المادة    
قال: ''فانظر كيف سجَّل الله تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل الله الكفر والظلم والفسوق، ومن الممتنع أن يُسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ولا يكون كافراً، بل هو كافر مطلقاً، إما كفر عمل، وإما كفر اعتقاد، وما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية من رواية طاوس وغيره يدل أنَّ الحاكم بغير ما أنزل الله كافر، إما كفر اعتقاد ناقل عن الملة، وإما كفر عمل لا ينقل عن الملة''.
وهذا التفصيل يدل على فقه الشيخ، وما أظن أحداً سبقه إليه.
  1. جحد أحقيَّة حكم الله

    قال: ''أما الأول وهو كفر الاعتقاد''.
    هذا هو الكفر المخرج من الملة، الذي يكون صاحبه قد ارتد وخرج من دين الإسلام بالكلية ولا يرجع إليه إلا بتجديد الإيمان والتوبة من هذا الكفر.
    قال: '' فهو أنواع، أحدها: أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله''.
    فيقول:لا يجب على الناس أن يتحاكموا إلى ما أنزل الله، فهذا لا ريب ولا شك في تكفيره؛ لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، وجحد أمراً قطعياً في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومتواتراً في سنة وسيرة محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    يقول: ''وهو معنى ما رُوي عن ابن عباس واختاره ابن جرير أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي، وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم''.
    أي: إن جَحْدَ أيَّ حكم من الأحكام الثابتة القطعية فلا نزاع بين أهل العلم أنه كفر، فلو أن أحداً جحد وجوب الصلاة أو وجوب الزكاة، أو وجوب صوم رمضان، أو وجوب الجهاد، أو أي أمر من هذه الأمور المعلومة، فإنه يكفر ويخرج من الملة.
    قال الشيخ: ''فإن الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم -أي: أهل العلم- أن من جحد أصلاً من أصول الدين أو فرعاً مجمعاً عليه، أو أنكر حرفاً مما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطعياً فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة''.
    وهذا النوع هو الذي لا يكون إلا ممن جاهر بالردة، أو ممن لم يلتزم دين الإسلام كاليهود والنصارى وأشباههم، فهم لا يرون أن التحاكم إلى الكتاب والسنة واجب، أو أن الإنسان يجب عليه أن يصلي أو يصوم أو يعف عن الزنى أو الخمر، فهذه الأمور خارجة عندهم عن دائرة الوجوب، لأنهم -أصلاً- جاحدون لما أنزل الله، ومن جحد شيئاً من ذلك فهو كمن جحد كل ما أنزل الله؛ حتى وإن زعم أنه مسلم فإنه يكون جاحداً للكل!!
    وهذا بالنسبة للأحكام موجود فيمن ينتسب إلى الإسلام، ومن ذلك من يقول: إن العصر قد تغير، وإن الزمان قد اختلف، وإن الحكم بما أنزل الله إنما كان واجباً في زمن كانت الإنسانية فيه بدائية، والحياة بدائية، والأحوال أقرب إلى البساطة، أما الآن في عصر الحضارة والتعقيد والتطور فإنه لا يجب، وهذا يقولونه: إما بلسان الحال أو بلسان المقال، وهو كفر مخرج من الملة، فهذا النوع الأول، وقد عده سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز من نواقض الإسلام.
  2. تفضيل حكم غير الله على حكم الله

    قال: ''الثاني: ألا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كون حكم الله ورسوله حقاً''.
    وهذا بخلاف الأول الذي جحد وأنكر ذلك.
    يقول: "لكن اعتقد أن حكم غير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن من حكمه وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع''.
    وهذا النوع يقع في كثيرٍ من الكتابات أو التعبيرات، فيأتي بعض الناس ويتكلم في التربية أو في القانون أو في النظام الاجتماعي - مثلاً - فيذكر كيف كان الحال عند الرومان، ثم عند اليونان، ثم في الإسلام، ويبين أن الإسلام جاء بتوجيهات في ذلك، ويذكر بعض الأحاديث ثم يذكر النظريات الحديثة ويتوسع فيها، ويبين فضلها ومزاياها وهذا يدلك على أن هذا الكاتب يرى أن هذه النظرية أفضل مما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن لم ينطق وإن لم يتكلم، لكن عرضه وسياقه للموضوع يشعر ويوحي بذلك، نسأل الله السلامة والعافية.
    يقول الشيخ: ''إما مطلقاً -أي: أن بعض الناس يرى أن حكم غير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من حكمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مطلقاً- أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال''.
    فتقول بعض الدول: أمَّا ما يتعلق بالأحوال الشخصية كالطلاق، والحقوق، والمعاشرة بين الزوجين، والنفقة، والعدة، فهذه تؤخذ من الإسلام، ويتحاكم إليه، أما في النواحي التجارية وأنظمة العمل والعمال والقوانين المدنية وما إلى ذلك، فلا يرى الرجوع في ذلك إلى الإسلام.
