يذكر ابن القيم رحمه الله تعالى بعد هذا الكلام أمثلة عظيمة جداً ونافعة، رداً على جميع الطوائف، مما يدل على ما له من الفقه والحكمة، فإنه رد على جميع الطوائف من خلال هذه القاعدة العظيمة، وهي قاعدة أن شر الذنوب وأعظمها وأقبحها هو سوء الظن بالله، وهو الذي أوقع في الشرك.
وذكر رحمه الله قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ))[الحج:73]: الله أكبر! كل من يُعبدون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وأيضاً: ((وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ))[الحج:73]).
فهذه الآلهة من البشر أو من الشياطين أو غيرهم ضعفهم كضعف الذباب؛ لأنهم يضعفون ويعجزون عن خلق مخلوق ضعيف كالذباب، ومع ذلك لو أنه أخذ شيئاً منهم لا يستنقذونه منه، بل هم أضعف.
ثم قال تعالى: ((مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ))[الحج:74] أي: لم يحسنوا الظن به، بل وأساءوا الظن به تعالى؛ لأنهم ما قدروه حق قدره، ولا عرفوه حق معرفته، فحالهم كحال كثير من الغافلين؛ عندما تكلمه عن الله -تعالى الله عما يصفون- فكأنك تكلمه عن أي شخص، بل ربما لو كلمته عن بعض المخلوقين الذين لهم هيبة وقوة، لارتجف وأرعاك أذنيه، لكن إذا قلت: يا أخي اتق الله! يا أخي! أنا أخبرك بكلام الله، فتجده غير مبالٍ؛ لأنه ما قدر الله تعالى حق قدره، ولا عرفه حق معرفته.
وهذا يؤكد وقرر أن مشكلة الناس في جميع العصور والأوقات، وفي كل زمان ومكان، فلأنهم ما عرفوا الله، وما قدروه حق قدره، أشركوا به، واتبعوا شرائع البشر وتركوا شريعته، ولأنهم ما قدروا الله حق قدره أحبوا بعض الخلق أكثر من محبتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم، فهم ما قدروا الله حق قدره فكيف يعرفون قدر رسوله صلى الله عليه وسلم؟! مع أن منهم من يدعي أنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  1. ما قدر الله حق قدره من عبد غيره معه

    يقول رحمه الله بعد أن ذكر الآيتين السابقتين: "فما قدر الله حق قدره من عبد غيره معه ممن لا يقدر على خلق أضعف حيوان وأصغره، وإن سلبه الذباب شيئاً مما عليه لم يقدر على استنقاذه منه، وقال تعالى: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ))[الزمر:67]".
    وهذه الآية قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعاه حبر اليهود وقال له: {إن الله يضع الأرض على إصبع والجبال على إصبع -سبحانه وتعالى- فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً لقول الحبر -وإقراراً له- وقرأ: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ))[الزمر:67]} أبعد هذا يعبد أحد من دونه؟! إنساناً كان أو حجراً أو شجراً أو قبراً؟! سبحان الله عما يشركون!
  2. ما قدر الله حق قدره من أنكر الرسل

    وقال: "وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه لم يرسل إلى خلقه رسولاً، ولا أنزل كتاباً، بل نسبه إلا ما لا يليق به ولا يحسن منه من إهمال خلقه وتضييعهم وتركهم سدى، وخلقهم باطلاً وعبثاً".
    وفي هذا الكلام رد على منكري الشرائع، وفيه أيضاً ترتيب أنواع الكفر والكفار، فإن أعلى درجة من درجات الكفر كفر الفلاسفة، فهم أشد الناس كفراً، فإن منهم من ينكر النبوات والشرائع بالجملة، وفي القديم كان هناك قلة من الناس تسمى الفلاسفة، أما الآن فقد أصبحت أمم الغرب الآن بأكمله تقريباً على مذهب الفلاسفة؛ فـالشيوعية والنازية والفاشية كل هذه تنكر النبوات والوحي، فأكفر وأعلى درجات الكفر هم هؤلاء، فابتدأ بهم.
