المادة    
قال: '' وتأمل قوله عز وجل: (( وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ))[النساء:60]'' فبعد أن قال تعالى: ((يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ))[النساء:60] أكَّد ذلك بقوله: ((وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ))[النساء:60]، وهذا من أصرح الأدلة على أن تحكيم غير الشرع كفر وتحكيم القوانين الوضعيه كفر.
قال: '' تعرف منه معاندة القانونيين وإراداتهم خلاف مراد الله منهم حول هذا الصدد، فالمراد منهم شرعاً، والذي تُعبدوا به هو: الكفر بالطاغوت لا تحكيمه: ((فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ))[البقرة:59]'' قال تعالى : (( وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ )) [النساء:60] قال تعالى: ((فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا))[البقرة:256] والعروة الوثقى: هي شهادة أن لا إله إلا الله، وهي نفي الكفر بالطاغوت وإثبات الإيمان بالله.
فإذا تأمل الإنسان ذلك -كما يقول الشيخ رحمه الله- عرف معاندة القانونيين وإرادتهم خلاف مراد الله، فالله تعالى أمر أن يكفر بالطاغوت، وأن يتحاكم إلى ما أنزل الله، وهؤلاء يوجبون على الناس التحاكم إلى ما يشرعون، ويصرفونهم عن التحاكم إلى شرع الله وإلى دينه.
  1. اتباعهم لإرادة الشيطان

    قال: ''ثم تأمل قوله تعالى: ((وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ))[النساء:60] كيف دل على أن ذلك ضلال؟!''.
    وهذا حال من يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت.
    فيقول الشيخ: ''وهؤلاء القانونيون يرونه من الهدى''.
    أي: التحاكم إلى الطاغوت، ويقولون: هذا شيء حسن، وهذا رُقي وتطور، بل ربما يفتخرون بقولهم: في عام كذا وضعنا نظاماً وقانوناً للبنوك الاقتصادية، وفي عام كذا وضع القانون المدني، ويرون أن هذا اهتداءً، وأن الأمة قبله كانت في حالة تخلف وفي ضلال، عكس ما قاله الله تبارك وتعالى تماماً!! كما دلت الآية.
    يقول الشيخ: ''كما دلت الآية على أنه من إرادة الشيطان''.
    فالتحاكم إلى الطواغيت أو القوانين هذا من إرادة الشيطان، فهو يريد أن يُضلهم فيتحاكمون إليها.
    يقول الشيخ: ''عكس ما يتصور القانونيون من بُعْدهم من الشيطان، وأنه فيه مصلحة الإنسان، فتكون على زعمهم مرادات الشيطان هي صلاح الإنسان، ومراد الرحمن وما بعث به سيد ولد عدنان، معزولاً من هذا الوصف ومنحىً عن هذا الشأن''.
    فهم قلبوها، فجعلوا الحكمة والرحمة والمصلحة في مرادات الشيطان، وأمَّا ما أنزله الرحمن، وما أراد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا فيه-كما يزعمون - التأخر والانحطاط، أو عدم الصلاحية.
    قال: ''وقد قال تعالى منكراً على هذا الضرب من الناس، ومقرراً ابتغاءهم أحكام الجاهلية، وموضحاً أنه لا حكم أحسن من حكمه: ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))[المائدة:50] فتأمل هذه الآية الكريمة، وكيف دلت على أن قسمة الحكم ثنائية ''.
    فالحكم حكمان لا ثالث لهما، وأي حكم في الدنيا لا يخرج عن هذين الحكمين.
    يقول: '' وأنه ليس بعد حكم الله تعالى إلا حكم الجاهلية، الموضح أن القانونيين في زمرة أهل الجاهلية شاءوا أم أبوا، بل هم أسوأ منهم حالاً وأكذب منهم مقالاً، ذلك أن أهل الجاهلية لا تناقض لديهم حول هذا الصدد ''.
    والجاهلية المطلقة هي الجاهلية، وإن كانت الجاهلية قد انتهت ببعثة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا أن هناك جاهلية حديثة لكنها مقيدة ببلد أو بجماعة أو بفرد أو بحكم ما كالجاهلية الغربية بأحكامها، ومن يريد التحاكم إلى الطاغوت من أبناء هذه الأمة.