    والبعض يرى أنه لا في هذا ولا في هذا حتى بالنسبة للأحوال المدنية أو الأحوال الشخصية لا يتحاكم إلى الإسلام؛ لأن تغير الإنسان اقتصادياً واجتماعياً يجعله يتغير شخصياً ونفسياً وخلقياً وسلوكياً، فما دام أن ما سبق قد تغيَّر، فإن الدين وحكمه لا يتمشَّى معه، فينكرون بذلك حكم الله في الكل، نسأل الله السلامة والعافية.
    يقول: ''وهذا -أيضاً- لا ريب أنه كفر لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان، وصرف حثالة الأفكار، على حكم الحكيم الحميد -هذا تعليل من الشيخ رحمه الله في تكفير القائل بهذا القول- ثم قال الشيخ: وحكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان، وتطور الأحوال، وتجدد الحوادث، فإنه ما من قضية -كائنة ما كانت- إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصاً أو ظاهراً أو استنباطاً أو غير ذلك، عَلِمَ ذلك من علمه وجهله من جهله''.
    فحكم الله لا يتغير، والله تبارك وتعالى قد أتمه ((وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلا))[الأنعام:115]؛ فقد أتم الله تعالى الكتاب صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام، وأنزله مفصلاً، وجعله تبياناً لكل شيء، فهو شامل، والحكم الذي فيه حكم معين ومحدد، لا يختلف باختلاف الأزمان، وتغير الأحوال والبيئات أبداً.
    وما من قضية ولا كائنة ولا واقعة تقع إلا وحكمها في كتاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إما [نصاً] بآية تدل عليها أو حديث، كما جاء في آيات الدين، وآيات الربا، والأحكام المعروفة، كالصيام والزكاة وما أشبه ذلك، وكذلك في السنة كما هو معلوم.
    [أو ظاهراً]: بأن تدل عليها النصوص دلالة ظاهرة، وتكون الدلالة على غيرها أرجح، لأن النص هو ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، وأما الظاهر فهو ما احتمل وجهاً آخر؛ ولذلك يختلف العلماء وتتنوع اجتهاداتهم.
    [أو استنباطاً]: فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد جعل هذا الكتاب العظيم مجالاً لأولي الألباب، لأولي النهي، لقوم يعقلون، لقوم يتفكرون، أي: يتفكرون ويستنبطون ويستخرجون من هذا الذكر الحكيم والقرآن العظيم ما يقيمون به حياتهم، فيتحاكمون إليه، وأكثرهم فقهاً هو من وفقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكان أكثر تدبراً واستنباطاً من غيره، فإنه يستنبط ويعلم ما لا يعلمه الآخر ولكل أجره ونصيبه.
    فالاستنباط وجه من وجوه الاستدلال بالكتاب والسنة -وهذا واضح- فإن كثيراً من الأشياء التي استجدت في هذا العصر، يستدل عليها علماؤنا الأجلاء بالآيات من كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على العلماء وعلى الناس.
    ومن حكمته تعالى وفضله أن جعل هذا الكتاب بهذه المنـزلة والمكانة، ولو جاءت عصور أخرى، وتغيرت الأحوال، وتجددت بأشكال أخرى؛ فإنه يُقيِّض ويُسخِّر من يستنبط الأحكام ويأخذها من هذا الكتاب، ويتحاكم الناس إليها، ويكونون سائرين على ما أنزل الله بمقتضى هذا الاستنباط الذي أوتيه أرباب الفقه والفكر والتدبر.
  3. فهم خاطئ لمسألة تغير الفتوى وتصحيحه

    يقول: ''وليس معنى ما ذكره العلماء من تغير الفتوى بتغير الأحوال ما ظنه من قلَّ نصيبهم أو عُدِم من معرفة مدارك الأحكام وعللها، حيث ظنوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إراداتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية، وتصوراتهم الخاطئة الوبية،و لهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص تابعةً لها، منقادة إليها مهما أمكنهم، فيُحرفون لذلك الكلم عن مواضعه، وحينئذٍ معنى تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان مراد العلماء منه: ما كان مُستصْحَبة فيه الأصول الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جنسها مراد لله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ''.
    والشيخ رحمه الله يرد على من أثاروا في هذه الأيام مسألة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان -وإن كان لما قالوا نصيب من الحق- إلا أن الدين في نظر هؤلاء يتجدد ويتقلب بحسب هذه الإرادات الشهوانية، والأغراض البهيمية كما يشاءون.
    ولذلك ينبغي أن يُعلم أن الأحكام الشرعية ثابتة، وأنها مبنية على العلل الثابتة التي لا يُمكن أن تتغير، فالناس هم الذين يتغيرون، ويجب أن نرد تغيرهم إلى الحق الذي تغيروا عنه، فكل الأحكام جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى محققة للمصالح ونافية للمفاسد، والخير والشر، والمصالح والمفاسد كلها ثابتة لا تتغير.
    أما مسألة الضروريات أو ما يباح في وقت الضرورة فهذا شيء آخر، فهناك أمور تدخلها الضرورة، وهناك أمور لا تدخلها الضرورة كما بين ابن القيم رحمه الله.
    فمثلاً: كون الميتة تُباح أو يُباح شرب الخمر للمضطر ((فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ))[البقرة:173] وما أشبه ذلك، فهذا يدخل في بعض الأحكام.
