السؤال: بمناسبة الأحداث المؤلمة في الخليج من جراء الاعتداء الغاشم من نظام العراق الظالم على الكويت صدرت من هيئة كبار العلماء فتوى شرعية حول هذا الموضوع، أرجو منكم مزيد إيضاحٍ لذلكم؟
الجواب: الحمد لله، لا شك أن الهيئة قد أصدرت بياناً وقد أوضحه العلماء أنفسهم في بيانات ومحاضرات لاحقة بما لا يحتاج إلى أن أوضح، أنا تلميذهم إن صح أو استحققت أن أكون تلميذاً لهم، وأحب أن أقول في هذه المناسبة، وقد قلت في هذا المكان وفي هذا المسجد نفسه في شهر ذي القعدة عبارة، وكنت أقولها دائماً وما زلت أقولها، وهي حقيقة أو قاعدة أخذتها ولمستها والحمد لله من خلال معايشتي لهم وقربي منهم، واطلاعي على أحوالهم وعلى سيرهم مع اطلاعي على سير السلف الصالح، أقول: إن هؤلاء العلماء الربانيين بقية من السلف، ادخرهم الله عز وجل في هذا الزمان لنا نحن الخلف بفضل من الله وبنعمة من الله عز وجل..!
علماؤنا والحمد لله لا نظير لهم في علماء الأرض قاطبة! أما المنهج فهو منهج السلف الصالح، كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا ينازع في ذلك أحد والحمد لله، دليلهم دائماً كتاب الله والسنة الصحيحة وإجماع العلماء والقياس الصحيح.
وبذلك أنعم الله عز وجل على هذه البلاد بالذات بوحدة منهجية فكرية لا نظير لها في البلاد الأخرى، فمناهجنا وكتبنا وما يقال من أحاديث أو مواعظ أو دروس مسموعة أو مقروءة، وما يؤلف وما يصدر، كله محكومٌ بهذا المنهج الذي سنه وبينه لنا هؤلاء العلماء جزاهم الله عنا خير الجزاء.
فنحن لا عقيدة لنا إلا عقيدة السلف الصالح، ولا منهج لنا إلا منهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال، وهؤلاء العلماء جلَّوا ذلك وأظهروه وأنتم تعلمون أنهم من تجردهم وإخلاصهم وفضلهم أنهم لا ينتسبون انتساباً مذهبياً، وإنما دائماً يفتون الناس بما يعتقدون صحته من الأدلة، هذه نعمة، وهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على هؤلاء العلماء الأجلاء، ولا سيما سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، الذي لا يخفى على أحد فضله وعلمه وجهاده، بل من عايشه عن قرب ومن رأى سيرته، فإنه والله -كما كنت أستشعر ومنذ أن سمعت عنه- وتحب أن تراه ولو رؤية، وأن يتاح لك الفرصة أن تقبل رأسه، ولا أظن أحداً من طلاب العلم إلا وهو يشاطرني ويشاركني هذا الشعور والحمد لله.
جاءت هذه النازلة وجاء هذا الخطب الجلل، فكان الأمر كما سمعتم وكما رأيتم بما لا يحتاج إلى مزيد من الإيضاح والتفصيل، وأصدروا ذلك البيان، وضمنوه الأدلة.
وأدلة الشرع على نوعين: إما أدلة كلية (قواعد كلية)، وإما أدلة تفصيلية، فهم جاؤنا بالأدلة الكلية القطعية على أن الاستعانة بالكفار ضرورة، لأن اتخاذ الإجراءات والاحتياطات في البلاد واجب على ولي الأمر؛ وذلك ضرورة من جهة، ولأن قواعد الشرع تدل عليه.. هذا موجز ما استدلوا به الضرورة والقواعد الشرعية العامة.
وهذه لا ينازع فيها أحد, لأن الأدلة الكلية أقوى من الأدلة التفصيلية كما لا يخفى على أي إنسان من الإخوة؛ فالأدلة الكلية إنما جاءت وبنيت بناءً على استقراء نصوص وأدلة تفصيلية جزئية، اجتمعت فكونت قاعدةً كلية، فقاعدة الضرورة دلت عليها الآيات, ودلت عليها الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذاً قاعدة الضرورة كلية، وكذلك القواعد الكلية في حفظ الدين والمال والعرض والنفس إلى آخر هذه الضروريات أيضاً دلت عليها أدلة كلية.
وأقول: هذا الاستدلال صحيح، ولا شك فيه، وإن كان لي نقاش ممن استدلوا بأدلة تفصيلية قد يظنون، أو اجتهدوا ظناً منهم أنها زيادة على ما قال العلماء، فأحببت أن أقول: ما استدل به العلماء هو الصحيح، وأما هذه الأدلة الأخرى, فلسنا بحاجة إليها أصلاً لما أسلفت حتى وإن صحت، لأن القواعد الكلية إنما تبنى على أدلة صحيحة صريحة، أما الأدلة التفصيلية فقد يكون فيها ما هو صحيح وغير صحيح، وقد يكون الصحيح منها غير صريح، فهذا يضعف القضية التي نريد أن نستدل عليها.. هذا من جهة.
