انظروا إلى الرجل الذي ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصته في التوبة، وكلنا محتاجون إلى التوبة.
هذا الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً, مائة إلا واحداً، قتلهم ظلماً وعدواناً، فذهب وأراد أن يتوب فقيل له: هذا فلان فدل على عابد جاهل، عابد ترك الدنيا، وترك الشهوات، وانقطع عن الخلق في صومعة للعبادة، ولكنه جاهل لا يعرف الحق ولا يفتي ولا يقضي به، فذهب إليه وقال: قتلت مائة إلا واحداً هل لي من توبة؟
فاستعظم ذلك!! مائة نفس إلا واحدةً! فقال العابد: لا أجد لك توبة.
فقال: إذاً ما فائدة الحياة، فأكمل به المائة.
الفتوى الجاهلة أدت إلى تقنيطه من رحمة الله، وأيضاً أدت إلى قتل هذا المفتي بغير علم، فأكمل به المائة.
ثم دل على عالم فذهب إليه, وقال: قد قتلت مائة نفس، فهل لي من توبة؟
قال العالم: ومن الذي يمنعك من التوبة.
ثم قال له: اذهب إلى أرض كذا فإنها أرض خير, ودع قريتك هذه فإنها أرض سوء، ثم قبضه الله في الطريق، فاختصمت فيه الملائكة وشملته رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعد ذلك.
والمقصود أننا نعرف الفرق بين من يفتي بغير علم، وإن كان زاهداً, وورعاً عن الدنيا, ومجتنباً المحرمات، وقد يؤتى بعض الجهال بياناً وفصاحة، لكن إذا لم يكن على علم بما قال الله وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يكن أيضاً على فقه في الدين فلا خير فيه، فقد تنقلب هذه الفصاحة وبالاً وخساراً على صاحبها، نسأل الله العفو والعافية.
أما العالم فإنه ينفع الناس وينتفع منهم كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
إن الله وملائكته وخلقه -أو قال: والدواب- حتى الحيتان في جوف الماء، وحتى النملة في جحرها ليصلون على معلم الناس الخير} يصلون عليه: أي يدعون ويستغفرون له كل شيء حتى الحيتان في جوف الماء، وحتى النملة في جحرها، كلها تستغفر لهذا العالم الذي طلب العلم لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, والذي نفع اللهُ تبارك وتعالى بعلمه، فعلم الناس ما هم أحوج ما يكونون إليه.
ومن فضل العلم والعلماء ما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه: ((
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ))[فاطر:28].
فالذين يخشون الله في كل حركة وخطوة, وفي كل كلمة, هم العلماء: العلماء بالله، والعلماء بأحكامه الله وبدينه، فأما العلماء بالله فهم يعلمون أن الله عز وجل عظيم، وقدره عظيم، ليس كأحبار اليهود الذين قال الله فيهم: ((
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ))[الزمر:67].
جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا له: يا محمد! بلغنا أن الله يوم القيامة يضع الأرض على ذه، والجبال على ذه، والشجر على ذه، فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصديقاً لقوله وقرأ: ((
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)) [الزمر:67].
كلامهم هذا حق، لكن لم ينفعهم، فهم يعلمون أنه بهذه العظمة والكبرياء، والعزة سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن لم ينتفعوا به، فالذي ينتفع بذلك هو العالم الذي له هذا الأجر وهذا الفضل, وهو العالم بالله الذي يخاف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, ولذلك إذا خافوا الله لم يخافوا من أي مخلوق كما قال الله عنهم: ((
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ))[الأحزاب:39] ولهذا كان قيامهم مقام الأنبياء أنهم يصدعون بالحق، ولا تأخذهم في الله لومة لائم كائناً من كان، لا يخافون أن يغضب عليهم الناس، أو يغضب عليهم السلاطين أو الملوك أو الظلمة من أي نوع، لأنهم يبلغون عن الله، ولأنهم أمناء على هذا الدين، ولذلك يخشون الله ويعرفون قدره فكيف يخافون غيره!
دخل بعض العلماء على بعض سلاطين الظلم فيما مضى وقد قيل له: إن السلطان يريدك في أمر مهم، ولكن نخشى إن ذهبت إليه أن يقتلك.
فقال: توكلت على الله, ودخل عليه وكلمه وخاطبه وأمره ونهاه وأغلظ عليه، ثم خرج من عنده.
فلما خرج سألوه: كيف فعلت؟
قال: تذكرت عظمة الله عندما دخلت عليه، ورأيت عظمته وجنوده وملكه، فأصبح أمامي كالهر!
فعندما يتذكر الإنسان عظمة الله تهون أمامه عظمة أي إنسان كائناً من كان.
هذا المخلوق الذي قد يرجئ أو يخشى أو يسكت عن كلمة الحق، سيكون يوماً على آلة حدباء محمول.
يوماً ما سيحمل ويلقى في ذلك الموضع الذي يعرفه كل أحد، والذي سينتهي إليه كل واحد، لكن هذا العالم لو سكت وداهن وخاف منه ممن إذاً سيتكلم! ((
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ))[آل عمران:187] يسأله الله يوم القيامة لماذا لم تبلغ دين الله؟