المادة    
نبدأ من نقطة مهمة، حيث لا يجوز أن نغفل عنها، وهي الهزيمة التي حلت بالأمة العربية بعد العدوان اليهودي عليها في حرب صفر عام (1387هـ) أو ما يسمونه حرب يونيو (1967م) أو نكسة حزيران, أو النكبة، وغيرها من هذه المصطلحات.
المهم بعد هذه المعركة بدأت هذه المرحلة, وهنالك سقطت الأصنام وانكشفت الجيوش, وهنالك حطمت التماثيل التي ضل الناس يقدسونها ويعبدونها ليل نهار، كـالاشتراكية، والقومية، والمزاعم التي جعلت الإسلام يقترن بالرجعية في أذهان أكثر الأمة.
فمكر الليل والنهار الذي كان يعمل دائماً حتى أوصل إلى القروي والفلاح، وإلى الرجل الذي في البادية أن الإسلام رجعية وتأخر، ولكن حلت الهزيمة وكانت معها اليقظة، وهذه سنة الله تعالى في هذه الأمة، فقد تعرضنا لذلك في محاضرات سابقة وقلنا: عندما تسقط الأمة إلى القاع تبدأ في الارتفاع، وهذه السنة في الحروب الصليبية وفي هجمة التتار، ثم في هذه الهجمة الجديدة استيقظ المسلمون -والحمد لله- وبدأت التباشير في الدعوة إلى الله تعالى من كل مكان.
فكانت العودة في أول أمرها عامة مجملة, وهذه الكتب بين أيديكم التي ألفت في تلك الفترة تتكلم عن الإسلام في عمومه, وتتحدث أنه لا خلاص للإنسانية إلا بالإسلام، وأنه لا حضارة تعادل حضارة الإسلام، وأنه يجب على المسلمين أن يرجعوا إلى الإسلام، وبعد ذلك لا تدخل في التفاصيل في الغالب، إنما هي دعوة عامة إلى إسلام عام لأن المرحلة مرحلة بدائل، أهي الاشتراكية التي طبلوا وصفقوا لها طويلاً أم هو الإسلام؟!
فكانت الدعوة في تلك المرحلة تنادي بالإسلام مجملاً دون تفصيل، ولعل هذا يفسر ولا يبرر أبداً الضعف العلمي الذي انتاب الدعوة تلك الفترة, فكان علماء الدعوة أعني على مستوى العالم الإسلامي كله, وإلا فالحمد لله في هذه البلاد علماؤها كما ترون بقية من السلف ادخرهم الله تبارك وتعالى بفضله وكرمه ومنَّه لنا، وهذه نعمة من الله، ولكن على مستوى العالم، الضعف العملي بادٍ فيهم, فالشباب يتلقى أموره الدعوية من مشايخ ومن دعاة, ولكنه إذا أراد أن يستفتي، أو أن يبحث عن أمر فقهي، أو أي حكم شرعي, فإنه يذهب إلى العلماء الذين يعادون هذه الدعوة, أو من يسمونهم علماء، وهم ليسوا عند الله تبارك وتعالى كذلك، وهذا الضعف -مع الأسف- لم يتنبه إليه, ولم يتلاف بل أثمر وأنتج في الزمن الذي بعده، وأعقب نوعاً من الانتكاسة، وأمراضاً يجب أن تستأصل, ولعلنا نأتي للحديث عنها فيما بعد إن شاء الله.
فكانت البداية عامة مجملة ثم جاءت أحداث عظيمة، وأراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يهز الأمة هزاً عنيفاً قوياً, وكان الحدث الكبير -إن صح التعبير- هو ثورة الرافضة.
  1. توالي الأحداث

    الحدث الأول:
    الذي حدث هو: ثورة الرافضة التي لا يخفى عليكم الزخم الإعلامي الهائل عند قيامها، وكانت امتحاناً عسيراً وصعباً في مقدرة الدعوة الإسلامية على مواجهة الحقائق, وغض النظر عن العواطف والانفعالات, ولم يصمد أمام هذه العاصفة الهوجاء إلا قلة قليلة ممن كانوا يعرفون منهج السلف الصالح ويتبعونه، ويزنون كل حركة وفرقة بميزان السلف الصالح.
    انساقت الدعوة الإسلامية كلها -تقريباً- بزعمائها ودعاتها وراء تأييد هذه الحركة.