    إذاً: من قال: إن الله تعالى لم يرسل إلى خلقه رسولاً ولم ينزل كتاباً، هل قدر الله حق قدره؟ كلا والله..! لأن معنى كلامه هذا: أن الله سبحانه وتعالى أهمل الخلق وتركهم سدى -وقد فسر الإمام الشافعي رحمه الله، السدى بأنه الذي لا يؤمر ولا ينهى- وتركهم هملاً وخلقهم عبثاً، وهذا غاية سوء الظن بالله، هؤلاء ما قدروا الله قدره، فقالوا هذا القول.
  3. ما قدر الله حق قدره من نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العلى

    ثم ذكر رحمه الله الدرجة الثانية في الكفر فقال: "ولا قدره حق قدره من نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فنفى سمعه وبصره وإرادته واختياره وعلوه فوق خلقه، وكلامه وتكليمه لمن شاء من خلقه بما يريد".
    كـالجهمية الذين نفوها بالكلية وأشباههم.
    يقول: "أو نفى عموم قدرته وتعلقها بأفعال عباده من طاعتهم ومعاصيهم فأخرجها عن قدرته ومشيئته وخلقه وجعلهم يخلقون لأنفسهم ما يشاءون بدون مشيئة الرب، فيكون في ملكه ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، تعالى الله عن قول أشباه المجوس علواً كبيراً" وهؤلاء هم المعتزلة والقدرية.
  4. ما قدر الله حق قدره من زعم أن الله يعاقب عبده على ما لا يفعله

    يقول: "وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه يعاقب عبده على ما لا يفعله العبد، ولا له عليه قدرة، ولا تأثير له ألبتة! -وهذه الطائفة هي الجبرية- بل هو نفس فعل الرب جل جلاله، فيعاقب عبده على فعله، هو سبحانه الذي جبر العبد عليه، وجبره على الفعل أعظم من إكراه المخلوق للمخلوق"، يعني: المخلوق لا يمكن أن يكره المخلوق إكراهاً كلياً، ولا يستطيع أي مخلوق أن يملك ما يضمر مخلوق آخر مهما كان، وهم يقولون: إن الله تبارك وتعالى أجبر المخلوقين، تعالى الله عما يصفون!!
    قال: "وإذا كان من المستقر في الفطر والعقول أن السيد -أي المالك- لو أكره عبده على فعل وألجأه إليه ثم عاقبه عليه لكان قبيحاً، فأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين كيف يجبر العبد على فعل لا يكون للعبد فيه صنع ولا تأثير؟!"، وهذا مذهب الجبرية، هل هناك فرقة تسمى الجبرية الآن؟ نعم، الأشعرية، ماذا يقولون؟
    والفعل في التأثير ليس إلا            للواحد القهار جل وعلا
    أي: الفعل كله لله، فما دام الفاعل والمؤثر هو الله، فهل يعاقب العباد على فعل نفسه؟!
    فهو الذي فعل، أما العبد فلم يفعل شيئاً ولم يؤثر في شيء، فهم ينظرون جانباً وينسون جانباً آخر.
    ونحن نقول لهم: إذا كنتم تقصدون بذلك أن العبد لا يملك أن يطيع ولا يملك أن يعصي حتى تجعلوا إرادة الله هي كل شيء، فقد نسيتم الأفعال الأخرى، فنقول: إذا ارتكب العبد فاحشة فمن فعلها؟! إن قالوا: الله -تعالى الله عما يصفون- وقعوا في الكفر، وإن قالوا: العبد، أثبتوا للعبد فعلاً وتأثيراً وإرادة، لكن هم ينسون ذلك ويغفلون عنه.
    إذاً: الطائفتان الجبرية والقدرية ما قدروا الله حق قدره.
  5. ما قدر الله حق قدره من زعم أنه حل في كل مكان

    وقال: "وكذلك ما قدر الله حق قدره من لم يصنه عن نتن ولا حش ولا مكان يرغب عن ذكره، بل جعله في كل مكان" وهذا مذهب الحلولية من الصوفية ومنكري العلو، الذين ينكرون علو الله، يقولون: الله في كل مكان، فنقول لهم: هناك أماكن قذرة نجسة يترفع الإنسان أن ينطقها، فكيف تقولون: إن الله في كل مكان؟!