    أما مسألة الإيمان والكفر والموالاة والمعاداة بالقلب فلا اضطرار في ذلك أبداً، وإنما نص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعفا عن أمر واحد فقط في حال الاضطرار وهو: أن يقول الإنسان بلسانه كلمة الكفر، كما قال تعالى: ((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَان))[النحل:106] فالقلب لا ضرورة فيه، ولا يستطيع أحد كائناً من كان أن يبحث أو يفتش عن قلبك، وأن يعلم ما في داخلك، أما اللسان فيسمعونه، فلهذا إذا اضطر الإنسان في حالة التعذيب الشديد -كما وقع لبعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في أول الإسلام- أن يقول كلمة الكفر بلسانه، ولكنه في قلبه يعتقد الحق ويؤمن به ولا يتزحزح عنه.
    فتغير الفتوى -حنيئذٍ- حق، ولكن لا تتغير الأحكام، ولا تتغير النصوص، ولا تتغير مقاصد الشارع، والحِكَم التي جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مناطاً للأحكام، ولذلك إذا تغيَّر الحكم -كما في حالة الضرورة- فإننا نجد أن العلة وأن المناط الشرعي مقصود هناك.
    فمثلاً: لمَّا حرَّم الله تبارك وتعالى الميتة كان ذلك لحكمة ومصلحة مقصودة من ذلك، فإذا أباحها للمضطر لم يتغير الحكم ولم تتغير المصالح، بل هي موجودة وهي حفظ النفس، إذا وصل الحال بالإنسان إما أن يموت وإما أن يأكل من الميتة، وفي هذا الموضع المصلحة أعظم وأظهر لما فيها من الضرر في دينه وفي دنياه، فهنا نقدم مصلحة على مصلحة.
    إذاً: فالمصالح باقية، والحِكَمُ باقية، والنصوص باقية، والأحكام باقية، وإنما تتغير بحسب الأحوال، أما إذا خضع الأمر لأهواء الناس أو لآرائهم أو لشهواتهم، أو كما يسمونه هم [لنمو المجتمع] ومسايرةً للمجتمعات الحديثة والمجتمعات الملحدة الكافرة، فإن ذلك خروج عن هذه الحكم والمصالح جميعاً، ولذلك فلا حجة فيه.
    فهم يقولون نحن ننشر الفساد ونبثه بين الناس؛ فإذا ما انتشر فإنهم سوف يقبلون بالواقع ويفتون بالجواز ولو بعد عشرين سنة، فالمناط في نظر هؤلاء هو رغبة الناس وأهوائهم، بينما نحن نقول: المسألة مرتبطة بأصول وبأحكام شرعية قطعية ثابتة لا تتغير كما ذكر الشيخ رحمه الله.
    فيقول: ''ليس معنى ما ذكره العلماء من تغير الفتوى بتغير الأحوال ما ظنه من قل نصيبهم أو عُدِمَ مِنْ معرفة مدارك الأحكام وعللها، حيث ظنوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إراداتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية، وتصوراتهم الخاطئة الوبية، ولهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص تابعة لها، منقادة إليها، مهما أمكنهم، فيُحرفون لذلك الكلم عن مواضعه''.
    وما أكثر ما يقع من تحريف الكلم عن مواضعه والاستدلال بالآيات في غير مواضعها.
    يقول: ''وحينئذ معنى تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان مراد العلماء منه: ما كان مستصحبة فيه الأصول الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جنسها مراد لله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ''.
    وذلك كما لو كثر في الناس شرب الخمر، أكثر من ذي قبل، فقيل: إنه ما دام ذلك قد وقع فلنجعل عقوبة السائق إذا خالف أو عمل حادثاً وهو سكران ضعف ما إذا كان غير سكران في العقوبة المعروفة العادية في النظام أو الحق، ليكون زجراً له عن ذلك، فالمصلحة هنا أن ينـزجر الناس عما حرم الله.
    وهكذا فإن كل ما نراه يخل بهذه المصلحة فإنه يجوز لنا أن نجتهد وأن نحدث ما يمنع ويردع الإخلال بهذه المصلحة من أحكام أو من عقوبات ما دام في ضمن التعزيز الشرعي والضوابط الشرعية.
    قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه- ''يُجدُّ للناس من الأقضية مثل ما يُجدُّون من القضايا''.
    فكلما استجد الناس قضية نجد لهم أيضاً نحن من الأقضية، فنقضي على تلك، وهكذا فما دامت المصلحة والحكمة مراعاة فإن تغيير الفتوى جائز، بل قد يكون ضرورياً، وفي ذلك حكمة عظيمة من حكم التشريع، وهو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد جعل هذا الكتاب محكماً، وجعل أحكامه محكمة، ومع ذلك فإنها تتلائم فعلاً مع الأحوال، وتتحقق المصلحة في أي حال كانت، وفي أي ظرف كان، وفي أي زمان وفي أي مكان، ولهذا قال بعض العلماء: حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله، وليس معنى هذا أن يتلاعب بالدين باسم المصلحة، فما نص الشرع على تحريمه فهو مفسدة لا مصلحة فيه بحال، لكن المراد بهذا ما كان من الأمور المتغيرة المتجددة الحادثة واجتهد من له الحق في الاجتهاد أن في ذلك مصلحة فثم شرع الله.