    وليس المقصود أن نتهم ولا أن نجرح أحداً, بل المقصود أنها مرحلة مرت, ولكن يجب أن نأخذ منها من العبر.
    هذا هو المهم, وأرجو أن يُفهم ذلك إن شاء الله..
    فقد كان امتحاناً عسراً، ولم تكتشف لكثير من علماء الإسلام حقيقة هؤلاء.
    والعبر التي كان يجب أن يتنبه لها من أول الأمر لم تكتشف إلا بعد سنوات -مع الأسف- بل لا يزال بعضهم إلى هذه اللحظة لم ينكشف له هذا الزيف، وهذه هي المصيبة في الواقع.
    فالتآمر المجوسي اليهودي النصراني الشرقي والغربي على السنة وعلى أهل السنة وعلى الإسلام الحقيقي، لا تنسي هذه المعركة وهذا التآمر في زحمة وعنفوان العاصفة الهوجاء، فالأمر لم يتبين على الأقل، ولم يبحث، ولم يتأمل فيه, وهي مشكلة تعاني منها الدعوة، وللأسف أقول: ولا تزال.
    الحدث الثاني:
    ثم كان الحدث الآخر وهو: دخول الشيوعيين المجرمين واحتلالهم لأرض أفغانستان مقبرة الغزاة.
    ولا نعني بها أن الروس احتلت دولة إسلامية فقد احتلت بلاداً غيرها.
    لكن الذي حصل في القضية الأفغانية: هو أن الأمة لأول مرة يرتفع فيها صوت ينادي بكلمة الجهاد لأجل إعلاء كلمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قبل ذلك لم نكن نسمع ذلك, بل كان عندنا منظمات التحرير, والمطالبة بالاستقلال، لكن الكلمة الشرعية لا تراد ولا تسمع، والهدف الشرعي لا يراد ولا يسمع, ولذلك تجاوبت الأمة شرقاً وغرباً لكلمة: الله أكبر، ولكلمة الجهاد، وإذا بها تلتف بها من كل جهة، بمشاعرها وبعواطفها، وتفوق كل التوقعات, وهذا أيضاً له جوانب إيجابية ولكنه في الوقت نفسه استدعى من أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تخطيطاً دقيقاً عميقاً.
    أما المسلمون فكانوا منبهرين من غضبة العاصفة، ولم يحسبوا حساب كل مرحلة، ولم يحسبوا أن القوى الخبيثة تراقب هذا التوجه، وماذا تريد منا بعد ذلك؟
    وهل تريد -فعلاً- أن يقوم في هذا البلد أو أي بلد دعوة إسلامية جهادية نقية؟!
    هذه أسئلة نضعها أمام الإخوة الكرام الدعاة.
    الحدث الثالث:
    ثم كانت بعد ذلك المآسي الدامية التي حدثت في بلاد الشام من تدمير مدن السنة الكبرى حماة وطرابلس ومخيمات الفلسطينيين في لبنان, وهذه لم تدمر نتيجة أهداف عارضة عابرة، وإنما لأنها التجمعات الكبرى السنية ولأنها مرتكز أهل السنة, ولأن العدو يخطط تخطيطاً بعيداً, فهو يخطط وأمامه خارطة الحروب الصليبية, أمامه أحداث التتار, وأمامه ما جرى أيام الدولة العثمانية!!
    وهو يعرف العدو الحقيقي، ويعرف أين يضرب، ومتى يضرب، وكيف يضرب, لكن -مع الأسف- أقول: إن العاطفة، لا تزال هي التي كانت بمواجهة هذه الأحداث, وأضعنا فرصة ذهبية كبرى لا تعوض في تلك المرحلة، إذ كان بالإمكان لو أن معيار المواجهة دائماً هو معيار أهل السنة والجماعة, ومنهج السلف الصالح لتحولت المعركة تحولاً جذرياً في تلك المرحلة, ولكن قدر الله وما شاء فعل، كان في الإمكان أن نقول: إن المعركة بين السنة وبين الباطنية, ومهما قيل عن أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذين ذبحوا أهل السنة فإن أحداً لن يستطيع أن يقول فيهم أو يدمرهم ويفقدهم شرعية وجودهم، كما كتب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية قبل قرون.
