المادة    
ولذلك قال عقب هذا مباشرة: {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا} لو اجتمع كل من فوق الأرض على أن ينفعوك بأي شيء تتخيله لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، فهو الذي يُدبِّر، يُسيِّر، ويُسيِّر ويسخِّر.
والخلق مساكين ينقطعون عند الأسباب الظاهرة الحسية الموجودة، كما ضرب لهم مثل بمن رأى الناس يشربون الماء، فرأى ماسورة فيها حنفية يفتحها أحدهم ويشرب ويغتسل ويتوضأ، فذهب واشترى ماسورة، وركَّبها في الجدار، ثم فتح الحنفية فلم يجد ماءً.. لأنه ظن أن الناس يأخذون الماء بهذه الطريقة، ولم يعلم أن هناك أسباباً أخرى خفية لا يراها ولا يعلمها، وهذا الذي يراه إنما هو سبب ظاهر فقط.
بعض الناس يظن أن الوظيفة بيد فلان المسئول، وأنه لو وافق فسيُوظَّف، فهذا سبب آخر من الأسباب الظاهرة، أما الأسباب الخفية الحقيقية فهي بيد الله عز وجل.
  1. الدعاء حقٌ من حقوق الله

    ولذلك لاحظوا ترابط الحديث، قال: { إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله } فلا يملك المخلوقون شيئاً، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يملك كل شيء، فلا تهن نفسك ولا تذلها لأحد غير الله عز وجل ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ومن آمن بقدر الله فلن يسأل غير الله ولن يستعين بغير الله، وسيطمئن غاية الاطمئنان إن كان في حال النفع وإن كان في حال الضر؛ لأن الأمر قد قضي: { رفعت الأقلام وجفت الصحف }.
  2. الإيمان بالقدر وأثره

    كل شيء قد كتب كما بيّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: { كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة} ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا))[الحديد:22] من قبل أن يخلقها، بل من قبل أن يخلقكم، بل من قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة!
    فلابد أن يكون موقفنا مما يقع هو: الرضا والتسليم لله تبارك وتعالى والصبر والاحتساب؛ لأنه من عند الله، ولهذا كان بعض السلف يقول: [[ لا أبالي بأي شيء أصبت ]]، لا أحد يتمنى أن يصيبه مكروه، لكنه يقول: من أين يأتي ذلك؟ ومن الذي يقدره عليه؟ هذا الأمر الذي أكرهه أنا وأغضب وأجزع منه، من الذي كتبه وقدَّره؟ أليس الله عز وجل؟ فالرضا يكون من جهة أن الله تعالى لا يقدر إلا الخير.
  3. ملازمة الخير للمؤمن

    وأمر المؤمن كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكانت له خيراً، وإن أصابته ضراء صبر فكانت له خيراً.
    فاحمد ربك، وأيقن واصبر، واعلم أن كل شيء قد قضي، ولا يضرك ما يكيد لك الخلق، وما يمكرون أبداً، والله تعالى سلَّى هذه الأمة فقال: ((وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً))[آل عمران:120].
    فما أكثر ما يُكاد لهذا الدين الآن في كل البلاد! كما ترون في البوسنة وفي الفلبين وفي إرتيريا وفي الصومال وفي عدة دول، حتى تنتهي الأمة الإسلامية ودولها وطوائفها.
    وكم يُكاد لهذا الدين من اليهود، والنصارى، والمنافقين، ومن الفجار، والمفسدين، ومن كل عدو لهذه الدعوة ولهذا الدين!
  4. واجبنا تجاه مكائد الأعداء