    يقول الشيخ: '' ذلك أن أهل الجاهلية لا تناقض لديهم حول هذا الصدد '' لأنهم لا يؤمنون بالله ولا برسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يدّعون ذلك، ولا يزعمون أنهم يؤمنون بالقرآن؛ فلذلك تحاكموا إلى خلاف ما جاء في القرآن والسنة فهم ليسوا متناقضين؛ لكن المتناقض هو من يزعم الإيمان ويدعيه ثم يتحاكم إلى أحكام هؤلاء الجاهليين.
  2. القانونيون وتناقضاتهم

    يقول الشيخ: ''وأما القانونيون فمتناقضون حيث يزعمون الإيمان بما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويناقضون ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً'' سبحان الله! وكأنَّ هذه الآيات ما نزلت إلا علينا في هذا الزمن '' وقد قال الله تعالى في أمثال هؤلاء: ((أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً))[النساء:151] '' أي: الذين يفرقون بين الله ورسوله، ويقولون: ((نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً))[النساء:150]، وقال تعالى: ((كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ)) [الحجر:90] أي: الذين قسموا القرآن والدين، وكما قال تعالى: ((الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ))[الحجر:91] أي: أجزاءً يأخذون بعضاً ويتركون بعضاً.
    فتجد هؤلاء يؤمنون بالله ويوحدونه، ويقرون أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم النبيين، وأنه نبي للعالمين، وأنه أمرنا بالصلاة والزكاة والصوم و.... إلخ.
    كل هذا يقرون ويؤمنون به؛ لكن إذا ما جئنا إلى الكلام عن الربا مثلاً: تراه يضطرب، ويجادل، ويؤول النصوص ويحرفها، فقائل يقول: نريد الاشتراكية؛ لأنها تمنع الاستغلال، وتساوي في الملكية بين الشعب والحكومة! ومع أنه يصلي ويصوم إلا أنه في الجانب الاقتصادي يريد الاشتراكية.
    وآخر يقول: لا. لا نريد الاشتراكية، نحن نريد الاقتصاد الحر، لأنه ليس فيه قيود بأن هذا حلال وهذا حرام؛ فهو يريد الرأسمالية!!
    وتجد ثالثاً يقول: الدين كله طيب ونؤمن به؛ لكن موضوع المرأة مشكل.. فإن المرأة في بعض دول العالم أصبحت رئيسة للبلاد، وفي بعضها وزيرة... وأنتم لا تزالون تمنعونها من العمل، وتقولون: تبقى في بيتها، ولا تشهد حتى صلاة الجماعة، والرجال قوامون على النساء!! هذا مع أنه يصلي ويصوم.
    وتجد رابعاً يقول: في مسألة معاداة الكفار، وعدم موالاتهم مع كثرة النصوص المبينة، لذلك تجده يقول: كان هذا في السابق قبل النظام العالمي الجديد، أما الآن فقد أصبحنا أسرة دولية، ومجتمعاً دولياً واحداً، ولم يعد هناك عداوات، فتقول له: ونصوص القرآن؟
    فيقول: القرآن صحيح ولا ينكره؛ لكنه يفرغ الآيات عن مقتضاها ويحرفها؛ ولهذا لم ترَ في إذاعات العالم الإسلامي وصحافته وتلفازه من يقول ويصف دول الكفر بأنها دول كافرة، وإنما قد يقولون : دولاً غير إسلامية.
    والأمثلة على ذلك تطول، ونظرة سريعة على أحوال كثير من المسلمين اليوم تبين لك بجلاء أن منهم من يؤمن ببعض ويكفر ببعض، والله المستعان.
    يقول الشيخ رحمه الله: '' أما القانونيون فمتناقضون ''.
    لإنهم يفرقون بين الله ورسله، ويفرقون بين أحكام الله وبين أحكام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا كثيراً جداً، فتجد أن بعض الناس يهتم ويحرص على بعض السنن، مثل: تقديم طعام العَشاء على صلاة العِشاء إذا حضر، لكن لو ذكرت له اللحية -مثلاً- فإنه يأبى أن يلتزم بها، وقس على ذلك، فيأخذ ما يوافق الهوى ويترك منها ما يخالفه، نعوذ بالله من ذلك.
