المادة    
ولأجل هذه التقادير المختلفة اختلف العلماء في أيها يقع النسخ والتقدير، فذهب ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأبو وائل شقيق بن سلمة ومجاهد وبعض العلماء من السلف أن التقدير السنوي الذي في ليلة القدر: ((فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)) [الدخان:4] يغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيه ما يقضي وما يقدر.
  1. أصل التقدير الثابت في اللوح المحفوظ لا يغير

    لكن التقدير الذي لا يغير ما كَانَ في أم الكتاب، وعلى ذلك حملوا الآية في سورة الرعد ((لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))[الرعد:38-39] أي: الآجال، كل أجل له كتاب والله عَزَّ وَجَلَّ يمحو ما يشاء ويثبت من هذه الآجال ثُمَّ قَالَ: ((وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ المذكور في قوله تعالى: ((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْر)) [الأنبياء:105]، فما كَانَ في اللوح المحفوظ فإنه لا يتغير ولا يتبدل ولا ينسخ منه شيء.
  2. التغيير في صحف الملائكة

    أما الصحف التي في أيدي الملائكة فهذه تقبل التغيير، والملائكة لا يعلمون الغيب إنما يأمرهم الله عَزَّ وَجَلَّ أن ينقلوا من اللوح المحفوظ، ولهذا قال ابن عباس - لما تقول الملائكة يَوْمَ القِيَامَةِ: ((إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) [الجاثية:29]- ألستم عرباً؟ ألا تقرأون؟ فالملائكة تستنسخ بإذن الله عَزَّ وَجَلَّ، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقدر الأقدار العمرية والسنوية ويأمر الملائكة بها؛ لكن المكتوب في اللوح المحفوظ الذي تستنسخه الملائكة هو النهاية الأخيرة التي لا تقبل التغيير والتبديل بأي حال من الأحوال، لذلك ذكر المصنف: إن زيادة ونقص العمر وأثر الأسباب في الآجال يحمل عَلَى الصحف التي في أيدي الملائكة، أو بمعنى أوسع. نقول: عَلَى القدر العمري أو القدر السنوي، أما أصل الكتاب فإنه لا يدخله التغيير ولا يدخله التبديل.
    ثُمَّ قَالَ: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِت)) [الرعد:39] أي: من هذه الآجال، ((وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) التي لا محو فيها ولا تغيير وذهب البعض الآخرين من العلماء -من الذين لا يرون أثراً للأسباب في الآجال- إِلَى أن آية الرعد ليست في موضع علاقة الدعاء بالقضاء والآجال، وإنما هي في موضوع الشرائع.
    فالكتابة -التي هي الكتابة القدرية الكونية القضائية- إنما هي في الشرائع والأديان بدليل أول الآية، كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ: ((وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِت وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) [الرعد:38، 39].
  3. النسخ في زمن الشرائع

    ويقولون: إن ظاهر الآية - وهذا الذي رجحه المُصنِّف - يدل عَلَى أن الأَنْبِيَاء لا يأتون بآيات، ولابشرائع من عند أنفسهم، وإنما يأتيهم بها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والله جعل لهذه الشرائع آجالاً ((لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)) [الرعد:38]، فإذا انتهى الأجل بطلت تلك الشريعة والعمل بها، وتأتي شريعة أخرى تنسخها،ثُمَّ قال بعد ذلك: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِت وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) [الرعد:39].
  4. القول الراجح في هذه المسألة

    وإن كَانَ لهذا القول الآنف الذكر وجه من القوة إلا أن المتأمل لا يرى تناسباً وتوافقاً بين تفسيرهم لأم الكتاب أنها شريعة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي نسخت جميع الشرائع وبين قوله: ((وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) لكن إن قلنا: إن أم الكتاب هو اللوح المحفوظ كَانَ ذلك المعنى مطرداً، وأما أول السياق ((وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ))[الرعد:38]، فلا تعارض بينه وبين ما بعده؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ يبين أن الأَنْبِيَاء لا يأتون بشيء من عند أنفسهم وإنما يأتون بأمر يعطيهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثُمَّ قال بعد ذلك: ((لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)) [الرعد: 38] أي: أن الآجال مكتوبة ومقدرة سواء ما كَانَ منها للأعمار أو للشرائع أو لغيرها، فالعام ((لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ))، ثُمَّ ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِت وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) تكون خاصة بالأقدار التي يقدرها الله عَزَّ وَجَلَّ، ولا شك أن إعطاء الرسل الآيات هو من أقدار الله عَزَّ وَجَلَّ أيضاً، فيكون في الآية انتقال من معنى إِلَى معنى آخر، مع وجود علاقة ورابطة بينهما، ولا يشترط أن تكون الآية إِلَى آخرها والآيات التي بعدها كلها في موضوع واحد وهو سياق أول الآية الأولى، هذا الذي يظهر والله أعلم، والذي يترجح وهو خلاف ما رجحه المُصنِّف والله أعلم.
    قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [وفي الآية أقوال أخرى والله أعلم بالصواب]، ومن أراد أن يطلع ويستفصل الأقوال الأخرى فليراجع تفسير ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ للآية، فإنه أطال النفس في تفسير هذه الآية، وذكر الأقوال عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم.