المادة    
النقطة التي ننتقل إليها هي: كيف نكون أهلاً للانتفاع بالقرآن الكريم؟
قال الشيخ سعيد شعلان:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، سبق أن ذكرنا اشتمال القرآن إلى مادة الحياة، وعرفنا كيف حي أسلافنا بالقرآن، والقرآن بين أيدينا، فلماذا وجدت فينا هذه الأمور التي حالت بيننا وبين أن نكون بالأثر وعلى الدرب؟!
هل عزف المسلمون عن قراءة القرآن وأعرضوا عن ذلك؟
  1. التدبـر وأثـره

    الواقع أن المسلمين ما زالوا يقرءون القرآن؛ ولكن مما لا شك فيه أن قراءة القرآن وحدها ليست كفيلة بأن نكون أهلاً للانتفاع به، وبأن نكون أهلاً لأن نحيا به، فلا بد أن نُتْبَع القراءة والتلاوة بالفهم والتدبر والتعقل وبأمور أخرى سيأتي بيانها، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في تدبر القرآن -ما هو التدبر الذي هو من أعظم الشروط التي تؤهلنا للانتفاع بالقرآن؟-
    قال: ''هو تحديق نظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهذا هو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر، قال الله تعالى في سورة النساء: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً))[النساء:82] وقال الله تعالى في سورة المؤمنون: ((أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ))[المؤمنون:68] وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة ص: ((كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ))[ص:29] وقال تعالى في سورة الزخرف: ((إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))[الزخرف:3] وقال تعالى: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24] '' .
    وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى:[[نزل القرآن ليتدبر وليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً]].
    ثم يقول رحمه الله تعالى -والكلام ما يزال لـابن القيم أثابه الله وجزاه أحسن الجزاء وأجمله-: ''فليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب في نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على معاني آياته فإنها تطلع العبد على معاني الخير والشر بحذافيرها، وعلى طرقاتها وأسبابها وغاياتها وثمراتها ومآل أهلهما'' هذا هو أنفع شيء للعبد في معاشه ومعاده، وهو أقرب شيء إلى نجاته؛ أن يتدبر القرآن، وأن يطيل التأمل فيه، وأن يجمع الفكر على معاني آياته.
    وماذا يستفيد العبد إذا تدبر وأطال التأمل وجمع الفكر على المعاني؟
    هذه الأمور إذا فعلها العبد، يقول: '' فإنها تطلع العبد على معاني الخير والشر بحذافيرها، وعلى طرقاتها وأسبابها وغاياتها وثمراتها ومآل أهلهما '' أي: مآل أهل الخير والشر، ما الذي يطلعك على ذلك؟
    إنه تدبر القرآن وإطالة التأمل فيه وجمع الفكر على معاني آياته.
    وماذا تفيدك إطالة التأمل مع التدبر والتعقل وجمع الفكر؟
    يقول: '' وتتُلُّ في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة -ومعنى (تتل في يده) تلقى في يده توضع في يده- هذا كله بالتدبر والتعقل وجمع الفكر، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيانه، وتوطد أركانه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره بمواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته، وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه سبحانه، وقواطع الطريق وآفاتها، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة والنار، وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق، واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وافتراقهم فيما يفترقون فيه، وبالجملة تُعَرِّفه ستة أشياء: تعرفه الرب المدعو إليه المدعو إلى عبادته سبحانه والإقبال إليه وما إلى ذلك مما ينبغي ألا يكون إلا لله وطريق الوصول إليه إلى رضاه وإلى جنته، وإلى رؤيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما له من الكرامة إذا قدم عليه، وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، وطريق الوصول إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب إذا قدم عليه فهذه ستة أمور لا بد للعبد من معرفتها، ومشاهدتها، ومطالعتها ''
  2. الانتفاع بالقرآن ومفسدات القلوب

    ينبغي لكي نكون أهلاً للانتفاع بالقرآن، أن نتجنب مفسدات القلب الخمسة، وذكرها ابن القيم أيضاً في كتابه مدارج السالكين ومنها: ''كثرة الخلطة، والتعلق بغير الله عز وجل، والشبع، وكثرة النوم'' كثرة الخلطة مع غير الأخيار والصالحين، من غير دعوتهم، وبيان الحق لهم، وعرض محاسن الإسلام عليهم، والرضا بأحوالهم ومجالستهم على ما هم فيه من غير سعي إلى تغيير هذه المنكرات والأحوال السيئة، هذه مفسدة للقلب، فمهما قرأت فلا تنتفع بشيء.
