المادة    
ثم قال: '' وأما القسم الثاني ''. و(أما) هذه هنا معطوفة على أما التي في القسم الأول وهو كفر الاعتقاد الأكبر المخرج من الملة الذي ذكر المصنف تحته ستة أنواع، قال: '' وأما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يُخرج من الملة. أي: كفر العمل لا كفر الاعتقاد.
  1. تفسير ابن عباس

    قال: '' فقد تقدم أن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عز وجل: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) [المائدة:44] قد شمل ذلك القسم، وذلك في قوله رضي الله عنه في الآية: [[كفر دون كفر]] وقوله أيضاً: [[ليس بالكفر الذي تذهبون إليه ]] ''.
    فهو يشير إلى ما تقدم في كلام المصنف رحمه الله: أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر، ومن الممتنع ومن المحال أن يسمي الله تبارك وتعالى ذنباً ما كفراً ولا يكون صاحبه كافراً؛ لكن عند التفصيل ننظر هل هذا الكفر كفر أكبر ينقل عن الملة أم هو كفر أصغر لا ينقل عن الملة.
    فالأول هو كفر الاعتقاد، والآخر هو كفر العمل، وهذا هو المقصود، فهو كفر فعلي، فهو يقول: إن ما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره من السلف -على ما سنفصل إن شاء الله من أن الآية تشمل الكفر الأكبر فهي كذلك تشتمل على الكفر الأصغر، وإن كانت في الأصل نزلت في الكفر الأكبر.
  2. ذكر مثال يوضح هذا القسم

    قال: '' وذلك -وهذا تعريفه- أن تَحمِلَه شهوتهُ وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أنَّ حكمَ الله ورسوله هو الحقُ، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى ''.
    فإذا أردنا توضيح المسألة أكثر، فنقول وبالتعبير السائد الآن أو بشكل أكثر بساطة ووضوحاً:
    إن القاضي سواء كان قاضياً في محكمة أو مجرد قاضٍ يقضي -وكل من قضى في مسألة فهو قاضٍ- إما أن يكون شرعه ودينه وقانونه ونظامه الذي يحكم به هو ما أنزل الله -كما سيأتي في الآثار والنقاش الذي دار بين الخوارج وبين أبي مجلز رحمه الله، وإما أن يكون شرعه وقانونه ودينه شيئاً آخر، كالشرائع المنسوخة في التوراة والإنجيل، أو قوانين موضوعة مثل شرائع التتار أو شريعة نابليون، أو أي قانون من القوانين الوضعية، وهذا هو مفترق الطرق، فهذان قسمان لا صلة بينهما؛ فهذا متبع وملتزم ومنقاد ومستسلم لأمر الله ودينه وشرعه، وهذا يتحاكم ويحكم ويتبع وينقاد ويستسلم لدين غير دين الله، وشرع غير شرع الله فهو شريعته ونظامه، وهو دينه، كما ذكر الله سبحانه في سورة يوسف ((مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ)) [يوسف:76] فمعنى في دين الملك أي: في حكمه وفي شرعه، وكل إنسان شرعه ونظامه هو دينه.
    فهذا شيء وذلك شيء آخر.
  3. القسم الأول: الملتزم بحكم الله

    ونرجع إلى القسم الأول: وهم المنقادون لحكم الله والمؤمنون والملتزمون به، والمستسلمون له، هل هم في كل مرة وفي كل حكم يحكمون بما أنزل الله في الواقع، أو أنهم قد يخالفون أمر الله؟
    تقع المخالفة وتقع المعصية والجهل والخطأ والتأويل، فإن هذه هي مثل سائر العبادات، وسائر شعب الإيمان، فليس كل من يلتزم الإيمان والإسلام يكون مقيماً له كاملاً، بل يقع من أهل الإيمان مخالفة لما آمنوا به، فقد يقع الزنا ممن يؤمن بأن الله قد حرَّم الزنا ويكرهه ولا يريده، ويوجد من يعتقد تحريم السرقة أو الرشوة أو الربا ويفعلها، فهذه معاصٍ تقع من المؤمن.
    لكن يوجد من المؤمنين من هو ملتزم بما أنزل الله كاملاً، أي: يطبقه ويقيمه.
    وهنا نقول: هذا الفرق بين هؤلاء وبين أولئك، فالقاضي الملتزم بما أنزل الله، والذي هو دينه ومنهجه ونظامه الذي يحكم به ويتحاكم إليه ولا يُقر بغيره ولا يعتقد حكماً آخر غيره، هو حكم الله وشرع الله، وهو كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما تفرع عنهما من أنواع الإجماع وأقوال الفقهاء من الصحابة ومن بعدهم.
    فإذا جاء القاضي رجل من قرابته، أو من له عليه مال، أو رجل من أصحاب السلطان أو من أصحاب الشهوات، فحكم في القضية كما قاله المصنف: '' تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله ''.
    أي: وهو معتقد في نفسه أن الحكم الحق هو ما أنزل الله، وأن الشرع الحق هو ما شرعه الله واعترف على نفسه بالخطأ، وأن هذا الذي حكم به لم يحمله على فعله إلا الشهوة والهوى وطاعة الشيطان، فهذه الحالة الأولى في هذه القضية.
    أما لو أنه التزم شرعاً غير شرع الله، حتى ولو كان في محكمة شرعية، لكنه التزم أن كل من أتاه في حد زنا أن يحكم فيه بما تحكم به شريعة نابليون -مثلاً- أن هذا هو من حق الزوج، وننظر إلى المرأة هل هي دون عمر الثامن عشرة سنة؟
    وهل هي مغصوبة أو غير مغصوبة؟
    متزوجة أم غير متزوجة؟
    والأمر يرجع إلى الزوج أو يحكم عليه بكذا (جُنيه) أو يسجن، فإذا كان هذا شرعه وهذا دينه فإن هذا غير ملتزمٍ أصلاً بما أنزل الله، لكن هذا الكلام الذي نقوله هو في هذه الحالة التي قضى فيها القاضي بما أنزل الله، وقد يخالف أمر الله عن عمد وعن هوى.
  4. القسم الثاني: من جهل حكم الله أو تأول أو اجتهد

