المادة    
إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد كتب مقادير كل شيء، وما شاءه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهو كائن، فلا بد من هداية المهتدي، وإضلال المضل، وكفر الكافر، وإيمان المؤمن فكل ذلك لا يخرج عما شاءه الله عَزَّ وَجَلَّ، وعما كتبه، وعما قدره وقضاه.
  1. الشبهة الإبليسية

    أما الشبهة التي وقعت لإبليس اللعين من قبل لما قال: ((رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْض))[الحجر:39]، كأنه يقول: إن ما سوف أفعله من التزيين ومن الإغواء إنما هو بسب أنك أغويتني، يعني: كأن هذا سببه هذا.
  2. الشبهة الشركية

    والمُشْرِكُونَ لما قالوا: ((لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا)) [الأنعام:148]، وَقَالُوا: ((لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ))[الزخرف:20].
    فاحتجوا عَلَى عبادتهم للأصنام بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لو شاء ما أشركوا، وعلى تحريم ما أحل الله بأن الله عَزَّ وَجَلَّ لو شاء ما حرموا من دونه من شيء، كما في سورتي الأنعام والنحل، وأنهم لو شاء الله ما عبدوا هذه الآلهة. والرد عَلَى إبليس وعلى الْمُشْرِكِينَ قد سبق بيانه في أكثر من مرة عند تعرضنا لموضوع القدر، ومن الردود عَلَى ذلك ما ذكره المُصنِّف بقوله:
  3. الرد على الشبهة الإبليسية والشركية

    (من أولى الأوجه ومن أحسنها: أنه أنكر عليهم ذلك لأنهم احتجوا بمشيئته عَلَى رضاه ومحبته) فحجة الْمُشْرِكِينَ قولهم: ما دام أن الله شاء أن نعبد الأصنام إذاًً هو راضٍ أن نعبدها، ولهذا جَاءَ تكذيبهم بأن الله بعث الرسل، وقد قال تَعَالَى في سورة النحل: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)) [النحل:36] فليس الأمر كما يزعمون، فإذا كَانَ الله تَعَالَى راضياً بما هم عليه من الشرك فلماذا يرسل رسلاً ينهون عنه، وينزل عليهم كتباً فيها تكفيريهم واستباحت دماءهم وأموالهم؟!! إذاً لا تدل مشيئته عَلَى رضاه ومحبته، ولا تلازم بين المشيئة وبين المحبة.
    الوجه الثاني في الرد عَلَى شبهتهم في اعتقادهم أن مشيئة الله دليل عَلَى أمره به، فيقولون: إنه ما دام أن الله شاءه، فقد هو أمر به ((وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا))[الأعراف:28] والعياذ بالله، وهذه حجة من حجج الكفار الباطلة وهي: أنهم يحتجون عَلَى ما يفعلون بأن الله أمر به، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يأمر بالفحشاء، ولذلك قَالَ: ((أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [الأعراف:28] هذا من التقول عَلَى الله بلا علم؛ لأنه لا يأمر بالفحشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    الوجه الثالث: أنهم عارضوا مشيئة الله وقدره بشرعه، فردوا شرعه الذي أنزله عَلَى رسله وكتبه بمشيئته، وهذا من باب العناد ومن باب الاستكبار عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ أن يرد أمره ووحيه بمشيئته وقدره، ولذلك قال في سورة الأنعام: ((كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ))[الأنعام:148] أي أن هذا التكذيب حصل من الكفار، فليس قول هَؤُلاءِ الكفار أو إبليس اللعين يعني أنهم يثبتون قدر الله عَزَّ وَجَلَّ ويؤمنون به، لا.
    إنما قالوه اعتراضاً منهم عَلَى الأمر وعلى التوحيد، ومثل هذا ما اعترض به السارق عَلَى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقال السارق: كيف تقطع يدي يا أمير المؤمنين وما سرقت إلا بقدر الله وقضاءه؟! واحتج بالقدر عَلَى فعل المعاصي.
    فأجاب أمير المؤمنين بجواب الموحدين. فقَالَ: أنت سرقت بقدر الله وأنا أقطع يدك بقدر الله.
    فقطع يده فعلمنا أن الله قدر أن تقطع يده، ولو لم يشأ الله أن تقطع يده، لما قطعها عُمَر.
    إذاً هذه بقدر الله وتلك بقدر الله، لأنه لا تعارض بين أمر الله شرعه وقدره، ولا تعارض بين إقامة الحد وبين القدر؛ لأن الحدود إنما تقام بقدر الله عَزَّ وَجَلَّ، وهذا دليل عَلَى كمال فهم الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم لهذه الأمور، لا كما يقول المتفلسفة والمتكلمون: إن الصحابة ما عرفوا هذه المسائل ولا أتقنوها ولا فهموها ولا استوعبوها؛ بل كانوا مشتغلين بالجهاد في الفتوحات، وليس الأمر كذلك؛ بل كانوا يفهمون ذلك غاية الفهم، ولكن لم يخوضوا فيها ولم يحتاجوا أن يتحدثوا عنها إلا بما ورد، وهو كثير وكافٍ لمن أراد الحق، ومن ذلك هذا الأثر المشهور.