    الواجب علينا ألا نشتغل عن التقوى والصبر بالحديث عن كيد العدو وتتبعه.
    لا تشتغل بعدوك وتحمل هم عدوك أكثر مما تحمل هم السلاح الذي تتقي به عدوك، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله وهو يتحدث عن كيفية المعالجة من الحسد ومن العين وما أشبه ذلك: ''من أعظم ما يُعالَجُ به ذلك توحيدُ الله عز وجل، وأن تحفظ الله وأن تراقب الله وأن تحفظ جوارحك عن معصية الله، وهذا إذا اشتغلت به كفاك الله تبارك وتعالى كل مؤذٍ وكل شرير وكل حاسد وكل كائد، ولكن إذا اشتغلت بكيد الأعداء وانقطعت عن الصبر وعن اليقين لم ينفعك اشتغالك إلا هماً وغماً'' .
    وهذا ينطبق على واقعنا الآن؛ فمن يشتغل بخطط الأعداء وكيدهم ومكرهم دون أن يكون له زاد من الصبر واليقين، فإما أن يقنط، وإما أن يجزع، وإما أن يهتم ويغتم ولا نتيجة ولا فائدة، لكن يجب علينا التحلي بالصبر واليقين والتقوى مع معرفة كيدهم ومكرهم، مع أنه لا يشترط أن يعرف مكرهم وكيدهم كل أحد، لكن ينبغي ألا يضيع في الأمة؛ لأنه فرض كفاية.
    أما الأساس الذي يجب أن يكون لدى كل واحد في هذه الأمة فهو الصبر والتقوى التي ندفع بهما بإذن الله تبارك وتعالى هذا الكيد وهذا المكر.
    ولذلك لا يبالي المؤمن بأذى الخلق؛ فهم لو اجتمعوا على النفع أو على الضر،لم يضروك ولم ينفعوك بشيء من عند أنفسهم استقلالاً، فإن نفعوك بشيء فقد كتبه الله لك قبل أن تُخلق، بل قبل أن يُخلق هذا الكون بخمسين ألف سنة، وإن كان شراً فكذلك.
  5. عواقب سؤال غير الله

    إذا أيقنا بذلك، أيقنا أن المستحق أن يسأل وأن يستعان به، وأن يشكر هو الله وحده لا شريك له، الذي إليه المنتهى، والذي عنده خزائن كل شيء، والذي يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، ويُضحِك من يشاء ويُبكِي من يشاء، ويحيي من يشاء ويميت من يشاء، ويُدبِّر ملكه كما يشاء.
    وهذا يزيد المؤمن إيماناً وتوحيداً، ويعطيه قناعة عظيمة، وكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: { وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر } وكما قال في الحديث الآخر صلوات ربي وسلامه عليه: {إن الغنى غنى النفس} فإذا أغناك الله عز وجل وأعطاك الصبر، فقد أعطاك من الخير ما لم يعطه أحداً غيرك، فاحمد الله تبارك وتعالى عليه، ومن هنا إذا سألت فاسأل الله.
    وقد أوصى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جملة من الصحابة ألا يسألوا أحداً، منهم: أبو بكر وثوبان وأبو ذر رضي الله تعالى عنهم، حتى كان الواحد منهم إذا وقع سوطه، لا يقول لأحد: "ناولني السوط" ولكن ينزل فيأخذه بيده، وإذا انفلت منه خطام ناقته لا يقول لأحد: "أعطني" لكنه ينزل ويأخذه حتى لا يسأل أحداً إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن السؤال -مهما كان- فيه ذل وفيه إشعار بالاحتياج.
    ولا ينبغي لك -يا أخي المسلم- أن تسلِّم نفسك إلا لله، وألا تشعر أحداً أنك محتاج إليه إلا الله عز وجل، إلا إذا اضطررت فهذا أمر آخر، فالناس للناس، والكل بالله عز وجل.
    فليكن الأصل الذي تسير عليه هو ألا تسأل الناس وألا تتشكى، وألا تتسخط لديهم.
    ولهذا كان بعض السلف عندما يرى بعض الناس يشكون، يقول له: أتشكو الخالق إلى المخلوقين؟!
    فبعض الناس إذا أصابه مرض ذهب واشتكى للناس، وهؤلاء -نسأل الله العفو والعافية- يحرمون أنفسهم من الأجر ويتألمون؛ لأن الشكوى يصحبها عادةً الألم، فتكون المشاكل عندك غير موجودة، فإذا شكوت إلى أحد منهم فإنك تتألم ثم تتألم، فالذين يشكون ويتسخطون عند الناس يعاقبون بالألم ويُحرمون من الأجر، وهذا كما جاء في الحديث: {فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط}.
    فينبغي للمؤمن أن يتدبر، وأن يتفطن، لهذا ولذلك قال عبد الله بن المبارك رضي الله عنه: ''من صبر فما أقل ما يتحمل، ومن سخط فما أكثر ما يجزع'' فإذا صبرت فما أقل ما تتحمل، ولو صبرت العمر كله، فالعمر كله قليل، وما أقل هذه الدنيا بالنسبة للآخرة! كما قال تعالى: ((فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ))[التوبة:38] فالعمر كله قليل، فما بالك والأمر ليس كذلك؟! فلن تصبر عمرك كله؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل للكرب دواءً، وللعسر شفاءً، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {واعلم أن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً}.
    فإذا أصابك أمر فاعلم أن الله تبارك وتعالى سيجعل لك معه يسراً وسيجعل لك منه مخرجاً.
    وعندما يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله } فهذا من أعظم التوحيد، ولذلك نقرأ في صلاتنا هذه السورة العظيمة السبع المثاني الفاتحة في كل ركعة، ونقرأ فيها: إياك نعبد وإياك نستعين.
    والدعاء يشمل العبادة بل هو العبادة كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فندعو الله تعالى في كل ركعة ونقول: "ندعوك وحدك"؛ دعاء المسألة ودعاء العبادة، فدعاء المسألة داخلة فيها، "ونستعين بك وحدك" إياك نعبد، أي: نعبدك وحدك - كما هو معلوم في اللغة العربية.
    وإياك نستعين، أي: نستعين بك وحدك؛ فالاستعانة والعبادة لله وحده لا شريك له، فنجد أننا بذلك نرقى بدرجات عالية، ولا نكاد نحلم فيها أو نتخيلها إلا إذا حققنا ذلك فِعلاً في حياتنا، فالغنى عن المخلوقين يورثك عزاً تجد حلاوته.
    ولهذا قالوا: ''اسأل من شئت تكن أسيره'' أي: اسأل من شئت أن تطلبه تكن أسيره لأنه يأسرك بما يعطيك ويقدم إليك.
    ''واستغن عمن شئت تكن نظيره '' فأي إنسان تراه كبيراً عند أهل الدنيا استغن عنه تكن نظيره؛ لأنك مُستغنٍ عنه وهو مستغنٍ عنك؛ فأنتما في مستوى واحد وإن كان الناس يرونه كبيراً، فما دمت مستغنياً عنه فأنت نظيره.
    '' وأعط من شئت تكن أميره '' فإن أعطيته كنت أميره؛ لأنه أصبح أسير نعمتك وعطائك.
    وهذا لا يعني أن الإنسان لا يسأل إذا احتاج، وإنما المقصود أن يكون أصل نظرتك في الحياة وأصل منهجك الذي تسير عليه كذلك.
    لأن بعض الناس يذل نفسه من أجل علاوة قد تأتي وقد لا تأتي، أو من أجل مبلغ بسيط، أو من أجل شيء من الدنيا لا يستحق أن تذل نفسك من أجله أبداً.
    أما الضرورة فهي أمر آخر.
    لكن عندما ترى حال المسلمين اليوم -بل حال كثير من طلاب العلم- تأسف وتألم لما يذلون به أنفسهم من السؤال وإظهار الفقر والحاجة إلى المخلوقين، ولهم في الله عز وجل الغنى كل الغنى.
  6. عاقبة ذكر الله في الرخاء

    ولذلك قبل هذا يمكن أن نأتي بالعبارة التي وردت في الرواية الأخرى التي رواها الإمام أحمد وغيره، قال: { تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة }.
    يقول الضحاك بن قيس رحمه الله: [[اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة -كأنه يشرح الحديث، ثم ذكر مثلين فقال:
    إن يونس عليه السلام لما كان يذكر الله تعالى في الرخاء ذكره الله تعالى في الشدة، فقال تعالى: (( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ))[الصافات:143-144]
    ]] فلما دعا بهذه الدعوة العظيمة التي هي من أعظم أدعية الكرب، والتي قيل: إن فيها اسم الله الأعظم، وهي: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) دعا بها يونس عليه السلام في الظلمات: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، دعا فاستجاب الله تعالى له فأنجاه وأخرجه وألقاه الحوت في الساحل، ثم ذكر الحالة الأخرى، حالة الذي لم يعرف الله وقت الرخاء، فقال: [[وانظروا إلى فرعون كان غافلاً عن ذكر الله، مستكبراً على الله، فلما أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، فقيل له: ((آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ))[يونس:91] ]].
    فيونس أنجاه الله، وفرعون لم ينجه، وكلاهما في حالة متشابهة؛ لأن ذلك كان يعرف الله في الرخاء، فعرفه الله تعالى في الشدة، وكان معه، وهذه هي المعرفة الخاصة والمعية الخاصة كما قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ))[النحل:128] فالمعية الخاصة هي معية النصر والتأييد، والمعرفة الخاصة هي أن يعرفك الله تعالى المعرفة الخاصة، وإلا فهو العليم بكل شيء، لكن المعرفة الخاصة لأوليائه أن يقضي حوائجهم، وأن يستجيب دعاءهم، وأن يكشف كرباتهم وما يهمهم وما يغمهم.