المادة    
كل النظريات التي ندرسها نحن في العالم الإسلامي، كانت كلها قبل هذا العام بسنوات في الغرب، ونحن لا نزكي هذه المدرسة الأخيرة لكن نضرب مثالاً على أننا نلتقط ما رماه الغرب في نفاياته وما تجاوزه، بينما نحن ما نزال نعيش ونقتات عليه -مع الأسف- إلا القلة المؤمنة المخلصة في بعض الجامعات الإسلامية الذين بدءوا ينظرون إلى كل شيء من زاوية التوحيد والإيمان والدين، الذي لا يجوز أن ننظر إلى أي شيء إلا من خلاله.
ثم يقول: ''قررت هذه المدرسة أن تطلق على نفسها اسم: علم الإنساني، وهذه هي سيكيولوجيا النظرة العلمية الجديدة'' .
ثم أخذ يتحدث عن أحد الأسباب الرئيسة في ذلك، فيقول عن أحدهم وهو أوبن هايمر يقول: ''إن أسوأ ما يمكن تصوره من حالات سوء الفهم هو أن يتأثر علم النفس تأثراً يجعله يصوغ نفسه على غرار فيزياء لم يعد لها الآن وجود -فيزياء القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين- فيزياء عفَّاها الزمن، وأعتقد أن هناك إجماعاً في الرأي على أن هذا هو الطريق الذي قادتنا إليه السلوكية الوضعية المنطقية '' يعني أنه يقول: ويجب أن ننسى كل تلك النظريات؛ لأنها بنيت على فيزياء القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين الذي قد تغيرت تغيراً تاماً.
  1. التربية الحقيقية

    التربية الحقة هي التي تمتلك التصور الكوني الكلي للوجود، التي تحدد فيها صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتحدد فيها صفات الرسل وواجباتهم وأعمالهم، وما ينبغي لهم وما يجب علينا نحوهم، وتحدد فيها وظيفة الإنسان ومصيره، من أين جاء؟
    وإلى أين يذهب؟
    وكيف يعمل ويعيش؟
    ومحددةٌ فيها كل جوانب النفس الإنسانية بحيث يجد الإنسان أنه في اقتصاده، واجتماعه، وآدابه، وأخلاقه، وسلوكه، يجد نفسه شيئاً واحداً لا تتعاوره الاتجاهات المتناحرة، وهذا لا يوجد في أي نظرية أو مبدأ أو دين إلا في الإسلام، حتى الإنسان الأوروبي لا يملك هذا التكامل على الرغم من وجود هذه المدارس وأمثالها التي بدأت تظهر، إلا أنه في تاريخه الطويل ألف المتناقضات والتناحرات، فكان يخضع لقيصر فيما كان لقيصر، ويخضع للكنيسة فيما كان لله، كما هي نظريتهم الباطلة التي تقول: ''دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله!'' .
    ألفرد نورث وايتد عالم رياضي كبير إنجليزي يقول: ''مشكلة المشاكل التي يعيشها الإنسان والتي يعيشها العلم الحديث هي تجزئة الطبيعة''
    نقول: هذا جانب ديني، وهذا علمي، وهذا تربوي، وهذا اقتصادي، وهذا سياسي، ولو دقق الإنسان لوجد أن هذه الجوانب جميعاً لا يمكن أن تنفصل على الإطلاق، فلا يمكن أن نفصل بين دين الإنسان وبين أخلاقه -كما هو الحال في الغرب- أو بين أخلاقه واقتصاده، فالذي يتعامل بالربا من جهة لا يقول: أتحلى بالأخلاق من جهة أخرى، لا يمكن أن نفصل بين السياسة والأخلاق وبين الدين!
    ولكن الإنسان الغربي، تعود الفصل بين الأنا والعالم، بين الله والإنسان، بين الإنسان والطبيعة والعالم، بين الرجل والمرأة، صراع فاصل كبير وعنيف، صراع بين ما للقيصر وما للبابا، فالحياة الغربية تقوم على التناقضات والصراعات.
