المادة    
إن إثبات المشيئة الكاملة النافذة لله تَعَالَى التي ذكرها المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- لا يعني أن يحتج المحتجون من العصاة والفجار بالقدر فيفعل أحدهم الذنب ويقول: إن الله قدره علي، وهذا الإثبات رد عَلَى الذين ينكرون القدر بحجة إنكار الله عَلَى من يحتج بالقدر، فإن الله أنكر عَلَى الذين يحتجون بالقدر بقوله: ((وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ)) [الزخرف:20] وقوله: ((لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا)) [الأنعام:148] فأنكر عليهم هذا.
فقال الذين ينكرون القدر: إذاً فليس لله مشيئة لأن الكفار والْمُشْرِكِينَ احتجوا بالمشيئة، والله تَعَالَى قد أنكر عليهم هذا القول، فعلى هذا فالله ينكر عَلَى من يثبت المشيئة، وقولهم هذا غير صحيح.

فالله ينكر عَلَى من يحتج بالمشيئة عَلَى الرضا، فإن الله شاء أن يكفر الكفار بدليل أن الكفر واقع منهم، فيوجد في الأرض كفار، وهذا الذي نراه في الكون عليكم أن تؤمنوا أن الله شاءه وقدره، وإلا أن تقولوا: إن الله يقع في ملكه وكونه ما لا يشاؤه، فيلزمكم أن تقولوا أحد الأمرين إما: أن العبد يعمل مالم يشاؤه الله ولم يأذن به وهذا لا يقول به مسلم، وإما أن تؤمنوا بالقدر، وقد سبق شرح الآيات التي في الأنعام والزخرف والنحل في موضوع القدر مثل قوله تعالى: ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا))[الأنعام:148] وقوله: ((وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا)) [النحل:35].
وقوله: ((وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ))[الزخرف:20] بالأوجه التي ذكرها المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، والتي من أجلها ومن أوضحها أن الكفار احتجوا بأن الله تَعَالَى لو شاء ما عبدوا هذه الأصنام وعليه فعبادة الأصنام هذه حق والله تَعَالَى راضٍ، بها
وأيضاً فدعوى الأَنْبِيَاء مردودة عندما قالوا: ((يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) [الأعراف:59] كيف ذلك؟
قال المُشْرِكُونَ للأنبياء: لو أن الله لا يرضى منا أن نعبد الأصنام لما شاء ذلك، وما دام أنه قد شاء وقد وقع منا الشرك فهو راضٍ به، فنحن نرد كلامكم ولا نقبل دعواكم. وهذه هي شبهة الْمُشْرِكِينَ قديماً كما قال تعالى: ((كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[النحل:35]، أي: أن تكذيب الْمُشْرِكِينَ للنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سبقهم أمم من قبل ذلك في تكذيب غيره من الأَنْبِيَاء ولذلك رد الله تَعَالَى عليهم فقَالَ: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)) [النحل:36] فلو كَانَ هذا مما يرضى الله به لما بعث الرسل ينكرون وأيدهم بالحجج والبينات الظاهرة التي تقطع كل دعوى ومنها هذه الشبهة. ولهذا قال تعالى: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)) [النحل:36] فجعل الله تَعَالَى الهداية فضلاً منهفقَالَ: ((فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ)) فهذا توفيق من الله وفضل ونعمة منه تعالى، وأما الضلال فَقَالَ فيه: ((وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)) فهذا من فعلهم فهم أعرضوا عن الحق فلم يوفقهم للإيمان عدلاً منه تعالىوهذا ما سيأتينا عند قول الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: [وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله] فنحن في كل الأمور نتقلب بين فضل الله وعدله.
  1. تعذيب الله لعباده بسبب ذنوبهم ليس فيه ظلم لهم

    أما الظلم فإن الله لا يظلم أحداً كما قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً)) [النساء:40] لأن الله تَعَالَى غني عن العالمين فما الذي يدفعه إِلَى ظلمهم وهو غني عنهم -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهو الذي يقول كما أخبر عن نفسه في الحديث القدسي: {يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا عَلَى اتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً}.
    فلماذا يظلمهم؟ وهو الغني وهم فقراء إليه، وهو القادر عليهم في كل حال، وهم الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة أمام قدرته -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وهو الذي خلقهم ومَنَّ عليهم وأسبغَ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، ولو شاء لما خلقهم ولما أوجدهم، فمهما فكَّر الإِنسَان بنظره وبعقله فإنه يجد أن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- غير محتاج إِلَى أن يظلم العباد وأنه تَعَالَى بريء من الظلم إذاً: فالبشرية يتقلبون بين فضل الله وعدله
    أما الذين يحتجون بالقدر فهذا من باب اتهام الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أنه ظالم للعبد، بمعنى: أن الله تَعَالَى يقدر عَلَى العبد الذنب ويرغمه عليه ثُمَّ يحاسبه عليه فلا خيار للعبد في هذا الفعل ولا إرادة له وهذا ظلم قبيح لا يليق بأي مخلوق فكيف يليق بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى؟
  2. أقسام الناس في القدر

    لقد ضل النَّاس في القدر عَلَى فرقتين الجبرية والقدرية، فـالقدرية ابتدأ أصلهم من غيلان الدمشقي ومعبد الجهني وهَؤُلاءِ كانوا في أواخر عهد الصحابة -رضوان الله عليهم- في زمن التابعين، وأظهرا بدعة إنكار القدر ولهذا لما ظهر معبد الجهني وأنكر القدر بـالبصرة جَاءَ التابعي من البصرة فحدثه ابن عمر بالحديث عن أبيه عُمَر بما رآه من مجيء جبريل إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالكلام في القدر حدث من أيام التابعين، من معبد الجهني بـالبصرة ومن غيلان الدمشقي بـالشام، والجبر حدث بعد ذلك من الجهم بن صفوان المتوفي سنة 128هـ.
    ثُمَّ تطور كلٌ من المنهجين من مجرد فكرة بسيطة -ومجرد إنكار للقدر أو إثبات له- كما تتطور الأفكار عادة فتدخل فيها الحوارات والنقاشات والآراء ثُمَّ تتطور وتتسع دائرتها حتى تصبح ألغازاً وهذا ما وقع في باب القدر.
    فأصبح المعتزلة الذين ابتدأ أصلهم من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد الذين كانوا في مجلس الحسن البصري -رحمه الله تعالى- كانوا قدرية، وهم أنفسهم المعتزلة تعددت مآربهم ومشاربهم في أبحاث فرعية فرعوها عن باب إنكار القدر، وقد انقرض مسمى الجهمية ولكن ورث الجهم في مسألة الجبر أبو الحسن الأشعري الذي جَاءَ بنظرية الكسب وطلابه إِلَى الآن عَلَى ذلك، وهم أنفسهم عاجزون عن إيضاح هذه النظرية، ولهذا قال فيهم الشاعر:
    مما يُقال ولا حقيقة تحته            معقولة تدنو إِلَى الأفهام
    الكسب عند الأشعري والحال عند البهشـ             مي وطفرة النظام

    هذه ثلاثة أشياء عجزت العقول عن معرفتها، وعجز أصحابها عن شرحها وإيضاحها للناس.