    إذاً: ما قدر الله حق قدره من نفى علو الله واعتقد أن الله في كل مكان بذاته.
  6. ما قدر الله حق قدره من نفى الصفات الفعلية

    ثم ينتقل ويقول: "وما قدر الله حق قدره من نفى حقيقة محبته ورحمته ورأفته ورضاه وغضبه ومقته".
    وهذه اسمها الصفات الفعلية، والذين ينفونها هم الأشاعرة وأمثالهم ممن يؤولون الصفات وينفونها، خاصة صفات الرضا والغضب والمحبة؛ لأنهم يزعمون أن فيها تشبيهاً، فلم يثبتوها.
    إذاً: ما قدروا الله حق قدره إذا نفوا أنه يحب، وأنه يبغض، وأنه يريد، وأنه ذو انتقام، وأنه رءوف، وأنه يمقت.. إلى آخر ذلك.
  7. ما قدر الله حق قدره من نفى حكمته وغايته

    قال: "ولا من نفى حقيقة حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله".
    الذين نفوا حكمة الله، لم يقولوا: إنه ليس بحكيم وإنما قالوا: ليس لأفعاله غاية ولا علة، يظنون أنهم بهذا الكلام ينزهون الله، تعالى الله عما يقولون! أما نحن فإننا نقول: إنه إذا فعل شيئاً فمن أجل شيء وله فيه حكمة مثل: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ))[الذاريات:56] فهو ما خلقهم إلا لأجل العبادة، أما نفاة الحكمة فقالوا: هذا لا يليق، ولا نثبته لله، الله سبحانه وتعالى ما يفعل شيئاً من أجل شيء، ظنوا بهذا أنهم ينزهون الله، فوقعوا في المصيبة الكبرى وهي نفي الحكمة عن الله.
    فكأنه إن خلق شجرة أو حجراً أو أرسل نبياً فالأمر واحد، وكلها أفعال تخضع لمطلق المشيئة أو الإرادة فقط، ليس لها حكم ولا علل، فنفوا مقصوده وحكمته وغرضه من خلقه.
  8. ما قدر الله حق قدره من جعل له صاحبة وولداً

    قال: "وكذلك لم يقدره حق قدره من جعل له صاحبة وولداً"، وهؤلاء معروفون قاتلهم الله.
  9. ما قدر الله حق قدره من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

    قال: "وكذلك لم يقدره حق قدره من قال: إنه رفع أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وأعلى ذكرهم وجعل فيهم الملك والخلافة والعز، ووضع أولياء رسوله وأهل بيته وأهانهم وأذلهم وضرب عليهم الذلة أينما ثقفوا، وهذا يتضمن غاية القدح في جناب الرب، تعالى الله عن قول الرافضة علواً كبيراً!"
    لو صح التوحيد عند هذه الطوائف وقدروا الله حق قدره، ما وقعوا في هذه المصائب، يقولون: صنما قريش، يقصدون أبا بكر وعمر ! فأعدى أعداء الدين عندهم أبو بكر وعمر، ثم بنو أمية، ويرون أن بني أمية هم الشجرة الملعونة في القرآن، وأنهم شجرة خبيثة ملعونة وأنهم كفار... إلى آخر ما يقولون.
    إذا كان هؤلاء هم أعدى أعداء الدين، فمن هم أولياء الله؟!
    أما هم فقالوا: علي وذريته والأئمة ممن يعتقدون إمامتهم، ولكن الواقع أن الله تعالى مكّن لبني أمية وأعطاهم الملك والولاية، ففتحوا البلاد، وأقاموا الجهاد، أعطاهم الله ولاية حتى على هؤلاء.
    أما أهل البيت فقد ضربوا وسجنوا وأوذوا وعذبوا وقتلوا وما تولى منهم أحد، وهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى، وما تولى الخلافة أحد ممن يدعي الروافض أنه إمام إلا علياً رضي الله عنه؛ لأن بدعة الإثني عشرية ما جاءت إلا متأخرة بعد أحداث كربلاء، أي: بعد مقتل الحسين رضي الله عنه، بعد ذلك جاءت هذه البدع، فمنذ أن جاءت هذه البدعة ما ولي إمام من أئمة الرافضة قط.