    أما دين الإسلام فهو دين التوحيد، تتجه النفس الإنسانية اتجاهاً واحداً، ومستمداً من شرعٍ واحد، كما ذكر الله تعالى: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ))[الجاثية:18] قال: أهواء؛ لأنها مختلفة، وقال أيضًا: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ))[الأنعام:153] أي: صراط واحد، وأهواء مختلفة، وأرباب متشاكسون متناحرون على هذا الإنسان، ماذا كانت النتيجة لهذا الإنسان؟
  2. من نتائج الانحراف في التربية

    ظهرت مدارس اليأس والقنوط نتيجة هذه التربويات والنظريات، فـالوجودية -كما عبر عنها سارتر أو ألبير كاميو وأمثالهم- يقولون: ''لا حل إلا اليأس'' أي: اليأس من الوصول إلى المعرفة، اليأس من أن الإنسان يعرف الحكمة من وجوده أو من أين جاء؟
    أو إلى أين يذهب؟
    لأنهم قالوا: لا يمكن أن تصل الإنسانية إلى معرفة هذه الحقائق، فخير لنا أن نريح أنفسنا من هذا، وأن نعيش الحياة العبثية.
    وهذا ما قرره كانون -الفيلسوف الفرنسي الشهير- بقوله: ''لو كنت شجرة بين الأشجار أو قطاً بين الحيوان لكان لهذه الحياة معنى، أو على الأصح لما كانت المشكلة مطروحة -لم تكن عنده مشكلة في: من أنا؟
    وإلى أين أذهب؟-
    لأنني أكون منتمياً إلى هذا العالم الذي أقادمه الآن بكل إدراكي'' .
    فالصراع سببه الضلال عن الهدى، ونحن نذكر قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أحد جبل يحبنا ونحبه} جبل! سبحان الله! بل نحن نعلم أن كل هذه الموجودات تسبح الله، كما قال تعالى: ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ))[الإسراء:44].
    فالمسلم عندما يصلي، ويذكر الله وهو خالٍ في طريق، أو يتأمل وهو يسير، ثم يتذكر هذه النجوم والشمس، والكون كله يسبح الله، لاشك أنه لا يشعر بعداوة مع الموجودات؛ لأن الكل يعبد الله ويسبحه، ولكن كلٌ على طريقته، والله قد علم صلاته وتسبيحه.
    أما أولئك فيقول أحدهم: ''إن هذا العقل السخيف هو ما يجعلني متضاداً مع كل الموجودات'' سبحان الله! بل أوردوا على اليأس أدلة ليصححوا نظريتهم الجديدة، فقد قال الفيلسوف فريدرك نيتشه: ''إن الفلسفة الحديثة بكاملها تنحصر في نظرية عن المعرفة، وهي فلسفة لا تستطيع أن تتخطى عتبة ذاتها، وقد حرصت كل الحرص على إنكار حقها في الدخول، هذه بالتأكيد فلسفة تلفظ أنفاسها الأخيرة، إنها نهاية واحتضار، وشيء يثير الشفقة'' يقول: الآن الحضارة والفلسفة مفلسة، فليس لديهم أي شيء، لا قيمة ثابتة ولا معيار صحيح.
    ثم يقول الكاتبان: ''إذاً: فكسوف العالم في الفلسفة المعاصرة كسوفٌ كاملٌ ومطلق، إن البذرة شديدة الضآلة، البريئة في الظاهرة التي زرعها بيكون وجاليليو في القرن السابع عشر، قد استغرقت نيفاً وثلاثمائة عام لتثمر في عصرنا هذا ثمرة اليأس الفكرية المرة والعدمية، وانفصام الإنسان عن العالم'' أي: فبعد ثلاثمائة سنة من تركهم للدين، وقولهم إننا نسير على مقتضى العلم كانت الثمرة هي اليأس الفكري، والعدمية، وانفصام الإنسان عن العالم يقول: ''هذه هي المحصلة النهائية للفلسفة في إطار النظرة القديمة، وهذا يستتبع بالضرورة أنه إذا كنا لا نستطيع أن نعرف شيء عن العالم، فسنون أيضاً قد خسرنا العلم''.