    وقد يخالفه عن جهل بحكم الله سبحانه، إذ ليس كل من وليَّ القضاء والحكم بين الناس يعلم جميع ما أنزل الله ويعرف الأحكام، وإن كان الواجب ألاَّ يعين إلا من هو في درجة الاجتهاد، وقد يولى شخص فيحكم في هذه المسألة أو في بعض المسائل بما أنزل الله خطأً منه في ذلك فيظن أن هذا الذي فعل حده.
    القتل أو القطع فيخلط بين الحدين، وقد يقع في الخطأ ويقع منه التأويل، والتأويل له أبواب.
    فبعض القضاة يتأول الآية على غير وجهها، والحديث على غير وجهه ويخالف حكم الله تعالى فيه.
    وبعض القضاة يقول: مذهبنا لا يعتبر هذا الحديث دالاً على ذلك لأنه خالف ظاهر القرآن، ومخالفة الحديث ظاهر القرآن يعتبر نسخاً... إلى آخره، وهناك أمور تفصيلية لا داعي للاستطراد فيها، كالأصول الفقهية في المذاهب الأربعة وغيرها، فقد يَرد الإنسان حكم الله الذي يدين به أهل الحق لأصل من أصول مذهبه التي يتوهم ويظن أنها حق وهي غير كذلك، فيحكم بها، فهذا متأول له اجتهاد وإن كان غير سائغ وغير مقبول.
    المهم أن المخالفة لحكم الله تقع إما خطأً، وإما اجتهاداً وتأولاً، وقد يقع هوىً وشهوة، والكلام هنا هو في المخالف اتباعاً للهوى واتباعاً للشهوة، وهو في بلد يحكم بما أنزل الله، وفي محكمة تحكم بما أنزل الله، وهو مستسلم لأمر الله، معتقد أن من حَكَّم شرعاً غير شرع الله، ومن أحل القوانين الوضعية محل شرع الله، فقد كفر.
    كل هذا موجود لديه، لكنه عدل عن حكم الله في هذه القضية أو في هذه المسألة اتباعاً للهوى وللشهوة أو لأي داعٍ من دواعي معصية الله، كما تعرض للإنسان في كل الأحكام، وكما تعرض له في الزنا وشرب الخمر وكل المعاصي، فهذا هو الذي لا يكون خارجاً عن الملة.
    ولكن كما قال المصنف رحمه الله: '' وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة، فإنه معصية عظمى ''.
    وكلام المصنف في هذه المسألة سيأتي له إيضاح من أقوال العلماء إن شاء الله.
    قال: '' وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة، فإنه معصية عظمى'' -أي: هذا الحكم الذي حكم به- أكبر من الكبائر، كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، واليمين الغموس، وغيرها، وهذا الفعل أكبر من بقية الكبائر لأن المعصية التي سميت كفراً، أعظم من المعصية التي لم تسمَّ في لسان الشرع كفراً.
    ''فإن معصية سماها الله في كتابه كفراً، أعظم من معصية لم يسمها كفراً''.
    وهذا تقدم شرحه في أول الكلام، عند ذكر النصوص المبينة لأنواع الكفر.
    قال: '' نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه، انقياداً ورضاءً، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه ''.
    وبذلك انتهت فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.