المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وأما قول إبليس ((رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي))[الحجر:39] إنما ذم عَلَى احتجاجه بالقدر لا عَلَى اعترافه بالمقدر وإثباته له ألم تسمع قول نوح عَلَيْهِ السَّلام ((ولا يَنْفَعُكُمْ نُصحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [هود:34] ولقد أحسن القائل:
فما شئتَ كَانَ وإن لم أشأ             وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
وعن وهب بن منبه أنه قَالَ: "نظرت في القدر فتحيرت ثُمَّ نظرت فيه فتحريت ووجدت أعلم النَّاس بالقدر أكفهم عنه، وأجهل النَّاس بالقدر أنطقهم به"] إهـ.

الشرح:
من الآيات التي استدل بها من يحتج بالقدر عَلَى المعاصي، آيات الأنعام، والنحل، والحديث الذي سبق، واستدلوا كذلك بقوله تعالى: ((رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي)) [الحجر:39] فَقَالُوا: إن إبليس لما قَالَ: ((رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي))[الحجر:39] أنكر الله عليه واحتجاجه هذا مردود وعلى هذا فنحن لا نثبت المشيئة، أي: لا نقول إن الله هو الذي أغوى إبليس؛ لأن إبليس هو الذي قال إن ربه هو الذي أغواه محتجاً بذلك، فبناءاً عليه فنحن ننكر الإغواء، فهم يريدون أن ينكروا أن الله قدر الأقدار بناءاً عَلَى أن الذين احتجوا بالقدر هم المُشْرِكُونَ، ومنهم إبليس وَقَالُوا: لا نأخذ ديننا عن إبليس ولا عن الْمُشْرِكِينَ فلا قدر إذاً، ونرد عليهم بمثل ما رددنا عَلَى الْمُشْرِكِينَ من أن الله تَعَالَى لم ينكر أنه شاء الشرك، ولم ينكر أنه أغوى إبليس.
وإنما كَانَ الإنكار بما يحتج المُشْرِكُونَ -بمشيئته عَلَى شركهم- وبما يحتج إبليس -بإغواء الله له عَلَى ما فعله من التزين بالإِنسَان وإغواءه- فَيَقُولُ: إنما ذم عَلَى احتجاجه بالقدر لا عَلَى اعتراضه به فنحن نقول: إن اعتراض الْمُشْرِكِينَ بأن الله هو الذي شاء أن يعبدوا هذه الأصنام لا اعتراض عليه.
ونقول: لا يقع في ملك الله إلا ما شاءه الله، واعتراض قول إبليس بأن الله قدر عليه الغواية نَحْنُ نقول نعم قدر الله عليه الغواية، لكن احتجاجه بأن الله قدر عليه بأنه غير مؤاخذ هذا الذي نرده.
فإن المشيئة لا تستلزم الجبر والقهر فهذا شيء شاءه الله تعالى، لكن المسئول عنه هو من فعله، أي: أن إبليس خاطبه الله تَعَالَى وأمره بالسجود مع الملائكة وهو يعلم عقوبة المعصية ومع ذلك ارتكبها بمشيئة الله، ولأن لله حكمة لكنه بإرادته وبطوعه خالف أمر الله وعصاه، ومن هنا طُرد ولُعن وأصبح رذيلاً مذموماً
ويستدل عَلَى ذلك بقوله تَعَالَى عن نوح عَلَيْهِ السَّلام: ((لا يَنْفَعُكُمْ نُصحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [هود:34] فما عَلَى الرَّسُول إلا البلاغ مع أنه يبين لهم ويدعوهم إِلَى الله، ويقول لهم إن ما آتيكم به من الحجج والبراهين لا ينفعكم إن كَانَ الله يريد أن يغويكم، لكن لو فرضنا أن الله يريد أن يغويهم -ولا شك أنه أغوى منهم الأكثرين وما آمن له منهم إلا القليل- لكنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ليس راضياً بغوايتهم بدليل أنه بعث فيهم نوحاً يجادلهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ليلاً ونهاراً سراً وعلانية يدعوهم، كما ذكر الله ذلك في سورة نوح واستخدم معهم شتى أنواع الدعوة فالله ليس راضياً عن شركهم وما فعلوه وكونه - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- اقتضت حكمته ومشيئته أن يكون في النَّاس مؤمن وكافر، فإن هذا شيء نقرُّ به ونؤمن به، وهذا من حكمته التي لا نستطيع أن ندركها وأن نعرف أبعادها، يقول المُصنِّفُ نقلاً عن هذا الشاعر:
فما شئتَ كَانَ وإن لم أشأ            وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
لقد أحسن القائل، وهذه الأبيات التي قالها السلف الصالح في بيان الإيمان بالقدر وأن الله تَعَالَى مع أنه أعطانا مشيئة، إلا أن المشيئة النافذة هي مشيئته فَيَقُولُ: (فما شئتَ كَانَ وإن لم أشأ) ما شاء الله كَانَ وإن لم يشأ العبد أن يكون (وما شئتُ) أي: أنا المخلوق (إن لم تشأ لم يكن) فالمشيئة التي تنفذ هي مشيئة الله.
  1. مقالات بعض السلف في القدر