    إنها فتوى شَيْخ الإِسْلامِ في النصيرية, لو أن الأحقاد المذهبية والتعصب لم يحل بينها وبين الناس, ونشرت في عامة الناس في شرق العالم الإسلامي وغربه، ووظفت لخدمة تلك المعركة، وتلك الأحداث لتغير وجه المعركة، ولتغير وجه التاريخ ولما كانت النتيجة تدهوراً هائلاً, الله أعلم متى تجبر هذه المصيبة، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يفرج عن المسلمين، ويجبر مصائبهم دائماً إنه سميع مجيب.
    إنما العبرة من هذه المصيبة لا تزال، وهي أننا لأسباب -لا نريد التفصيل فيها- لم نستطع أن نوظف الموقف الذي وقفه علماء أهل السنة في الماضي، بل انشغلنا به في زحمة وخضم المعركة.
    إن المنهج السليم هو منهج أهل السنة والجماعة, وإن المعيار في الحكم على أي أحد هو معيار أهل السنة والجماعة؛ لأنهم يرجعون إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    ليس المقياس مقياس أرض فرط فيها، أو خيانة سياسية أو عسكرية، إن هذه الخيانات أعراض لمرض أساسي وهو فساد الاعتقاد.
    ومهما استطعت أن تقنع الناس بما في خصمك من فساد, فإن ذلك لا يغني شيئاً عن أن تقنعه, وتبين له, أنك أنت على الحق وعلى المنهج الصحيح السليم الذي لا ينحو صاحبه في الدنيا ولا في الآخرة إلا به, وهذا هو خلاصة دعوة الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، فالأساس في الدعوة هو التركيز على أن هذه الدعوة هي مناط نجاتك أنت أيها المدعو كائناً من كنت في الدنيا والآخرة.
    وأن الالتزام في هذا المنهج نصر في ذاته, فالتمسك بالحق، والتمسك بدعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبما كان عليه أصحابه هو نصر، بل هو أعظم النصر بغض النظر ِعن أرض خسرناها، أو شهداء قدمناهم، أو معركة نكسبها أو لا نكسبها، هذا هو النصر ولو أشعرت الأمة بذلك وأنير لها الطريق, لكان الحال غير الحال.
    ثم قدر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتلاحقت الأحداث فيما بعد حتى كان الحدث الذي أربك الشرق والغرب، ونقول -مع الأسف-: إننا لم نقدره كما ينبغي حتى اليوم, وكان الواجب علينا أن ننظر إليه النظرة الشمولية التي تجعلنا نوضح ونفيد من كل حدث، لأن هذه أقدار من الله يسوقها لنا ونحن لا ندري, ثم نضطرب كيف ننزلها في معركتنا، وهذا من العجب!
    الحدث الرابع:
    وهذا الحدث هو ما يسمى بالانتفاضة، وهي بسيطة جداً بالنظرة التاريخية, وبالنظرة العسكرية والمادية, فالمسألة أن أطفالاً صغاراً يحملون الحجارة في مواجهة دولة يؤيدها الشرق والغرب بالإجماع، كما قال جوربا تشوف في كتابه إعادة البناء '' إننا أول من اعترف بإسرائيل، ونحن الذين أنشأناها '' .
    لا حاجة للكلام عن أمريكا ودعمها السخي لإسرائيل، فالشرق والغرب كله كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ))[المائدة:51] كل الشرق والغرب مع هذه الدولة أو الدويلة وكنا نسميها عصابة حتى صارت إسرائيل الكبرى التي تملك الآن عشرين قنبلة نووية -هذا هو المعروف دولياً-
    ونحن لا ندري كم الطائرات التي تقاتل على أبعد مدى كالتي ضربت في تونس على بعد آلاف الأميال, وهددت بالضرب في كراتشي أو في إسلام أباد إن صُنعت قنبلة نووية في باكستان والتي ضربت العراق، فالمنطقة كلها تحت رحمتها.
    وبالنظرة المادية المجردة فإنه لا يضرهم أطفال الحجارة، وهذا ما لم ننتبه له نحن، ولكن الشيطان يؤز أولياءه ليعرفوا خطر هؤلاء.