    التمني، أي: تمني الأمنيات: نتمنى ونتمنى... وأحلام يقظة من غير حركة ولا فعل ولا نشاط ولا عمل ولا دعوة، فقط نتمنى؛ وكذلك التعلق بغير الله عز وجل يفسد القلب أيما إفساد.
  3. أثر الذنوب في الانتفاع بالقرآن

    وينبغي أن نخاف ذنوبنا ومعاصينا، فإن لها من الآثار السيئة على القلوب والحيلولة بين القلوب والفهم والوعي والتدبر والتأثر ما لا يخفى على أي عاقل لبيب.
  4. نماذج من السلف في الخوف من الذنوب

    ولا حاجة بي إلى أن أعيد ذكر الذنوب -التي ذكرها فضيلة الشيخ في كلمته- الذنوب التي حطت من قدرنا، وعطلتنا عن اللحاق بمن سبقنا، وأخرتنا أيما تأخير.
    هذه الذنوب يجب أن نخافها أشد الخوف ويكفي في الدلالة على ما ينبغي من خوف الذنوب أن أذكر مثالاً على ذلك وهو: عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- والذي ذكر فضيلة الشيخ أنه ممن تفجرت ينابيع الحكمة في قلوبهم وعلى ألسنتهم لَمَّا انتفعوا بهذا القرآن العظيم.
    كان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- من السابقين إلى الإسلام، وكان من المحببين إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وأذكر في فضله ومكانته عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود نفسه قال: { لما نزل قوله تعالى في سورة المائدة: ((لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ))[المائدة:93] قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـابن مسعود: قيل لي: أنت منهم، أنت منهم } هذا في صحيح مسلم وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي مسعود البدري وأبي موسى [[ أنهما بعد وفاة ابن مسعود -رضي الله عنه- جلسا فقال أحدهما للآخر: أتراه ترك بعده مثله؟ -أي: هل بقي مثل ابن مسعود بعد وفاته- فقال الآخر: لأن قلت ذاك، لقد كان يؤذن له إذا حجبنا، ويشهد إذا غبنا ]].
    أي: ومن منا مثل ابن مسعود، كان يؤذن له في الدخول على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حجبنا، ويشهد إذا غبنا، ولقد دخل ابن مسعود على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد مرضه الشديد وامتناعه من الخروج للمسلمين في يوم الخميس، وقبل وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأذن له بينما لم يؤذن لكثير من الصحابة في ذلك الوقت.
    وأيضاً في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: {قدمت أنا وأخي في قدوم الأشعريين فمكثنا زمناً لا نرى ابن مسعود وأمه إلا من آل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكثرة دخولهم وخروجهم عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}، هذا في مكانة ابن مسعود، وفي هذه المكانة حديث آخر أخرجه الإمام أحمد وغيره، عن ابن مسعود وعمر بن الخطاب، أما عمر بن الخطاب فلما بلغه وهو بعرفة -رضي الله عنه- أن رجلاً بالكوفة يملي المصاحف عن ظهر قلب، غضب وارتعدت فرائصه، ولم يسر عنه إلا لما عرف أن ابن مسعود هو الذي يملي المصاحف عن ظهر قلب، قال: ومن أحق منه بعد. أي: ومن أحق منه في هذا الوقت؟
    فليس أحد أحق من ابن مسعود. لقد كنا عند أبي بكر في سمرٍ، وعنده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا، وخرجنا فأتينا المسجد فوجدنا رجلاً قائماً يصلي فاستمعنا إليه، فلما كدنا أن نعرفه -وعرفوا أنه ابن مسعود- قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـأبي بكر وعمر: {من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل، فليقرأه بقراءة ابن أم عبد. ثم انتهى ابن مسعود وشرع في الدعاء، فقال عليه الصلاة والسلام وابن مسعود لا يشعر: سل تعطه، فدعا ابن مسعود وقال: اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة نبيك محمد في أعلى جنان الخلد، قال عمر رضي الله عنه: فقلت في نفسي لأبشرنه إذا غدوت عليه، فلما أتيته لأبشره وجدت أبا بكر سبقني، فقلت له: إنك لسباق إلى الخير }.