    يقول الشيخ: ''ومن المعلوم أن أرباب القوانين الوضعية عن ذلك بمعزل، وأنهم لا يقولون إلا على ما يلائم مراداتهم كائنة ما كانت، والواقع أصدق شاهد''.
    أهل القوانين الوضعية لا ينظرون إلى مسألة المصالح الشرعية والعلل المرعية، وإنما ينظرون إلى أهوائهم وشهواتهم. وبهذا ينتهي الحديث عن النوع الثاني من أنواع الكفر الاعتقادي.
  4. مساواة حكم غير الله بحكم الله

    يقول: '' النوع الثالث: ألا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله''.
    وهذا مثلما قال التتار: رجلان عظيمان، محمد وجنكيز خان، ومثلما يقول بعض الناس اليوم: ينبغي للناس أن يتبعوا الأحكام التي جاءت بها الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية وكأنها سواء، فنسأل الله السلامة والعافية.
    فيقول: ''فهذا - أي: من اعتقد أن حكم غير الله مساوياً لحكمه - كالنوعين اللذين قبله، في كونه كافراً الكفر الناقل عن الملة''.
    أي: كمن فضَّل القوانين الوضعية على المنـزل، أو كمن جحد أحقية الحكم المنـزل.
    يقول الشيخ: ''كافر الكفر الناقل عن الملة لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق''.
    كما يقول أهل النار: ((تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ))[الشعراء:97-98] فهم في ضلال مبين؛ لأنهم سوّوهم برب العالمين في التعظيم والمحبة والإجلال واتباع أمرهم وتقدير كلامهم، وهذا هو العدل الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ))[الأنعام:1] والعدل: هو التسوية في المحبة والإجلال، كما قال تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ))[البقرة:165].
    ولا يشترط أن يسووا بينهم في الخلق والرزق، والإحياء والإماتة والتدبير، بل كان الجاهليون يعتقدون أن الخلق والرزق والإحياء وتدبير الأمر، وإنزال المطر، ونحو ذلك كله هو من فعل الله وحده لا شريك له قال تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ))[الزخرف:9]، والآية الأخرى: ((لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)) [الزخرف:87].
    فلم تكن القضية عندهم في الخلق والرزق، وإنما كانت في الإجلال والتعظيم والتوقير، فمن قال: إن كلام الله وحكم الله تعالى مثل حكم ذلك القانون الوضعي الخبيث أو نظيره، فإنه يكون كافراً كفراً أكبر ناقلاً له عن الملة، لأنه سوّى بين الخالق والمخلوق.
    يقول: ''لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة لقوله عز وجل: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[الشورى:11] ونحوها من الآيات الكريمة الدالة على تفرد الرب بالكمال، وتنـزيهه عن مماثلة المخلوقين في الذات والصفات والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه ''.
    وهذا يُذكرنا بكلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عندما قال: ما صفات من يستحق أن يحكم بين الناس؟
    ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض))[الشورى:10-11] مثلاً.
    فمن هذه صفته فهو الذي يتحاكم إليه، فإذا جاء أحد فقال: حكم الله وحكم غير الله سواء، فمعنى ذلك أنه خلع تلك الصفات التي تفرد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها على ذلك المخلوق، الذي لا يمكن أن تكون فيه هذه الصفات، وبهذا تجد التشابه الكبير بين كلام الإمام الشنقيطي والشيخ محمد بن إبراهيم؛ وذلك لأن أهل السنة ينهلون من منهل واحد، ويغترفون من معين واحد، فمهما اختلفت عصورهم أو ألفاظهم أو اجتهاداتهم فإن هنالك تشابه واتفاق فيما يذهبون إليه من الأحكام ومن الآراء.
  5. تجويز الحكم بغير ما أنزل الله

    الرابع: '' ألا يعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلاً لحكم الله ورسوله، فضلاً أن يعتقد كونه أحسن منه، لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله، فهذا كالذي قبله يصدق عليه ما يصدق عليه، لا عتقاده جواز ما عُلِمَ بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة تحريمه''. وهذا -أيضاً- نوع كالذي قبله نوع من أنواع الكفر الأكبر الناقل من الملة - نسأل الله السلامة والعافية - وكثير من الناس لا يأبهون ولا يتنبهون لهذا، ولو أن المسلمين عرفوا حقيقة العقيدة والتوحيد، وحقيقة تعظيم كتاب الله وتعظيم شعائر الله، وتعظيم حرمات الله، وكانت فيهم الغيرة على دين الله؛ لكان حالهم اليوم غير هذا الحال وإلى الله المشتكى.
  6. سن القوانين

    يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: ''الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندةً للشرع، ومكابرةً لأحكامه، ومشاقةً لله ولرسوله، ومضاهاةً بالمحاكم الشرعية، إعداداً وإمداداً وإرصاداً، وتأصيلاً وتفريعاً وتشكيلاً وتنويعاً وحكماً وإلزاماً، ومراجع ومستندات.
    فكما أنَّ للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلهذه المحاكم مراجع، هي: القانون المُلفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك''.