    إذاً: أحسنوا ظنكم بالله يا من تدعون أنه لم يول أحداً من أوليائه الذين تقولون: إن الله اختصهم بغاية العلم والحكمة، ويعلمون الغيب، ويدبرون كل شيء، وأعطاهم مفاتيح الكون، كل هذا الاعتقاد العظيم فيهم وهم لم يتولوا الخلافة.
    إذاً: ظنكم بالله ظن عجيب غريب من أين تأتون به؟!
    وأعجب من ذلك أنه يمكن لأعدائهم ويوليهم وينصرهم، ويفتحون البلاد وتثني عليهم الأمة، وتؤلف فيهم الكتب، إذاً: لابد أن تصححوا ظنكم بالله تعالى.
    ونأتيك بجواب مفحم لا يستطيع الروافض أن يرفعوا رءوسهم بعده، نقول: مثل هذا القول في حق أهل البيت وفي حق أعدائهم -كما تزعمون- قالته اليهود والنصارى في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقاعدة واحدة، فإن اليهود والنصارى كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنه مفترٍ، افترى على الله الكذب وجاء برسالة، قلنا: فما الدين الحق الذي يقبله الله ولا يرضى غيره؟ قالوا: ما عليه اليهود والنصارى كما قال الله تعالى عنهم: ((وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا))[البقرة:135] فقلنا لهم: أفيسلط الله كذاباً دجالاً مفترياً فيستولي على ممالك دينكم الحق، ويقتلكم ويأسركم، ويضرب بالسيف رقابكم، ثم يستعبد من شاء منكم، ثم يظل الملك والشأن والرفعة والمجد له ولأمته أبد الآبدين؟!! هذا ظن سيئ بالله!
    إما أن يكون الله لا حكمة له في أفعاله، حيث ينصر عدوه وهو يفتري عليه زاعماً أنه رسول من عنده، ويأتي بكلام مختلق فيقول: هذا كلام الله، ويدعي الرسالة من الله، وأن الوحي ينزل إليه، ويجعل الديانة الحقة اليهودية والنصرانية -كما تزعمون- ذليلة مهانة مضطهدة معذبة، ويقضى عليها في أغلب بقاعها الأساسية المهمة لها، وهي منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، وإما أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم على حق وأنتم على الباطل؛ فأنتم بين خيارين لا مفر لكم من أحدهما، فإما ألا يكون هناك حكمة أبداً، وتتهمون الله بالعجز عن عاجز أن ينصر أولياءه على أعدائه، وإما أنكم أنتم ظننتم به غير الحق وما قدرتموه حق قدره، ويكون هو -حقيقة- نصر وليه ونبيه ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، ويكون دينكم باطلاً لا حقيقة له، هذا دليل يتفق مع حكمة الله ومع أفعال الله تبارك وتعالى في خلقه.
    قال ابن القيم: "وهذا القول -أي قول الرافضة- مشتق من قول اليهود والنصارى في رب العالمين إنه أرسل ملكاً ظالماً، فادعى النبوة لنفسه، وكذب على الله، ومكث زمناً طويلاً يكذب عليه كل وقت، ويقول: قال الله كذا.. وأمر بكذا.. ونهى عن كذا.. وينسخ شرائع أنبيائه ورسله، ويستبيح دماء أتباعهم وأموالهم وحريمهم، ويقول: الله أباح لي ذلك..! والرب تبارك وتعالى يؤيده ويظهره ويعليه، ويعزّه ويجيب دعواته، ويمكنه ممن خالفه ويقيم الأدلة على صدقه، ولا يعاديه أحد إلا ظفر به، فيصدقه بقوله وفعله وتقريره، ويحدث أدلة تصديقه شيئاً بعد شيء" إلى يوم القيامة.
    يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليست آياته ومعجزاته آنية ثم تنتهي كما كان الرسل من قبل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة}
    كلما جاء زمن تجدد فيه ما يدل على صدقه، وتظهر في كل عصر الدلائل على أنه نبي، وهكذا ما يقع من أخبار وأحداث أخبر عنها صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها، ولا يمكن أن يتوقعها بشر، ولا أن يقولها أحد إلا بعلم من الله تبارك وتعالى.