من جهة أخرى أنا تلمست حكمةً أيضاً في اقتصار العلماء على هذه الأدلة الكلية؛ لأن بعض ما ذكر من الأدلة التفصيلية لا شك في سلامة نية قائليها ولا ريب، لكن نحن أمام أعداء مجرمين، ولديهم إعلام -كما ترون- شديد وهو مسلط على هذه الأمة، ليهدم هذا البلد بكل فئاته وبكل قطاعاته، فإذا قال أحد: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعان باليهود أو غزا معه يهود، جاء المجرمون، وقالوا: إن هؤلاء يريدون أن يستعينوا بإسرائيل علينا، هذا كذب وإفك كما تعلمون، مع أن ذلك الدليل لا يوصل إلى المطلوب.
ثم أصدر سماحة الشيخ بياناً مطولاً وسمعتموه جميعاً، وكنت أرجوه، وهو بيان واجبنا نحن أيضاً، وبيان أن خطر الذنوب والمعاصي هو السبب، وأننا يجب أن نتقي الله, وأن نقلع عن الذنوب والمعاصي، وأن نصلح أحوالنا، وأن نبتعد عن كل ما حرم الله مما تعلمون جميعاً؛ لينصرنا الله.. ثم تلا ذلك فضيلة الشيخ الكريم الشيخ محمد بن صالح العثيمين بمحاضرة في الرياض, وفي الطائف وفي جدة، فزاد الأمر إيضاحاً وتفصيلاً، وبين ما بيّن في مثل هذه الليلة من الأسبوع الماضي وحضرتم والحمد لله، وقال: إن الضرورة تقدر بقدرها زماناً ومكانا، وكماً وكيفاً، فالحمد لله فقد وضحوا، فجزاهم الله وأثابهم عنا كل خير، وضحوا التوضيح الذي لا حاجة بعده لإيضاح أو لمزيدٍ من كلام...، فهذه فتواهم وهذا منهجهم وهذا قولهم والحمد لله تحروا فيه الحق وأصابوه والحمد لله.
مع أن الإنسان إذا اجتهد فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران، وهذا اجتهاد العلماء, وطلاب العلم يعلمون أن المسائل وخاصة ما كان مختلفاً فيه منها -وهذه مسألة مختلف فيها- هذه مسائل اجتهادية، حتى سماحة الشيخ عبد العزيز أثابه الله في كتابه نقد القومية العربية ذكر كلاماً طويلاً لعلكم تقرؤونه في منع الاستعانة مطلقاً، لكن الآن لما رأى الضرورة، قال: نعم للضرورة.
فإذا قدرت الضرورة بقدرها زماناً ومكاناً، وكماً وكيفاً, وحصل ما يجب علينا نحن من التوبة والإنابة والتضرع والاستقامة, فإننا بإذن الله نكون قد حققنا إن شاء الله تعالى السبب الذي أمرنا الله أن نأخذ به من أسباب النصر، فمن الناحية العلمية والناحية الفقهية: الفتوى صحيحة, وهي حق ولا غبار عليها بأي حال من الأحوال.
ويبقى علينا نحن أن نلتزم بما ذكره العلماء, من واجب إصلاح الأحوال والأوضاع والأخذ بالأسباب المعنوية والمادية؛ بأن ننال نصر الله، ويكون أمن هذا البلد وحمايته هي مسؤولية أبنائه كما نقول ونردد دائماً، هذا هو الذي يجب علينا أن نسعى إليه وأن نجتهد فيه.
وعلينا جميعاً أن نتقي الله في لحوم العلماء، وألا نتكلم فيهم، وألا ننسب ما يقع من أخطاء إليهم؛ فإن العلماء جزاهم الله خيراً يتحملون ما لا تطيق الجبال حمله، والمسؤولية عامة ومشتركة, وكثير من الذنوب والمعاصي والمنكرات سببه تقصيرنا نحن طلبة العلم وضعفنا نحن طلبة العلم والدعاة والأئمة والمدرسين، أما العالم فماذا باستطاعته أن يفعل؟
ثم لنتق الله فلا نأخذ من فتاواهم ما نريد، ونترك ما نريد! هذه مشكلتنا نحن أمة الإسلام، فإن الواحد منا إذا احتاج الشيخ في فتوى للطلاق أو للزواج أو لأمر من الأمور ذهب إليه، وسأله وقبله وقال يا شيخ أريد كذا وكذا، لكن أن يأتي الشيخ فيعظه، أو يوجه له نصيحة, أو يقدم له موعظة فمنا من يعمل بها, ومنا من لا يعمل، سبحان الله إذا احتجناهم فقط نأخذ بأقوالهم!!
يجب كما سلمنا لهم بالإمامة العلمية في صحة المنهج وبسلامته أن نأخذ كل نصحائهم وكل توجيهاتهم ونضعها موضع الاعتبار, موضع التنفيذ, وندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحفظهم وأن يمتعنا بحياتهم, وأن يجعلنا نحن طلاب العلم بالذات طلاب حق لهم، لنرثهم ونرث علمهم كما أننا سنرث واجبهم، وقد تأتي المواقف، فتسألنا الأجيال عنها وتسألنا الأمة عنها.. ونكون نحن في موقعهم فلعلنا لا نستطيع أن نقف كما وقفوا، ولا أن نقول كما قالوا، نعوذ بالله من الفتن.
ربما يأتي يوم ولا نكون نحن أجرأ ولا أقول للحق منهم نعوذ بالله من الفتن! نسأل الله أن يثيبهم, وأن يجزيهم خير الجزاء، وأن ينفعنا بعلمهم، وأن يبارك فيهم، وأن يجعلنا جميعاً والأمة جميعاً عوناً لهم على إقامة دين الله عز وجل, امتثالاً للعمل الذي يقومون به والذي يصدعون به.