    هذا النوع الخامس هو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه؛ لأن الأنواع الأولى قد تفعل فردياً أو على سبيل الاعتقاد، لكن هذا النوع أعظم وأشد ضرراً وخطراً لأنه عام للأمة، وهو أن يأتي أحد فيفتح المحاكم غير الشرعية ويقيمها في البلاد طولاً وعرضاً، ويجعل لها أنواعاً وتفريعات ومراجع ومستندات...إلى آخر ما ذكر الشيخ رحمه الله، ويلزم الناس بالتحاكم إليها والرجوع إليها عند التنازع وألاَّ يرجعوا إلى سواها.
    فهذا أكبر وأعظم وأشد، في جحد ما أنزل الله تبارك وتعالى وإنكاره وعدم الإقرار به، وإن قالوا بألسنتهم: إنا نقربه؛ لأن الواقع يخالف ذلك تماماً، وفي ذلك -كما ذكر الشيخ- معاندة للشرع حيث يفرض حكم غير حكم الله تبارك وتعالى على الناس، وفيه مكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يتخذ غير ما أنزل شرعاً، وأن يتخذ سبيل غير سبيل المؤمنين، ومضاهاةً للمحاكم الشرعية، وهذه من علامات أنه كفر أكبر، فإن من دلائل ذلك أن في هذه المحاكم وفي بنائها وفتحها وتفريعها مضاهاة للمحاكم الشرعية.
  7. مراجع القانونيين في تقنينهم

    قوله: ''إعداداً وإمدادا،ً وإرصاداً وتأصيلاً وتفريعاً، وتشكيلاً وتنويعاً، وحكماً وإلزاماً، ومراجع ومستندات''.
    هذا دليل على أن الشيخ رحمه الله لديه خبرة ومعرفة جيدة بواقع المحاكم القانونية، فإنها -كما ذكر- وضعت ورتبت كما لو كانت محاكم شرعية، من حيث المراجع والمصادر والإمداد والسجلات والأنواع، وهذا شيء عجيب جداً!
    فتجد في أكثر بلاد العالم الإسلامي مثل هذه المحاكم، محاكم ابتدائية -كما يسمونها- ثم محاكم النقض! أو المحاكم الاستئنافية التي تستأنف عندها الأحكام، وتنقض أحكام المحاكم التي دونها، وهناك فوق ذلك المحكمة العليا، أو المحكمة الدستورية، أو المجلس الأعلى للقضاء -وبلا شك القضاء غير الشرعي- وهناك محاكم إدارية، ومحاكم تجارية، ومحاكم مدنية، ومحاكم جزائية، ومحاكم عمالية، ولها مراجع ومصادر ويرجعون إلى أصول القوانين التي استمدت منها القوانين.
    فتجدهم يقولون: قد رجعنا إلى ما قاله الفقيه فلان -يسمون أصحابهم فقهاء- وما قاله القانوني فلان وفلان، ورجعنا إلى أصل هذه المادة في القانون الفرنسي، فوجدنا فيها كذا، ثم وجدنا كذا، وبناءً عليه حكمنا بكذا، فيرجعون رجوعاً صريحاً واضحاً إلى ذلك.
    بل إن الأمر تجاوز هذا، فترى الكليات القانونية التي بدأت بفروع وبأقسام صغيرة، ثم في النهاية أصبحت كليات مستقلة للقوانين من بعد المرحلة الثانوية التعليمية إلى الدكتوراه، ولها أساتذة متخصصون، ولها مراجع ولها استمدادات، ثم بعد ذلك يتخرج الطالب من الكلية التي يسمونها كلية الحقوق أو كلية القانون، ويتعين في درجة دنيا من درجات السلم القضائي، ثم يرتفع ويترقى حتى يصبح في المحكمة العليا، أو رئيساً للمحكمة العليا وهو المنصب الأعلى في تلك البلاد التي تحكم بغير ما أنزل الله، نسأل الله العفو والعافية.
    فهذا فيه -كما ذكر الشيخ- مكابرة ومعاندة ومشاقة ومضاهاة لحكم الله، وللمحاكم الشرعية، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستمدات، ومرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلهذه المحاكم -أيضاً- مراجع هي: القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني.
    وقد سبق أن بينا أن أكثر القوانين في العالم العربي والدول الإسلامية تستمد من القانون الفرنسي وأشباهه كالقانون السويسري؛ لأنها قوانين تعتمد وتقوم على التقنين وهو التشريع المكتوب الذي يفصل في مواد قانونية.
    أما القانون الأمريكي أو الإنجليزي -والأمريكان تبع للإنجليز في هذا- فهو لا يقوم على الكتابة القانونية المفصلة، فالشرع والحكم عندهم يعتمد على نظام السوابق، العرف القضائي، وما تعارفت عليه المحكمة، ولذلك إذا جاءت قضية ينظرون: هل سبق أن حكمت المحكمة ولو قبل ثلاثين سنة أو أربعين أو أكثر في مثل هذه القضية؟
    فإن وجدوا لها سابقة حكموا بمثل ما حكم من قبلهم، وإن لم يجدوا لها سابقة فإنهم يجتمعون ويقررون، ثم يصبح هذا الحكم سابقة لمن بعدهم ويبنى عليه ويقاس عليه في المستقبل.
