المادة    
أقول: لو استطردنا في هذه الأمثلة لوجدنا العجب العجاب، ولكن ما واقعنا نحن؟ وكيف حالنا في مثل هذه الأحياء التي نسكنها ونعيش فيها؟ مع الجيران والأهل والجماعة ومع القبيلة والزملاء في العمل وغير ذلك؟ هل نحن على هذه المثل والقيم الرفيعة العظيمة التي علَّمنا إياها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه وعلماؤنا الأجلاء، أم نحن دون ذلك؟ الملاحظ أن بعض الشباب، وبعض طلبة العلم همَّه نفسه، يتعلم العلم ولا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فيعلمه ذلك العلم، لا يعلم الزوجة ذلك العلم، ولا يعلم جاره ذلك العلم -ولو شيئاً منه- حتى أبناءه أحياناً! وتتراكم لديه المسائل، ويجمع المسائل والأحكام بعضها فوق بعض، إلى أن يُذهِب آخرها أولها، وينسي بعضها بعضاً، ولم يخرج ولم ينفق منها شيئاً. يرى الناس يتهافتون على المعاصي، ويراهم يتسابقون على طريق النار والعياذ بالله، يراهم تفتك بهم الفتن والمحن والأهواء والشهوات من كل جهة، وهو مطمئن بما أعطاه الله من العلم والهدى والخير، وغاية ما يقول: الحمد لله الذي عافاني من هذا الأمر الذي وقع فيه كثير من الخلق! نعم! الحمد لله على ذلك، ولكن ما الذي فعلت؟ ما واجبك نحوهم؟ الحمد لله الذي وفقك فعرفت حق الله عليك في صلاة الجماعة، لكن ما واجبك نحو جارك الذي لا يُؤديها جماعة، وربما لا يؤديها مطلقاً. الحمد لله الذي علَّمك أن تُطعم الفقير والمسكين، لكن هل بذلت مثل هذه النصيحة لجارك أو زميلك صاحب المال -صاحب العمل- صاحب المؤسسة فيمد يده بالخير إلى المحتاجين والمحسنين الآخرين، أم أنك أنت تؤدي ما عليك إن أديته، ولا تبالي أن يؤدي الآخرون؟... وهكذا؛ وبذلك وقع التخلخل في المجتمع.
  1. نظرة الناس إلى طالب العلم إذا لم يهتم بهم

    أصبح الإنسان المسلم ينظر إلى طالب العلم ويتأمل، أو يظل يُفكر ماذا يريد مني؟ الآن لو أن أحدنا قدم على جماعة من الناس ورأوه: ماذا يتوقعون؟ يفكرون بماذا سوف يأمرنا وماذا سيطلب منا! وكأنا أصبحنا نأمر فقط ونطلب، لكن ماذا نعطي؟! وماذا نقدم؟! كان الناس إذا رأوا أحداً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبشون وتتهلل أساريرهم ويفرحون، لأنه جاء يعطيهم، ويبث لهم من هدايا الخير وعطاياه، يعطيهم آية من كتاب الله تبارك وتعالى، يُعلمهم سورة من القرآن، يُعطيهم حديثاً عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ينصح لهم، بل ربما أعطاهم من ماله. أما نحن فيتوقع منا أوامر، يتوقع منا إنكاراً، وغلظة وشدة. فإذا رآك ليناً هيناً، فرح واستبشر واطمأن، وقال: يا أخي! بارك الله فيك، يا ليت الناس كلهم مثلك! يا ليت طلاب العلم يعاملونا هذه المعاملة! قد شعر بأنك غريب ومعاملتك غريبة؛ لأنه لا يوجد أحد يُشعر الناس حقيقةً بهذا الخير الكامن في قلوبنا، لم نحوله إلى واقع، وعمل، إلى محبة، وتآلف، أصبح الشاب المسلم إذا اهتدى، كأنه مثل الذي نجا في جزيرة من الجزر بنفسه ونأى بحاله، فلا يريد أن يمد جسراً إلى الآخرين لينجوا، كلما رآهم يغرقون يفرح، وربما يشمت بهم وهم يغرقون! مُدَّ إليهم الحبال! مُدَّ إليهم جسور الخير! عَبِّدِ الطرق كي ينجو إخوانك كما نجوت!