    يقول: "ومعلوم أن هذا يتضمن -أي: كلام اليهود وأتباعهم- أعظم القدح والطعن في الرب سبحانه وتعالى وعلمه وحكمته ورحمته وربوبيته، تعالى الله عن قول الجاحدين علواً كبيراً.
    فوازن بين قول هؤلاء -أي: اليهود- وقول إخوانهم من الرافضة، تجد القولين كما قال الشاعر:
    رضيعي لبانٍ ثدي أم تقاسما            بأسحم داجٍ عوض لا نتفرقُ
    وعوض معناها: أبداً، فكأن اليهود والرافضة أخوان رضعا من ثدي واحد وأقسما ألا يتفرقا أبداً، فما يقال في حق اليهود يقال في حق الروافض.
  10. ما قدر الله حق قدره من نفى التحسين والتقبيح للعقل

    ثم قال: "وكذلك لم يقدره حق قدره من قال: إنه يجوز أن يعذب أولياءه ومن لم يعصه طرفة عين، ويدخلهم دار الجحيم، وينعّم أعداءه ومن لم يؤمن به طرفة عين، ويدخلهم دار النعيم، وأن كلا الأمرين بالنسبة إليه سواء، وإنما الخبر المحض جاء عنه بخلاف ذلك".
    وهذا من إنكار الحكمة، فهو تابع لموضوع إنكار الحكمة أو إنكار التعليل.
    لكن هنا أيضاً ملحظ آخر وهو أنهم يقولون: إن العقل لا يحسن ولا يقبح، فلو أن الله تبارك وتعالى -كما يقولون- أتى بأفضل الأولياء وأدخله النار فذلك جائز، وأتى إلى أعدى أعدائه وهو الشيطان وأدخله الجنة، فذلك جائز عقلاً، لكن الشرع جاء بخلاف ذلك، فلولا أن الخبر الشرعي جاءنا لقلنا: يحتمل هذا وهذا، تعالى الله عما يصفون!
    لا والله!.. لا نعتقد ذلك، فإن الله تعالى أعطانا من العقول ما نعرف أن هذا الأمر لا يليق به.
    إذاً: العقل له دخل في معرفة التمييز بين الحق والباطل، وفي معرفة الصواب من الخطأ؛ من خلال ما جاء تفصيله وبيانه في الوحي، ولهذا وصف الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه الرسول النبي الأمي الذي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، قال تعالى: ((وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ))[الأعراف:157] وهي تدل على منهج أهل السنة والجماعة ولا تدل على مذهب الأشاعرة؛ وذلك لأن الله وكل إلينا معرفة الطيبات من الخبائث بعقولنا، ولو كان العقل لا يحسن ولا يقبح، لما كان لهذه الآية أية دلالة.
    وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى فطر الناس، وجعل في عقولهم قدراً يعرفون به الحق، فيأتي الشرع فيصدقه، ولو عرض عليهم دين آخر باطل محرف لما قبلته عقولهم، بل يقولون: لا يمكن أن يكون هو دين الله تبارك وتعالى.
    يقول: "وقد أنكر سبحانه على من جوّز عليه ذلك غاية الإنكار، وجعل الحكم به أسوأ الأحكام، قال تعالى: ((وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ))[ص:27-28]" سبحان الله! هل يمكن هذا؟!
    كل الأمم اليوم -إلا من عرف الله- تعتقد ما نفاه الله..! إن أمم الأرض إلا من عرف الله يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً، وأنه يجعل المتقين كالفجار، والفجار كالمتقين، والمفسدين كالمصلحين، لأنهم ينكرون البعث والجزاء والحساب.
    "وقال: : ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ))[الجاثية:21-22].. وقال: ((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ))[القلم:35-36]" لا يليق بالله تبارك وتعالى أن يجعل هؤلاء كهؤلاء حاشاه سبحانه من ذلك.