    يقول: '' ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، وغير ذلك ''.
    وأيضاً قد يخلطون مع القوانين الوضعية، الأخذ من مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، فقد ينتسب بعض الناس إلى الشريعة ويأتي ببدع في الأحكام، وهذا -مع الأسف- هو النموذج الذي يراد له الآن أن يظهر وأن ينتشر في العالم الإسلامي، مثل بدعة (الإسلام العصري) وهذه البدعة الخطيرة معناها أن الإسلام يزيد لمصلحة العصر. أو يضفي عليه ثوب العصر، أو يطور ليلائم العصر، أو ما أشبه ذلك من العبارات، وهذه الدعوة الخبيثة لا تنكر النص القرآني، لكنها تفقده قيمته ومعناه بما تحوره ليوافق كما يزعمون "روح العصر".
    فهم ليسوا دعاةً بالضرورة إلى تحكيم القوانين الوضعية مباشرةً، لكن يقولون: الفتوى تتغير بتغير الأحوال والأزمان، فالحدود يمكن أن توقف في بعض الأحيان، وبعض الأحكام لا بد من تعديلها وإعادة النظر فيها، وبعض القضايا لابد من الرجوع فيها إلى أقوال معينة ولا نلتزم بأقوال، حتى قالوا لو وجدنا ما يوافق العصر في أقوال الزيدية أو الهادوية أو الجعفرية الرافضة -لعملنا به، لأننا عندما نلتزم بأن نأخذ برأي الجمهور، أو المجمع عليه، ونترك ما شذ عن هذا الإجماع، فهذا قد يكون فيه تضييع، وربما يكون الإجماع قائماً على شيء لا يوافق العصر ولا يتماشى مع روح الحياة الحديثة، ويكون القول الشاذ أو المرجوح، أو الذي قالت به إحدى الطوائف، أو أحد المجتهدين في عصور التاريخ الطويلة هو الأفضل.
    مثلما يأخذون عن هذا الرافضي الطوفي -والغريب أنه كان حنبلياً أشعرياً رافضياً- وكم فرح هؤلاء القوم بمقولته: إن المصلحة تقدم على النص الشرعي!! فأخذوا بها وظلوا يؤصلون لها ويروجون لها.
    فهؤلاء المبتدعون المنتسبون إلى الشريعة يحسن ويحلو للقانونيين أن يأخذوا منهم؛ لأنهم في الحقيقة لا يختلفون كثيراً عن أصحاب القوانين الوضعية، الذين يريدون أن يوفِّقوا بين هذا الدين وبين لوازم أو متطلبات الحياة الحديثة، فيبقى الدين نصوصاً مكتوبة يقرأها الناس ويتبركون بها لا غير وهو في الواقع يؤوَّل ويحرف الكلم عن مواضعه، فمنها ما يُلغى، ومنها ما يلوى عنقه، ومنها ما يغير عن حقيقته، والمقصود واحد من الجميع وهو الذي ذكره الله تعالى عن المنافقين من أنهم يقولون: ((إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً))[النساء:62].
  8. حكم سن القوانين

    يقول الشيخ رحمه الله: '' فهذه المحاكم الآن -هذا في زمنه رحمه الله وقد توفي عام (1389هـ)، وألف هذه الرسالة عام (1380هـ)، "في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب "، فهم لا يجدون مكاناً يتحاكمون فيه إلا هذه المحاكم بمختلف أسمائها وأنواعها وأشكالها. يقول: يحكم حكامها بينهم، بما يُخالف حكم السنة والكتاب، من أحكام ذلك القانون وتلزمهم به''. أي: إلزام السلطة التنفيذية -ممثلة بمجلس الوزراء وما يتعلق به- للناس بأحكام هذه المحاكم. يقول رحمه الله: ''وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة؟!''. أي: وإن زعم أصحابه أنهم مسلمون، وإن صلوا وصاموا وحجوا البيت وهم ما زالوا يتحاكمون إلى هذه القوانين ويلزمون بها الناس، ويحتمونها على الأمة، ويعرضون عن كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويجعلونها وراء ظهورهم. فهل هناك كفر أكبر من هذا كما يقول الشيخ رحمه الله؟ لا كفر أشد من هذا، حتى وإن قال: كلام الله حق وخير، ودينه حق، ورسوله حق، فلا ينفعهم ذلك ولا يكون مؤمناً أبداً. ومثلهم كمثل أحبار أهل الكتاب الذين كانوا يشهدون بصدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن لا يؤمنون به ولا يتبعونه، فما نفعهم ذلك، بل قاتلهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسبى ذراريهم وأموالهم، وكذلك هؤلاء، فمن أين جاءهم وصف الإسلام وهم بهذا الحال من المناقضة لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
  9. الأدلة على كفر المشرٍِّع والمتحاكِّم