    هذا بعض ما يمكن أن يروى في مكانة ابن مسعود وفضله.
    إذا انتبهتم إلى هذا وتأكدتم منه ووقفتم عليه، تعالوا إذن نرى كيف كان هذا الصحابي الجليل يزري على نفسه ويهضمها، ويخاف الذنوب، لنعرف أين هم وأين نحن؟!
    وإلى أين وصلوا هم؟!
    ولماذا وقفنا ولا حراك لنا؟!
    ولا نأمل ونحن على ما نحن عليه من هذه الأحوال السيئة أن ندرك هذا الركب حتى نقلع عن هذه الذنوب والمعاصي، وحتى نحييَّ قلوبنا بهذا الهدى، وهذه الرحمة التي في القرآن.
    عن إبراهيم التيمي عن أبيه بإسناد صحيح -كما أخرجه الذهبي في سيرة ابن مسعود في المجلد الأول- قال: قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: [[لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي اثنان، ولحثيتم التراب فوق رأسي، ولوددت أن الله غفر ذنباً من ذنوبي وأني دعيت عبد الله بن روثة]]، وددت أن الله يغفر لي ذنباً من ذنوبي حتى وإن كانت القربان إلى ذلك والشيء الذي يقدم ليغفر ذنباً من الذنوب أن أدعى يا عبد الله بن روثة؛ وتعرفون معنى الروثة!
    هذا إزراءٌ على النفس وتواضع، وإلا فهم السابقون السابقون رضي الله عنهم وأرضاهم.
    ويقول أبو سليمان الداراني معلقاً على كلام لـابن سيرين بكلمة أختم بها هذه الفقرة في التحذير من الذنوب ومن عدم الخوف منها، فنرى ابن سيرين رحمه الله تعالى، تدين بدين كبير عظيم جداً حبس بسببه، فحاسب ابن سيرين نفسه فقال: [[إني عيَّرت رجلاً من ثلاثين سنة فقلت له: يا مفلس، وهذا هو أوان عقابي وجزائي بهذا الذنب، فبماذا علق أبو سليمان الداراني؟ قال: قلَّتْ ذنوبهم فعرفوا من أين أُتوا، وكثرت ذنوبنا فلم ندر من أين نُؤتى!]].
    إذا حصلت لأحدهم مصيبة.. والله تعالى يقول: ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ))[الشورى:30] إذا أصابه ذنب وبلاء عرف أن الذنب هو الذي تسبب بهذا البلاء، يعرفه؛ لأن ذنوبهم قليلة فلا يحتاج إلى كثير بحث، أما نحن فإذا أصبنا ببلاء لا نستطيع أن نرد السبب إلى ذنب معين؛ لأنها ذنوب كثيرة وعظيمة.
    ولقد قال أنس -رضي الله عنه- كما في صحيح البخاري لمن أدركهم من التابعين: [[إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الموبقات]] يعني: المهلكات، ومعنى قوله: أنتم تعملون أعمالاً تعتبرونها في نظركم وحسبانكم دقيقة كالشعر ونحن كنا نعدها؛ أي: نعد هذه الذنوب التي تستهينون بها على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الموبقات [[قَلَّت ذنوبهم فعرفوا من أين أُتُوا، وكثرت ذنوبنا فلم ندر من أين نؤتى]].
    فنسأل الله -تبارك وتعالى- أن يوفقنا وإياكم إلى تحقيق هذه الشروط التي تجعلنا أهلاً للانتفاع بالقرآن، والتي تؤهلنا لأن نحيا بالقرآن، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.