  11. ما قدر الله حق قدره من كذب بالقيامة

    قال رحمه الله: "وكذلك لم يقدره حق قدره من زعم أنه لا يحيي الموتى، ولا يبعث من في القبور، ولا يجمع خلقه ليوم يجازي فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ويأخذ للمظلوم فيه حقه من ظالمه، ويكرم المتحملين للمشاق في هذه الدار من أجله وفي مرضاته بأفضل كرامته، ويبين لخلقه الذي يختلفون فيه، ويعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين" قال تعالى: ((وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ))[النحل:38] انظر كيف ظن الكفار بالله، ظن السوء، .. ((وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ))[النحل:38-39] هذه حكمة عظيمة جداً، والأخرى: ((وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ))[النحل:39].
    فالحكمة الأولى: ليبين لهم الذي يختلفون فيه؛ مسلمين كانوا أو كفاراً؛ فالدماء تسفك يومياً على هذه الأرض منذ أن جعل الله تبارك وتعالى الحق والباطل؛ فمنذ أن خلق الله السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، وجعل جيشاً للإيمان وجيشاً للكفر.. جيشاً للتوحيد وجيشاً للشرك.. جبهةً لأهل الطاعات وجبهة لأهل المعاصي، والمعارك قائمة في كل مكان، وفي كل مجتمع، والدماء تراق وتهدر.
    خلاف كبير جداً، ألا يبين ربنا سبحانه وتعالى الحق في هذا الخلاف؟! سبحان الله! إن عدم تمييز الحق من الباطل لا يليق بالله تعالى!
    هناك ناس يقولون: إن المسيح هو الله كل يوم، بألف ومائتي لغة ترجم إليها الإنجيل، وفي محطات إذاعية تقارب الألف محطة بجميع اللغات في العالم؛ كلها تقول: الرب (يسوع) الإله المخلِّص.. ويأتي اليهود فيقولون: هذا ابن زنا..! حاشا لله أن يكون عبده ونبيه وكلمته كذلك.
    فهؤلاء غلوا فيه فكفروا، وهؤلاء تنقصوه فكفروا، والمؤمنون يقولون في عيسى عليه السلام: هو عبد الله ورسوله، وهذا خلاف كبير بين هذه الأديان الثلاثة في العالم، خلاف كبير جداً الآن، فمن يبين لكل منهم إذا لم يكن هناك يوم قيامة؟ لو مات اليهود وهم يعتقدون أنهم على الحق، والنصارى وهم يعتقدون أنهم على الحق، والمسلمون يظلون على اعتقادهم الحق؟ والأجيال تمر وكل واحد يظن أنه على الحق لكان ذلك منافياً للحق والعدل والحكمة الإلهية، لكن يأتي يوم القيامة ليبين لهم الذي يختلفون فيه، قال تعالى: ((إِذْ قَال الله يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ))[المائدة:116] هنا يظهر، عيسى نفسه عليه السلام، ويخاطبه ربه جل وعلا: أأنت قلت ما يقوله النصارى عنك؟! وهنا تبطل كل وسائل وإذاعات الإنجيل والتبشير، كل ما يقولونه ويزعمونه ويسمعون الجواب من عيسى نفسه، وعندئذٍ يعلمون أنهم على باطل، والمسلمون -والحمد لله- يعلمون أنهم على الحق، واليهود يعلمون أنهم كاذبون: ((وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ))[النحل:39] وقس على ذلك.
    إذاً: فمهما حلف الكفار : ((وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ))[النحل:38-39].
    يأتي المشرك بالعظم فيفته : ((قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ))[يس:78] ويجيبه الله سبحانه وتعالى : ((قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ))[يس:79] لكن لو لم يكن ثمة بعث؛ فلن يعرف من هو الكاذب ومن هو الصادق، وسوف تختل الأمور والموازين، فمن أحسن ظنه بالله، وقدر الله تعالى حق قدره آمن بالقيامة وبالبعث والنشور، أما من كان غير ذلك فإنه هو الذي يكفر بالقيامة وبالبعث وبالحياة بعد الموت.
  12. ما قدر الله حق قدره من هان عليه أمره

    قال: "وكذلك لم يقدر الله تعالى حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه".
    كأن الشيخ ابن القيم رجع إلى موضوع الكتاب الأساس (المعاصي والعشق) لكن هو يأتي بالأشياء المهمة الأساسية العقدية ثم يأتي بهذه التي هي ناتجة عن سَوْرة الشهوة.