    يقول الشيخ: ''وذِكْرُ أدلة جميع ما قدمنا على وجه البسط معلومة معروفة لا يحتمل ذكرها هذا الموضع!! -الأدلة على أن هذا كفر أكبر مخرج من الملة معلومة معروفة، وقد سبق ذكر بعضها والحمد لله- يقول: " فيا معشر العقلاء! ويا جماعات الأذكياء وأولي النهى!كيف ترضون أن تجري عليكم أحكام أمثالكم، وأفكار أشباهكم، أو من هم دونكم، ممن يجوز عليهم الخطأ، بل خطأهم أكثر من صوابهم بكثير، بل لا صواب في حكمهم إلا ما هو مستمد من حكم الله ورسوله نصاً أو استنباطاً " -وهذا هو الواقع!! كيف يرضى هؤلاء أن يؤلهوا بشراً مثلهم أو أقل منهم ولا خير في أحكامهم- يقول: تدعونهم يحكمون في أنفسكم، ودمائكم، وأبشاركم، وأعراضكم، وفي أهاليكم، من أزواجكم وذراريكم، وفي أموالكم، وسائر حقوقكم، ويتركون ويرفضون أن يحكموا فيكم بحكم الله ورسوله الذي لا يتطرق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد''. وهنا يخاطب الشيخ رحمه الله العلماء والعقلاء، والأمة عامة التي فرضت عليها هذه الأحكام مستنكراً عليهم رضاهم بها، ولو أن الناس أنكروا هذه المحاكم وهذه الأحكام، لكان الحال غير هذا الحال، لكنهم استمرأوا ذلك، وسكتوا وأخلدوا إليه، وأصبحوا يرونه كأنه أمراً عادياً. ولذلك أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حريصون أشد الحرص على الوقوف في وجه كل داعية يدعو الناس في أي بلد من البلاد إلى الاحتكام الكامل والكلي إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن ذلك يخالف تمام المخالفة ما يريدونه من نشر الفاحشة والرذيلة وإبقاء التبعية، وفرض العبودية على هذه الأمة، لتظل تعيش في ركاب الأمم النصرانية الغربية. فالشيخ رحمه الله يستثير النفوس، ويستنفر الهمم؛ لتقف في وجه هذا التيار الخبيث، الذي يريد أن يجعل هذه الأمة تابعاً ذليلاً لتلك الأمم في هذا الكفر والشرك الأكبر والعياذ بالله. يقول: ''وخضوع الناس ورضوخهم لحكم ربهم خضوع ورضوخٌ لحكم من خلقهم تعالى ليعبدوه، فكما لا يسجد الخلق إلا لله ولا يعبدون إلا إياه ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب ألا يرضخوا ولا يخضعوا أو ينقادوا إلا لحكم الحكيم العليم الحميد، الرؤوف الرحيم، دون حكم المخلوق الظلوم الجهول، الذي أهلكته الشكوك والشهوات والشبهات'' . فبين الشيخ أن معنى أنكم مؤمنون، وأنكم تعبدون الله، وأنكم مسلمون أن ترضخوا لأحكام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن تنقادوا لها، وإلا كيف تقولون: لا نعبد إلا إياه ولا نسجد إلا له، ثم تتحاكمون إلى غير شرعه، هذا لا يمكن بل هذا هو الشرك، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر ذلك في القرآن، فإن مما ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من صفات أهل الكتاب الذين أوجب الله تبارك وتعالى على المؤمنين جهادهم، وضرب الجزية عليهم، أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فإذا كان من يحكِّم التوراة ويتحاكم إليها كافر؛ لأنه يحكم بشريعة منسوخة مع ما فيها من الأحكام التي لم تحرف، كتحريمهم الربا على اليهود فيما بينهم، وتحريم بيع الغرر، والغش، وعند النصارى كل الفواحش ما ظهر منها وما بطن محرمة، فكيف بمن يتبع أقواماً لا صلة لهم بالدين وإنما هم علمانيون لا دينيون، ملحدون كالمشرعين الغربيين اليوم، يحكموا والشرائع والقوانين الوضعية التي وضعتها حثالة الأفكار؟!! لا شك أن هذا الثاني أشد كفراً وأعظم جرماً.
  10. توحيد العبادة وتوحيد الحاكمية

    يقول: ''فكما لا يسجد الخلق إلا لله، ولا يعبدون إلا إياه، ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب ألاَّ يرضخوا ولا يخضعوا أو ينقادوا إلا لحكم الحكيم العليم، الحميد، الرؤف الرحيم''.
    والقرآن صريح في هذا وواضح، ولو أن الناس يتدبرون كلام الله تبارك وتعالى كسورة الأنعام وهي التي ذكر فيها التشريعات، وذكر فيها ضرورة الحكم بما أنزل الله، وهي سورة التوحيد العظمى في القرآن، فيقول فيها: ((قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) [الأنعام:14].
    ولو أن الناس تدبروا لفهموا من هذه الآية أن من الشرك أن يتخذ الإنسان ولياً من دون الله يخافه ويدعوه ويرجوه ويتقيه كما يفعل عباد الأولياء والصالحين... إلخ.
    وقال أيضاً في آخر السورة: ((قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ))[الأنعام:164] الله تعالى رب كل شيء، فكيف يكون الله تبارك وتعالى رب كل شيء ((وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً))[الرعد:15] ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ))[الإسراء:44] ويأتي هذا الإنسان المخلوق الضعيف فلا يتخذه رباً، وإنما يتخذ غيره من الأرباب إما من الأصنام، وإما من الطواغيت من البشر كفرعون وأمثاله؟!