    فالقضية ليست حجراً يواجه دبابة ولا صاروخاً ولا سيارة مصفحة؛ فليست هذه هي المسألة، فإن الصواريخ وطائرات الميج, التي كانت الإذاعات تغني "طائرات الميج تتحدى القدر" التي كانت مرتبطة بـالاشتراكية والقومية والزعامات الشخصية لم تغنِ عنهم شيئاً، بل خانتهم أحوج ما يكونون إليها، أما الحجر فقد خرج من المسجد وانطلق بكلمة: الله أكبر, هذا هو السر, وهذا هو الخطر, مع أ، الحجر لا يحمل رءوساً نووية قطعاً, وليس فيه مواد كيماوية، فهو حجر فقط، لكن العالم كله انتفض وانزعج منه، بل صرح الرئيس الكاثوليكي المتعصب ميتران بأن خطر الانتفاضة قد يعم المنطقة كلها بوباء التعصب الديني.. سبحان الله!! هذا هو الذي أفزعهم ونحن لم نقدر هذا, ونحن لما رأيناهم انتفضوا واهتزوا -أي: الغربيين- بدأنا نفكر لماذا هذه الانتفاضة يخافون منها إلى هذا الحد؟
    وهم الذين أشعرونا أنها خطر وليس الخطر في الحجر، ولكنه من كلمة: الله أكبر وفي المسجد.
    إن هذه الأمة لو عادت إلى أصولها، وإلى كتاب ربها وسنة نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو جاهدت من أجل لا إله إلا الله وإعلاء كلمة الله، فمعنى ذلك تقويض الشرق والغرب، حتى يخسر موقعه، ولهذا كانت الآثار العالمية التي قد لا يصدق بعضهم أنها مترتبة ومبنية على آثار الجهاد الأفغاني، أو على آثار حركة الانتفاضة الفلسطينية وغيرها، كانت هذه المرحلة التي تسمعون عنها هذه الأيام -وما زلنا- هي من أشد مراحل الوفاق، هذا الاتفاق الدولي الكبير، حيث اتحد الشرق والغرب، وتوحدت ألمانيا ليلة عيد الفطر، وأول قرار يتخذه البرلمان بعد توحيده هو إدانة النازية واتهامها بدماء اليهود، فلهذا اتحدت أوروبا الشرقية من أجل إثبات أن النازية مدانة، ولأجل أن تتحمل ألمانيا شرقها وغربها الميزانيات والمليارات لإمداد اليهود، دفعاً لديات الذين قتلوا منهم، مع أنه قد قتل من الأوروبيين في الحرب العالمية أكثر من (60 مليوناً) ولم يدفع ديتهم أحد، حتى افتعلت معارك مع المقابر من أجل إحياء النعرة الدينية، ومن أجل توظيف الصليبية ضد العالم الإسلامي.
    في ليلة عيد الميلاد ولأول مرة في التاريخ الأمريكي -كما ذكروا- يأتي الرئيس الأمريكي بنفسه ويوقد الشمعة، ويقول: '' إن الدين ضروري في حياتنا..! وإننا لا يمكن أن نتخلص من الدين '' بل أعجب من ذلك أنهم استنفروا الطاقات القديمة، وكنا قبل عدة سنوات نسمع عن سايروز سانز، الذي كان وزير الخارجية الأمريكي سابقاً وقد عاصر أحداثاً معينة، فأتوا به وأيضاً أتو بـكيسنجر وهو لم يدخل في المعركة أصلا،ً وكذلك أتوا بـكارتر واستكتبوا نيكسون لمقابلة بوش وبيكر، فوظّفوا فيها المتقاعدين وغير المتقاعدين، ووظفوا فيها القدماء من الذين تركوا الساحة، وعادةً عندهم أن من ترك المعترك السياسي يعيش كأي شخص عادي، لكن لأن الأمر يتطلب استنفاراً لحماية اليهود فقد فعلوا ذلك، لماذا؟
    لأنهم كما عبروا أن وباء التطرف الإسلامي ووباء الأصولية الإسلامية يمكن أن يمتد فيدمر العالم الغربي، بل سبق أن قرأت هذا في محاضرة سابقة، وهو أن دول البلقان واليونان وبلغاريا وما حولها، تقول: نحن خط المواجهة الأوروبي أمام الصحوة الإسلامية.
    سبحان الله!! نحن لم نجعل أنفسنا ولو بالخيال أهلاً أو في منزلة أن نكون في خط مواجهة مع أوروبا، لكن هم يقولون ذلك لأنهم لا يخططون للآن ولا إلى بعد سنة ولا إلى بعد عشر سنوات، بل يخططون إلى ما هو أبعد من ذلك ويعلمون :
    أن الهلال إذا رأيت نموه             أيقنت أن سيكون بدراً كاملاً
    بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.