    ويلاحظ أن المقارف للمعاصي إذا قيل له: اتق الله يا أخي! هذا حرام! يقول: هذا ولا يضر.. وإذا قيل له: يا أخي! اتق الله وصل! افعل كذا! يقول: ليس هناك مشكلة؛ فقد هان عليه أمر الله، فهل قدره حق قدره؟!
    لم يقدره.
    قال رحمه الله: "وحقّه فضيعه، وذكره فأهمله، وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعته فلله الفضلة في قلبه وعمله" يعني: جعل لله الفضلة من قلبه وعلمه وقوله وعمله وماله.
    وهذه مشكلة المعاصي، فهي تدل على أننا نجعل لله الفضلة من قلوبنا وأعمالنا وأموالنا وكلنا كذلك -نسأل الله أن يرحمنا برحمته- ما قدرنا الله حق قدره؛ لأننا لم نجعل لله إلا الفضلة من قلوبنا، وجعلنا صلب همنا وتفكيرنا في الدنيا، على السيارات والعمارات والزوجات والأبناء والوظائف.
    قد يبتعث شخص خمس عشرة سنة للعلم وليس لله منها كلمة واحدة...!
    وكذلك يوجد أناس كل يوم يكتبون قصائد، ويصدرون مجلدات من الشعر ليس لله منها شيء، ويقيمون المجالس والسمرات، يبدأ أحدهم في الحكاية ويضحك الناس ويحكي لهم طوال الليل كل يوم، وليس لله شيء من هذا القول، نسأل الله العفو والعافية.
    وعمله كدح.. ليل نهار.. كم لله من هذا الكدح؟!
    فتراه يغضب لكن ليس لله، ويرضى لكن ليس لله، ينتقم لكن ليس لله؟ وإنما لنفسه وشهواته.. ماذا جعل لله؟!
    حتى ماله قضاه في: شهوة.. تمشية.. نزهة.. رحلة... إلخ، وإذا قيل له: خذ ما شئت مما أحل الله لك من المال، لكن أعط عشرة ريالات لله فربما لا يستجيب، وإن أعطى لله فإنما هو الفضلة، مثلاً: لو نجح واحد من أولاده لأعطاه هدية، لو كان من أولاده لاعب كرة وأتى بهدف يعطيه سيارة أو مليون ريال أو أي شيء، ولو أن أحد أولاده حفظ جزءاً من القرآن أعطاه عشرة ريالات أو خمسين ريالاً.
    إذاً: هل هذا يحسن الظن بالله تعالى؟!! وإذا قيل له: هل أنت حسن الظن بالله؟!
    يقول: والله نحن نحسن الظن بالله..
    يا شيخ! ما أحسنتَ الظن به..!
    ومن هذا حاله فوالله ما أحسن الظن بالله، ولا أحسن الرجاء، ولو أحسن الظن لأحسن العمل، لو أحسنت الظن به لعظمت أمره ونهيه، ووقفت عند حدوده، وسعيت إلى مرضاته بكل طريقة، وكنت مع أوليائه؛ فإن لم تجاهد أعداءه فكن محباً لأوليائه بقلبك.
    من عظيم البلاء أن تجد أناساً يتفكهون في المجالس ويتندرون بالدعاة .. بالهيئة.. بالمقاومة.. سبحان الله! تحاربون أولياء الله الذي رزقكم وأعطاكم المال والمناصب والخير، فإن لم تكونوا مع أوليائه فلا تقفوا مع أعدائه، لكن الشيطان أعماهم وأصمهم، فهذا موقفهم من الله سبحانه وتعالى.
    قال ابن القيم: "فلما كان الشرك أكبر شيء منافاة للأمر الذي خلق الله له الخلق، وأمر لأجله بالأمر، كان من أكبر الكبائر عند الله.
    وكذلك الكبر وتوابعه كما تقدم، فإن الله سبحانه خلق الخلق وأنزل الكتاب لتكون العبادة والطاعة له وحده، والشرك والكبر ينافيان ذلك، ولذلك حرم الله الجنة على أهل الشرك والكبر" يقول الله تعالى: ((إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ))[المائدة:72] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر} لهذا كان أعظم وأكبر الذنوب.