنقذك بهذا الدين وبعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعلمك وعلم شعوب الأرض حقيقة الحرية فأنت الذي تُعلِّم جميع شعوب العالم الحرية، فأنت الحر الوحيد في هذا الكون لعبوديتك لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولو خرجت عنها لوقعت في الذل، لأن الإِنسَان إذا لم يعبد الله -عَزَّ وَجَلَّ- يعبد الشيطان كما قال الخليل -عَلَيْهِ السَّلام- ((يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)) [مريم:44] ويقول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في الشيطان ((أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ))[يّـس:60] فإذا عصيت الله عَزَّ وَجَلَّ، فقد وقعت في عبودية الشيطان.