بعد أن تجلت هذه الحقيقة العظيمة، حقيقة الشرك وأنه هو التشبيه، ينتقل ابن القيم رحمه الله ينقلك إلى حقيقة أخرى عظيمة جداً، فيقول: "إذا تبين هذا فهاهنا أصل عظيم يكشف سر المسألة، وهو أن أعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به".
فليس الرجاء أضعف منازل المريدين كما يقول الهروي أو يقول الصوفية، لا. بل أعظم الذنوب إساءة الظن بالله سبحانه وتعالى، وهذا باب لموضوع آخر سيأتي فيما بعد، وقد يقال: أليس أعظم الذنوب هو القول على الله تعالى بغير علم كما في الآية؟!
فنقول: انتظروا... سيفتح الشيخ باباً إلى باب إلى باب.. حتى تجدوا مدناً من مدن العلم والخير في هذه العبارات الموجزة.
يقول: "فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس، فظن به ما يناقض أسماءه وصفاته". أي أن مسيء الظن بالله ظن به خلاف الكمال الذي تقتضيه هذه الأسماء والصفات التي تثبت له.
يقول: "ولهذا توعد الله سبحانه وتعالى الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال تعالى: ((عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً))[الفتح:6]" انظروا شدة الوعيد نتيجة هذا الظن بالله تبارك وتعالى.
"وقال تعالى لمن أنكر صفة من صفاته: ((وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ))[فصلت:23]" ما هي الصفة التي أنكرها هؤلاء؟
الصفة التي أنكرها هؤلاء هي صفة العلم، وأن الله لا يعلم كثيراً من أعمالهم.
يقول: "وقال تعالى عن خليله إبراهيم - الذي قال له ربه: ((إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً))[البقرة:124]، وقال له: ((ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً))[النحل:123] شرف عظيم أن يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملته، هذا من أعظم الدلالة على إمامته عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- وأنه قال لقومه: ((مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ))[الصافات:85-87]".. الإفك: هو الافتراء لا أصل له ولا حقيقة ثم يعقب على ذلك فيقول: "((فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ))[الصافات:87].. أي: فما ظنكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ وما ظننتم به حتى عبدتم غيره؟ وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص، حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؟". ماذا ظننتم به حتى عبدتم غيره معه أو من دونه؟!
يقول: "فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم، وهو على كل شيء قدير، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المتفرد بتدبير خلقه لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور، فلا يخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده -((أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ))[الزمر:36]- فلا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته؛ فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء؛ فإنهم يحتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، ويعينهم على قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وضعفهم وعجزهم وقصور علملهم".
ما أجمل هذه العبارات العظيمة!!
  1. إدخال الوسائط بين الله وخلقه إساءة ظن به سبحانه