المادة    
قول هَؤُلاءِ الفلاسفة -ومن قال بمقالتهم-: إن المقادير إن كانت قد جرت بأن يتحقق للعبد ما يريد فلا حاجة للداعي أن يدعو، وإن كانت قد جرت بما لا يريده العبد فلا فائدة في الدعاء‍!! ورؤيتهم إنما هو اعتراض عَلَى القدر وهي من أبطل الباطل، وهذا مما زينه الشيطان لهَؤُلاءِ المتصوفة وأمثالهم، وإلا فالأنبياء هم أكثر النَّاس دعاءً، والنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد شرع لنا الأدعية المأثورة الكثيرة الصحيحة في معظم الحركات والسكنات منها: إذا دخل بيته وإذا خرج منه، وإذا أتى أهله، وإذا أخذ مضجعه لينام، وإذا قام من مضجعه.
فالحياة كلها متصلة بالدعاء وبذكر الله عَزَّ وَجَلَّ وما ذاك إلا لبيان الافتقار والحاجة إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى،
أما قولهم: إن كَانَ قد قضى ما نريد فلا حاجة إِلَى الدعاء، وإن قضى بضده فلا فائدة في الدعاء، فالرد عليهم بما أوضحنا في أول الموضوع وهو أن الدعاء سبب من الأسباب، فكما أنني إذا رأيت وحشاً يهجم علي وعندي بندقية فسأطلقها عليه، ولا أقول: إن كَانَ قد قدر الله موتي فلا يفيد إطلاق النار، وإن لم يكن قدر الله موتي، فإنه لن يأكلني، نقول: لا، بل أطلق النَّار عليه وأدفعه عني؛ لأن إطلاق البندقية سبب لدفع المكروه، فكذلك يُقال في الدعاء: إنه سبب، فإن نفع هذا السبب واستجيب الدعاء فالْحَمْدُ لِلَّهِ، وإن لم يقع فنقول حينها قد اتخذنا السبب، وأقدار الله عَزَّ وَجَلَّ لا غالب لها، ولا ينفع معها أي سبب من الأسباب.
ومن هنا نفهم أنهم مخالفون للعقل وللشرع، وأن الحق هو ما عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في هذه المسألة كما في غيرها من المسائل وهو الموافق للنصوص الشرعية، والموافق أيضاً للعقل والفطرة السليمة عند التأمل.

قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وأما قوله تعالى: ((وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ)) [فاطر:11].
قال بعض العلماء عندما قرأوا هذه الآية: إن العمر يزيد وينقص، يعني: أن عمر الإِنسَانِ يقبل الزيادة والنقصان فلو أن الإِنسَان اجتهد في الطاعة أو بذل الأسباب من السلامة والوقاية فإن عمره يزيد، ولو أن الإِنسَان قصر في ذلك، فإن عمره ينقص وذلك بناء عَلَى أن الضمير في قوله تَعَالَى:((وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ))[فاطر:11] يعود عَلَى ذات الإِنسَان الواحد.
فيرد عليهم المؤلف قائلاً: أنه بمنزلة قولهم: عندي درهم ونصفه، أي: ونصف درهم آخر، لكن هذا الضمير عود لفظي فقط، وليس عائداً عَلَى حقيقة الشيء، فيكون تفسير الآية عَلَى هذا المعنى: لا يزيد عمر أحد ولا ينقص عمر أحد آخر، إلا كَانَ ذلك في الكتاب، فمن النَّاس من يمد الله في عمره حتى يصل إِلَى مرحلة الضعف الأخيرة (الشيبة).
ومنهم من قضى الله بأن يموت وهو طفل وكل ذلك في كتاب، ومن ثُمَّ إذا قلنا: إن الآجال مقدرة ومضروبة، وأن كل ذلك في كتاب، وأنه قد تؤثر بعض الأسباب وبعضها لا تؤثر، فإن المعنى صحيح، وللقدر مراتب زمانية.
  1. مراتب القدر الزمنية

    قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
    [وأما قوله تعالى: ((وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ))[فاطر:11]
    فقد قيل في الضمير المذكور في قوله تعالى: ((مِنْ عُمُرِه)) إنه بمنزلة قولهم: عندي درهم ونصفه، أي ونصف درهم آخر، فيكون المعنى: ولا ينقص من عمر معمر آخر، وقيل الزيادة والنقصان في الصحف التي في أيدي الملائكة، وحمل قوله تعالى: ((لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))[الرعد:38-39] عَلَى أن المحو والإثبات من الصحف التي في أيدي الملائكة، وأن قوله: ((وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))[الرعد:39] اللوح المحفوظ. ويدل عَلَى هذا الوجه سياق الآية وهو قوله: ((لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ))، ثُمَّ قَالَ: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ)) أي: من ذلك الكتاب، ((وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) [الرعد:39] أي: أصله، وهو اللوح المحفوظ. وقيل: يمحو الله ما يشاء من الشرائع وينسخه، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، والسياق أدل عَلَى هذا الوجه من الوجه الأول، وهو قوله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)) [الرعد:38] فأخبر تَعَالَى أن الرَّسُول لا يأتي بالآيات من قبل نفسه، بل من عند الله، ثُمَّ قَالَ: ((لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))[الرعد:38-39] أي: أن الشرائع لها أجل وغاية تنتهي إليها، ثُمَّ تنسخ بالشريعة الأخرى، فينسخ الله ما يشاء من الشرائع عند انقضاء الأجل، ويثبت ما يشاء. وفي الآية أقوال أخرى، والله أعلم بالصواب] ا.هـ.

    الشرح :
    وقد سبق أن ذكرنا أن هناك تقديراً يومياً، وتقديراً سنوياً، وتقديراً عمرياً -على العمر كله- وتقديراً كونياً -على عمر الكون كله-، واللوح المحفوظ - أم الكتاب - قدر الله فيه الأمور الكونية التي لا تتغير ولا تتبدل، وهو الذي في حديث {أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب: قال وما أكتب، قال: اكتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة}، فهذا لا يتغير ولا يتبدل، أما التقدير اليومي في قوله عَزَّ وَجَلَّ: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))[الرحمن:29] فمعناه أنه يرفع ويخفض ويعطي ويمنع، وأما التقدير السنوي ففي ليلة القدر، وهي ليلة واحدة في العام فيقدر الله عَزَّ وَجَلَّ فيها ما سيقع في ذلك العام، فهذا التقدير عَلَى مستوى العام في العمر كله، يعني كل سنة من سنين العمر الكوني فإن الله تَعَالَى يقدر في ليلة القدر من تلك السنة من الآجال والأرزاق والحياة والموت وما أشبه ذلك، والتقدير العمري هو ما يتعلق بالعمر وهو أن العبد - كما مر معنا في حديث عبد الله بن مسعود - إذا مرت عليه مائة وعشرون ليلة أو اثنتان وأربعون ليلة - كما في الرواية الأخرى التي صرحت بذلك {أن الملك ينفخ فيه الروح ويكتب فيها رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد}، هذا التقدير عَلَى مستوى عمر الإِنسَان، أحد ماسبق من المراتب.