  2. طرق الاهتمام بالمجتمع وفعل الخير

    كثير منا لا يفعل ذلك: وكثير منا يقول: وماذا نفعل؟!
    وماذا نصنع؟!
    هل ضيق الله تبارك وتعالى علينا طرق الخير ووسائل الخير التي بها نحقق هذا الواجب علينا؟
    لا! يقول الله تبارك وتعالى: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا))[العنكبوت:69].
    أليس سبيل الله واحداً؟!
    قال تعالى: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ))[الأنعام:153].
    إذاً: طريق الله واحد، وسبيله واحد، فعندما يقول هنا: ((لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا))[العنكبوت:69]، هذه طرق الخير، فالخير له طرائق كثيرة! والجنة لها ثمانية أبواب، ومن الناس من يدخل من باب، ومنهم من يدخل من آخر، فلم لا تعمل يا أخي المسلم لكي تُدعى من أكثر أبوابها، إن لم يكن من أبوابها كلها؟!
    ابحث عن السبيل الذي أهّلك الله به ومكنك منه أن تدخل إلى الخير، وإلى رضا الله وإلى إصلاح حال هذه الأمة، فلا تتردد فيه ولا تدع الفرصة تفوتك منه.
    اغتنم شبابك وعمرك ووقتك وما أُهِّلت له، لتدخل من هذا الباب إلى رضوان الله -تبارك وتعالى- وهداية الخلق، واعلم أن رجلاً واحداً يهديه الله -تبارك وتعالى- على يديك خيرٌ لك من حمر النعم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
    واعلم أن { موضع سوط أحدنا في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس } كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    إذن: لماذا لم تبادر إلى أي عمل من أعمال الخير؟
    لا تقل: ليس عندي إلا القليل من العلم! إن كنت طالب علم فابذل من هذا العلم، فما لديك فابذل منه، وتوقع أو تخيل أو تصور أنك أنت طالب العلم الوحيد في هذا الحي! أو أنك أنت صاحب المال الوحيد في هذا الحي، أو أنك أنت الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الوحيد في هذا الحي، لكي تعمل كثيراً ولا تستكثر أي عمل تعمله.
    وإذا عمل كلٌ منا كذلك رأينا الخير -بإذن الله تعالى- يعم وينتشر في المجتمع كله، ولكن انظر إلى واجبك أنت، واعلم أنك لو لم تنفق إلا ريالاً واحداً، فلعلك تضع هذا الريال في يد رجل يرفع يده إلى السماء ويقول: اللهم بارك له، اللهم ارزقه، اللهم وفقه، فيبارك الله -تبارك وتعالى- لك في مالك وأعمالك، ويدفع عنك شراً عظيماً جداً بهذا الريال الذي وضعته وأنت لم تلق له بالاً، وربما قلت كلمة، فهدى الله تبارك وتعالى بها من لم تكن تطمع ولا يطمع غيرك أن يهديه الله تبارك وتعالى.
    وليس شرطاً أن ترى ثمرة كلمتك الآن، ربما رميت الحبة وأنت تحرث أو تبذر الزرع فوقعت على حجر ولم تنبت شيئاً، ولكن قد يأتي بعد شهور أو أيام وتأتي الرياح وتأتي الأمطار وتدحرج تلك الحبة وتلقيها في الأرض وتنبت وتثمر وتصبح شجرة عظيمة، وجناها وثمرتها لك، وأنت لا تعلم، وأنت لا تدري متى ألقيتها وأين ألقيتها، لكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وهو الذي ينمي ويربي الخير ويزكيه، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة من فضله وجوده تبارك وتعالى.
    فلا تحقر شيئاً من الخير، ولا تحقر شيئاً من المعروف، ولو أن تلق أخاك بوجه طلق، تقول له: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وتصافحه؛ فتتحات ذنوبكما كما يتحات ورق الشجر، سبحان الله العظيم، فلماذا نفوت هذا الخير؟!
  3. تنافس الصحابة الكرام على الخير

    اشتكى الصحابة رضي الله عنهم عندما جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذي هو بالمؤمنين رءوف رحيم، فقالوا: {يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور} وهذا التنافس ليس هو تنافس الفقراء والأغنياء، كما صورته الرأسمالية والشيوعية الكادحون، والطبقات البرجوازية ضد الطبقات الرأسمالية! لا، بل تنافس في الأجور: { ذهب أهل الدثور بالأجور } أي أهل الأموال، ثم قالوا: {يُصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم} أي: زادوا علينا بالصدقة، ونحن لا نملكها، فعلمهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال:{تُسبحون الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدون ثلاثاً وثلاثين، وتكبرون ثلاثاً وثلاثين}، ففعلها أولئك، وقالوا: الحمد لله! وجدنا باباً عظيماً من أبواب الخير نسبق به إخواننا.
    فلمَّا فعل إخوانهم ذلك، جاءوا وشكوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -انظروا التنافس إلى الخير- فقالوا: {يا رسول الله! قلنا ذلك فقالوا كما قلنا -أي: ما الحل؟- قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}.
    ابتلاكم لتصبروا بالفقر، وابتلاهم ليشكروا بالمال وبالنعمة، لكن هذا هو الواجب أن نتنافس -جميعاً- في هذا الخير وأن نذكر الله، وإن لم نجد شيئاً فلندع الله تبارك وتعالى.
  4. الاهتمام بالمسلمين والدعاء لهم

    من منا لا يألم عندما يرى هذا الواقع المحزن المؤلم لهذه الأمة من أقصاها إلى أدناها؟
    ويتذكر أن الدين النصيحة، ويتذكر أنه {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}، ثم يقول: لا أملك شيئاً، لا، بل أنت تملك ما لا يستطيع أي عدو للإسلام أن يملكه، وما ليس في إمكان أية قوة في الدنيا أن تملكه، وهو الدعاء، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {رب أشعث أغبر ذي طمرين، لو أقسم على الله لأبره}، الله أكبر، يقسم على رب العالمين، ويبره رب العالمين...!
    لله سبحانه أولياء، وله عباد صالحون لهم عنده من الشأن والمنزلة ما الله به عليم، فلِمَ لا ترفع يديك؟
    ارفع يديك وتضرع إلى ربك تبارك وتعالى بسجدة في جوف الليل لا يراك أحد، قبل السلام في كل الصلوات، وأنت ذاهب إلى بيت من بيوت الله, وأنت تضع اللقمة أو الريال في يد فقير أو محتاج، وأنت ترأف بمسكين أو تشفق عليه.
    ادع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كم من هؤلاء الذين إن شفع فهو جديرٌ بألاَّ يُشَّفع، وإن خطب فهو جدير بألا ينكح ولا يُزوَّج، وإن طلب فهو جدير بأن يرد ولا يعطى، ولكنْ بينه وبين الله باب مفتوح، لو رفع إليه يديه بصدق وضراعة لحصل الخير، كما يريد الله تبارك وتعالى.
    إذاً: ارفع يديك وادع الله، واعلم أنك لو دعيت لنفسك فربما يستجاب لك، وربما لا يستجاب لك، وإن كنت على أية حال لست بخاسر أبداً، لأنه كما جاء في الحديث: {إن ربكم حي كريم يستحيي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردهما صفراً}.