    وهذا -أيضاً- نوع معروف أن من فعله فإنه كافر.
    وقال في نفس السورة : ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً))[الأنعام:114] وقال في الآية التي بعدها: ((وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))[الأنعام:115-116] فكما أنَّا لا نتخذ غير الله إلهاً وولياً ولا رباً ولا خالقاً ولا رازقاً، فكيف نتخذ غير الله حكماً، وهو الذي أنزل هذا الكتاب المفصل، وقد تمت كلمته صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام؟!
    وكيف نطيع البشر في مخالفة أمر الله وإن كثروا! ((وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه ))[الأنعام:116]قال بعد ذلك: ((وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) [الأنعام:121].
    فالقضية واحدة كما ذكر الشيخ، فاتخاذ غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حكماً، هي مثل اتخاذ غير الله تعالى ولياً وإلهاً ورباً خالقاً رازقاً، لا يختلف هذا عن هذا.
    إذاً: لماذا يستنكر المسلمون أو يستعظمون ويستبشعون أن يعبد غير الله وأن يصلى ويسجد لغير الله، ولايستبشعون أو يستفظعون أن يتحاكم إلى غير الله، وأن يتخذ غير الله تعالى حكماً، وأن يتخذ كتاب الله ظهرياً، ويؤتى بقوانين البشر المتألهين والمتسلطين، وتحكم في الدماء والأموال والأعراض والرقاب؟!
    هذا ما يريد الشيخ رحمه الله تعالى أن يوضحه، وقد سبق الإشارة إلى كثرة الأدلة في ذلك والحمد لله.
    يقول الشيخ: ''دون حكم المخلوق الظلوم الجهول -كما قال تعالى عنه: ((إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)) [الأحزاب:72]، وهكذا حال الإنسان- الذي أهلكته الشكوك، والشهوات والشبهات، واستولت على قلوبهم الغفلة والقسوة والظلمات ''.
    ألا ترى أن المسلم لا يجوز له أن يقلد عالماً من علماء الإسلام أو مفتياً في كل ما يقوله أو يفتي به؟
    لأن هذا لا يكون إلا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يؤخذ عنه كل قول يقوله، أما من عداه فيؤخذ من قوله ويرد؛ فإذا كان هذا في حق علماء الأمة وإن كانوا الأئمة الأربعة، أو من هو أفضل منهم ممن تقدمهم من التابعين أو من الصحابة، فكيف في حق أصحاب التشريع والقانون الوضعي الذين لا صلة لهم بالدين ولا بالعبودية؟!!
    إذا كان قد يخطئ العالم المجتهد فكيف بالكافر الملحد المتصف بالظلم، والجهل، والكفر، والطغيان والشكوك، والشبهات، والشهوات، وكلها مجتمعة فيه!
    ولذلك تأتي أحكامهم وشرائعهم بالعجب العجاب من هذه التناقضات -نسأل الله العفو والعافية- حتى إن العاقل منهم لو تأمل لما صدق أنهم يحتكمون إلى هذه الشرائع! ولعجب منهم كيف يؤمنون بها!
    وما ذلك إلا لخفاء وجهل كثير من الناس بحقائق الدين وشرائعه، بسبب سيطرة الإعلام الغربي -ولو من بعيد- من قبل اليهودية والصهيونية والإلحادية والعلمانية والنصرانية، وتوجيه الإعلام توجيهاً خاصاً، فيجهل كثير من الناس حقيقة ما أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثم تجدهم يعجبون ويندهشون عندما يجدون أحكام الله وما فيها من العدالة والسهولة مما لم يكن يخطر لهم على بال.
    وقد سمعنا برنامجاً في صوت أمريكا عن امرأة مسلمة متخصصة في الدراسات القرآنية والإسلامية في إحدى الجامعات، فتقول: إن المرأة في الإسلام ترث ويحق لها التملك إلى درجة تثير الدهشة عندنا نحن الغربيين!
    ثم تقول: وإن في المملكة العربية السعودية حيث تطبق أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالميراث تملك المرأة ما يعادل (40%) من الممتلكات فتعجبت!! وقالت: إن هذا شيء عجيب جداً، ولا أدري من أين أخذت الرقم؟
    ونحن لا نستغرب ولا جديد فيه عندنا أن النساء يملكن الأموال العظيمة، لكن الغرب وبسبب جهلهم بدين الله أصيبوا بهذه الدهشة.
    يقول الشيخ رحمه الله: '' فيجب على العقلاء أن يربأوا بأنفسهم عنه، لما فيه من الاستعباد لهم، والتحكم فيهم بالأهواء، والأغراض، والأغلاط، والأخطاء، فضلاً عن كونه كفراً بنص قوله تعالى: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون َ)) [المائدة:44] .
    أي: فضلاً عن أن هذا كفر، فالعاقل يربأ بنفسه عن أن يكون عبداً لبشر مخلوق مثله، والله تعالى بعث الرسل في جميع الأزمان يذكرون الناس بهذا، أن كيف تعبدون بشراً أمثالكم؟!
    وكيف تدعون من دون الله من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا حياةً ولا موتاً؟!