    فبعد جهد ثلاثمائة سنة، يتضح لهم أن حقائقهم ومعرفتهم بالعالم والإنسان صفر! فقد خسروا العالم وخسروا العلم، وصدق الله إذ يقول: ((وَالْعَصْرِ * إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))[العصر:1-3]، وهؤلاء هم الذين ليسوا بخاسرين، فحصيلة أكثر من ثلاثمائة سنة من التجربة، والنظريات، والكد الذهني في الجانب الإنساني، لو أنها كانت على إيمان ودين؛ لأعطت البشرية علوماً عظيمة، وأنجزت لها إنجازات، وأرباحاً هائلة، ولم تكن هذه الخسارة التي يعترفون بها الآن.
    لكنَّ العجب ممن يتبع الخاسرين!
    وممن يعيش في النور ثم يتبع السائرين في الظلمات!
    من الذي ينتمون إلى هذه الأمة العظيمة المجتباة المصطفاة، التي أورثها الله تعالى الكتاب والحكمة ثم يعيشون في ركاب هؤلاء المخدوعين، والتائهين، والحيارى!
  3. الحكمة بمفهومها العام

    إذا عدنا إلى بداية الكلام وتطرقنا إلى معنى كلمة الحكمة التي آتاها الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الآيات السابقة لعرفنا أن السلف فسرها بالسنة -وهي حق- والسنة كلها حكمة، ولكن أيضاً نلحظ أو نلمح معنى آخر لا يتعارض مع ذلك، وهي أن ما يسميه الغرب فلسفة ومنه اشتقت كل النظريات التربوية، والاجتماعية، والنفسية، يسميها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حكمة، لأن الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء ابتدأ آيات عظيمة بقوله: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً))[الإسراء:23]، ثم استمرت الآيات تتحدث -بعد الكلام عن الوالدين- عن الإحسان إلى الأقربين، وعن ترك التبذير، وعن الاقتصاد في النفقة، وعدم قتل الأولاد، وعن ترك الزنى، والقتل، والتحذير من هذه الجرائم البشعة، وعدم أكل مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وعن الوفاء بالكيل والميزان والعهود، ونـهى الإنسان عن أن يقول ما لا يعلم، ونهاه عن الكبر ثم قال بعد ذلك كله: ((ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ))[الإسراء:39] ثم عقَّب بقوله: ((وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً))[الإسراء:39] فأول شيء بدأت به الحكمة هو التوحيد بقوله تعالى: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ)) [الإسراء:23].
    وآخر وصية ختمت بها الحكمة التوحيد في قوله تعالى: ((وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ)) [الإسراء:39] فالتوحيد أساس كل حكمة، وأساس الحكمة العملية الحقيقية هي هذه الوصايا، هي ترك ما حرم الله من: الزنى، والقتل، والإسراف، والتبذير، والإفساد، واقتفاء ما ليس للإنسان به علم، والاستقامة على أمر الله ودينه، ثم القيام بالإحسان إلى الوالدين وإلى الأقربين، والاقتصاد في النفقة، هذه هي الحكمة القرآنية، والحكمة الحقيقية، وهذه هي التي بعث الله بها محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومرجعها في أول الأمر وفي آخره إلى التوحيد، إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، فلنكن -إن شاء الله- جميعاً موحدين مؤمنين، في أي علمٍ ومجال وميدان، أياً كانت المسميات: اقتصاداً أو سياسة أو اجتماعاً، أو أموراً عسكرية، أو داخلية، أو علاقات أسرية، أو اجتماعية- أياً كانت يجب أن نكون موحدين مستمدين كل المعايير والقيم والأحكام من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه هي حقيقة التوحيد.
    أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلني وإياكم من المؤمنين الموحدين، وأن يمنَّ علينا بفضله وجوده وكرمه، إنه سميعٌ مجيب.