    أي: يردهما خاليتين، فلا يمكن ذلك... ولو ذهبت إلى أي كريم من الناس وطلبته وأنت تعرف كرمه، واجتمعت فيه الصفتان الكرم والغنى، هل يردك؟
    يستحيل على كريم غني أن يرد أي واحد يأتيه، ولو بشيء بسيط، فكيف بمن له الغنى المطلق والكرم المطلق، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الذي طلب منا أن ندعوه، والذي يصدق فيه ما قال الشاعر:
    الله يغضب إن تركت سؤاله وبُني آدم حين يُسأل يغضبُ
    وقد قال الكريم الغني المفضال تبارك وتعالى:((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ))[غافر:60]، يريد أن ندعوه، ادعه، ولن تكون خاسراً، بل أنت كاسب في أي حال من الأحوال، لكن ربما يحول بينك وبين الإجابة شهوات أو شبهات، أو ارتكاب لذنوب، أو محرمات، أو أكل مال حرام، أو أي حائل من الحوائل، لكن إذا دعوت لأخيك يستجاب لك بإذن الله تبارك وتعالى، لأنها دعوة عن إخلاص، لأن ذنبك أنت وتقصيرك لا ينسحب عليه فتدعو الله تبارك وتعالى له، فيقال: آمين ولك مثل ذلك! إذن لماذا نترك هذا الدعاء؟!
  5. ما يمكن أن نعمله من أعمال الخير

    نستطيع أن نعمل ما هو أكثر من الدعاء؟! ألسنا نستطيع في كل حي من الأحياء، بل في كل مسجد أن نوجد لجنة أو أكثر من اللجان، للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللخير وللإحسان وللشفقة، ولنتواصى بالمرحمة كما أمر الله تبارك وتعالى، لنحنو على ضعيف أو مسكين، أو إنسان استهوته الشهوات أو الشبهات، فتاه وضل عن الطريق المستقيم، ألا نستطيع؟ ألم يعمل الإخوة الكرام -بارك الله فيهم- لجنة لمكافحة التدخين؟ هل أثمرت أو لم تثمر؟ ما رأيكم؟ أثمرت نجاحاً عظيماً جداً، كم من صاحب محل الآن يكتب نحن لا نبيع الدخان، عندما تجلس معه يقول: الله يجزيهم خير! الحمد لله، أنا أصلي وأصوم وأحب الخير، وإذا رأيت الإنسان من بعيد لا يدخن، حمدت الله، وإذا رأيته يدخن استعذت بالله منه، وابتعد عن طريقه، وهو الذي كان بالأمس إذا رأى المدخن استبشر، وكان إذا قلت له: لا تبيع الدخان، قال: الزبائن لا يأتون إلا من أجله، لو لم أبعه فلن أعمل، لكن كيف تحول، كيف تغير؟ لما وجدت لجنة ودعوة ونصيحة، انتفع، ولله الحمد. لجان للفقراء، لجان لمناصحة أصحاب المنكرات في الأحياء، وأنا أطالب الإخوة أن يتركوا الأسماء هذه، لا يهم سموها لجنة أو جمعية، أم لم يسموها شيئاً، لا يهم هذا، المهم يكون منا ثلاثة أو أربعة أنفار يذهبون ويمرون على صاحب المحل: ماذا تبيع؟ يقول: عندي أغاني، يقال له: يا أخي الكريم! اتق الله، يقول لك: عندي تصريح، قل له: ما أتيت أخاطبك للتصريح ولا نحن من موظفي الإعلام، نحن جئنا نقول لك: إن هذا حرام، يفتح الله له نور قلبه، وتستنير بصيرته ويتوب قبل أن يدركه الموت، وهو على هذه المعصية. إنسان آخر يتهاون بصلاة الجماعة، فهل الذي يعد نفسه آمراً بالمعروف، يخبر الهيئة ليوقفوه؟! ليست مهمة الهيئة أن يأتوا ليأخذوه، اذهب أنت في ثلاثة نفر، وقل له موعظة يخشع لله، ويرق قلبه، ثم يأتي معك إلى المسجد، فتكون قد كسبته إلى الخير، وبعد ذلك تكسب به من وراءه إن شاء الله. وهكذا... إذا كان معك في كل حي أو في كل مسجد أو جماعة أو قبيلة أو مجلس تجلسه فيه شيء من هذا التعاون والتواصل، بدلاً من أن تضيع الأوقات أو يتشتت المجتمع، إما أن نضيع أوقاتنا في لهو ولعب وغيبة ونميمة، وإما نتشتت فلا يلتقي منا اثنان كل مشغول في دينه، والخير في هذه الأمة مهمل ومنسي.