    وتجد ذلك في بعض المسائل الفقهية المختلف فيها؛ فإذا أراد أن يكشف وجه المرأة، قال لك: قال بعض العلماء: إنه ليس بعورة ولا شيء فيه!
    أما إذا كان الكلام عن قريبته، فهو لا يريد أن يراها أحد، ويقول: لا يجوز الكشف، وهذا هو ما سماه الله نفاقاً، وهو النفاق بعينه؛ لأنه جعل القرآن والسنة عضين، يأخذ منهما ما يوافق الهوى ويترك ما يخالفه!!
    يقول رحمه الله: ''ثم انظر كيف ردت هذه الآية الكريمة على القانونيين ما زعموه من حسن زبالة أذهانهم، ونحاتة أفكارهم بقوله عز وجل: ((وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))[المائدة:50]'' قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: ''ينكر تعالى على من خرج من حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعَدَل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله؛كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم'' .
    فهذا هو المثال الأول : وهو أن أهل الجاهلية كانوا يتحاكمون إلى الطواغيت والكهان، فيذهبون إلى الكاهن ليحكم بينهم، أو إلى شيخ القبيلة، أو إلى الأزلام يضربونها.
    قال -والكلام لا يزال لـابن كثير- : ''وكما يُحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم كتاباً مجموعاً من أحكام، قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه''.
    هذا هو المثال الثاني، وهو يدل على فقه ابن كثير وفهمه للواقع.
    وهذا الكتاب الذي وضعه جنكيز خان هو "الياسق"، وكما قال الشيخ -رحمه الله- : ''وقد اقتبسه من شرائع شتى وكثير مما فيه مأخوذ من الشريعة الإسلامية''.
    فكأن جنكيز خان جعل الشريعة الإسلامية مصدراً أصلياً ولم يجعله احتياطياً، فكيف بمن يجعل الشريعة الإسلامية مصدراً احتياطياً وليس هو أول المصادر الاحتياطية، فغالباً ما يكون الثالث أو الرابع؟!
    يقول: ''فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن فعل ذلك -أي: من تحاكم إلى هذه الأهواء سواء كانت الجاهلية أو أحكام الياسق- فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحكِّم سواه في قليل ولا كثير، قال تعالى: ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ))[المائدة:50] أي: يبتغون ويريدون وعن حكم الله يعدلون: ((وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))[المائدة:50] أي: ومن أعدل من الله في حكمه، لمن عَقَل عن الله شرعه وآمن به وأيقن، وعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأرحم من الوالدة بولدها، فإنه تعالى العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء'' انتهى كلام ابن كثير.
    فهذه الصفات كلها لله وحده.
    أولاً: علم الله تبارك وتعالى الذي أحاط بكل شيء علماً، وهو كما قال الشيخ الأمين رحمه الله: أنه لا يستطيع أن يشرع إلا من كان علمه محيطاً بكل شيء وليس ذلك لأحد إلا لله وحده تبارك وتعالى.
    وثانياً: قدرة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على كل شيء؛ فإن العاجز الضعيف لا يمكن ولا يصلح أن يكون مشرعاً.
    وثالثاً: عدل الله الكامل، فالله هو العادل في كل شيء، ثم هو أرحم من الوالدة بولدها، وعندما قال الله تعالى في حق عبده ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))[الأنبياء:107] ظن كثير من الناس أن رحمة الله تعالى بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مختصة بالمسلمين، والحقيقة أن الله رحم به العالمين، حتى الكفار نالهم من رحمة الله ببعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشيء الكثير، فإن أهل الذمة أمنوا على أنفسهم وعلى أموالهم، والمحاربون الذين يحاربهم المسلمون وجدوا هذه الحرب التي لا نظير لها في التاريخ حرباً إسلامية، فلا مثلة فيها، ولا قتل لصغير ولا لكبير ولا امرأة ولا للرهبان المعتكفين في الصوامع.