المادة    
التقوى سببٌ للهداية وللفرقان وللاستقامة على دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىكما أمر الله، ولو أننا استعرضنا حال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحال الصحابة الكرام الذين كانوا خير المتقين لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لوجدنا من آثار وثمرات التقوى وبركاتها عليهم العجب العجاب.
كيف كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من العبادة لله ومن الطاعة ومن الخشية.. من يستطيع أن يحصي أعمال وفضائل ذلك الجيل المؤمن الذي كانت سمته العظمى وميزته هي التقوى؟! تقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في السر والعلن امتثالاً لوصية الله التي أوصى الله تبارك وتعالى بها الأولين والآخرين، وأوصى بها الأمم قبلنا، ولكن حظ هذه الأمة من كل خير هو أوفر الحظ وأعظم النصيب.
يقول عز وجل: ((وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ))[النساء:131] فهذه الأمة حظها من التقوى كان أعظم الحظ والحمد لله، اتَّقَوُا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سرهم وعلنهم وفي الرخاء والشدة؛ فكانت لهم الهداية، كانوا أهدى جيل وأقوم قرن عرفته الدنيا جميعاً!
انظروا إلى أحوالهم كيف كانوا، لأنهم كانوا يعيشون تقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.. الرجل منهم يخلو بالمرأة فتدفعه شهوته وشيطانه إلى أن يفعل بها دون الجماع، ولكن سرعان ما يفيق ويأتي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقول: {يا رسول الله إني خلوت بامرأة فكان كذا وكذا، فطهرني يا رسول الله، قد أتيت حداً من حدود الله}، والآخر الذي وقع في الفاحشة والأخرى من الصحابة رضوان الله عليهم يصرون على أن يطهرهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها.
أما الآخرون فلم يخطر لهم ببال، المقربون المحسنون السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، لم تخطر لهم هذه الفواحش ببال، لكن من ارتكبها وهم من عامة ذلك الجيل المبارك الطيب جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريدون أن يطهرهم من هذا الدنس، ومن هذا الرجس.
يختارون عذاب الدنيا على عذاب الآخرة؛ لأن التقوى تحجزهم وتمنعهم أن يقعوا، فإذ قد وقعوا فإن التقوى تعيدهم إلى رشدهم وإلى صوابهم ((تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ))[الأعراف:201] فيأتون إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريدون التطهير، ولو أنهم تابوا فيما بينهم وبين الله لتقبل الله -تبارك وتعالى- توبتهم كما وعد الله تعالى عباده المتقين، ولكن هؤلاء قومٌ آثروا ذلك؛ لأن الجيل تربى التربية الحقة التي جعلت التقوى هي الأساس الذي تبنى عليه الأمة.
علموا أن الله ولي المتقين كما أخبر، أن الله يحب المتقين، وعلموا أن العاقبة للمتقين، فكل ذلك قرءوه في كتاب الله، فكانوا متقين لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فأورثهم الله عز وجل ما أورثهم من خير الدنيا والآخرة، من النصر على الأعداء والتأييد والتوفيق، ومن البركة في الأعمار، ومن الإيمان والطمأنينة والسكينة.
أورثهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ملك كسرى وقيصر بعد أن غزوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبع سنين يأكلون الجراد، بعد أن غزوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم حفاة لا يجد أحدهم حذاءً تقي قدمه من حرارة ووهج الرمضاء.
بعد أن حوصروا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الشعب، حتى أكلوا الجعلان وأكلوا بعض الحشرات، وكانوا كما قال سعد: [[ إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ]] بعد أن لاقوا ذلك كله وهم على تقوى الله وعلى الاستقامة على أمر الله.
إذا أخطأ أحدهم خطيئة أو ارتكب ذنباً، حسب أنه جبلٌ كما علمهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كأن ذنبه جبل عظيم يكاد أن يقع عليه.
ولذلك كان لهم ما أورثهم الله من المجد والتمكين، ومن العزة في الأرض؛ لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كتب ذلك كله لعباده المتقين، وتقبل الله تبارك وتعالى منهم أعمالهم ((إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ))[المائدة:27].
وكان حالهم كما قال الحسن البصري رضي الله عنه: [[ ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولا صدقة ولكن بشيء وقر هاهنا ]] شيء وقر في قلبه.
أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كانوا في عبادتهم الظاهرة في القيام أو في القراءة بأكثر من بعض التابعين، فما نقل وما هو موجود في التراجم والسير من عبادة بعض التابعين أكثر من عبادة أولئك السابقين، ولكن لأن الإيمان والتقوى التي في القلوب أعظم، لأن صحبتهم لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلتهم في تلك المنزلة من الفضل، فسبقوا سبقاً بعيداً، لم يبلغه من قبلهم ولم يلحقهم فيه من بعدهم، وهذا من فضل الله -تبارك وتعالى- عليهم.
علموا أنه بالتقوى وبالصبر يغلب الأعداء ويهزمون، كما ذكر الله تبارك وتعالى: ((وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً))[آل عمران:120] علموا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينصر عباده وأولياءه، مهما قلَّ العدد ومهما قلت العدة، فلذلك اتقوا الله عز وجل فيما تولوا من الأمور، وفي حياتهم الخاصة كانوا رهباناً بالليل فرساناً بالنهار.
يقول أبو عثمان النهدي تلميذ أبي هريرة -رضي الله عنهم- أجمعين: [[ما كان بيت أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ينام أبداًَ، كان أبو هريرة يقوم ثلثه، وامرأته الثلث الثاني، والجارية الثلث الآخر]] ما كان البيت يهدأ.
ولذلك انظروا آثار هذه التقوى، نفع الله بعلمهم، فأصبح هذا يقرأ ويحفظ ويتلى إلى قيام الساعة، ولهم من الأجور مثل أجور من اتبعهم في هذا العلم {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، ومنها: علم ينتفع به}، فنفع الله بعلومهم، فلهم ذلك الأجر، وذلك لما اتقوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ولاياتهم، وحدِّث من ذلك العجب العجاب.
كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو من أئمة المتقين، وساداتهم ماشياً ذات يوم في سوق المدينة في سوق الإبل، فوجد الناس يريدون أن يبيعوا الإبل، ووجد إبلاً سماناً أكثر من غيرها، فسأل: لمن هذه؟ قالوا: لـعبد الله بن عمر، فدعاه فقال: يا عبد الله أنى لك هذا؟! ما لي أرى إبلك أسمن من إبل غيرك من المسلمين، قال: والله يا أمير المؤمنين إنها لإبلي اشتريتها من مالي، وكلفت بها راعياً يرعاها مع المسلمين، فقال: أما إني لا أكذبك، صدقت -ولن يكذب رضي الله عنه- ولكن كانت إذا وردت الحمى قيل: افسحوا لإبل ابن أمير المؤمنين, وإذا دنت إلى الماء قيل افسحوا لإبل ابن أمير المؤمنين، وهكذا استأثرت إبلك بشيءٍ عن بقية المسلمين، كم رأس مالها؟ قال: كذا، فدفع له رأس المال، وباعها وجعل الزيادة في بيت مال المسلمين.
نعم، كانوا يتقون الله عز وجل في أكل المال فلم يدخل بطن أحدهم شيء حرمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، عندما أنزل الله عز وجل تحريم الخمر وقال: ((فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ))[المائدة:91] قالوا انتهينا انتهينا ربنا، هكذا قالوا بفم واحد، وجرت المدينة كالأنهار من الخمور أهرقوها وأراقوها ولم يبق منها شيء من دون رقابة من غير تفتيش، أو أجهزة تلاحقهم، هم أنفسهم عرفوا أن ذلك ينافي التقوى فأزالوها وأبعدوها، لأنهم يتقون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولأنهم يخافون الله عز وجل.
كانوا في حروبهم ومعاركهم يعلمون أن النصر للمتقين وأنه لن يؤخر نصر الله إلا الذنوب، ولذلك كانوا يتفقدون أنفسهم إذا أبطأ عليهم حصن أو مدينة أو بلد لم يفتح، لا بد أن خللاً ما حدث في التقوى كت أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه إلى سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- وهم في مواجهة الفرس أعتى وأقوى أمة في ذلك الزمان فقال: [[يا سعد أوصيك ومن معك من الجند بتقوى الله -عز وجل-، فإن تقوى الله هي أعظم العدة على العدو، وإنما يُنصر المسلمون بتقواهم لله وبمعصية عدوهم له، فإذا استوينا نحن وهم في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة]] نعم، علموا ذلك ولهذا كانوا من المتقين، لم يكن فيهم من يغل من الغنائم، لم يكن فيهم من يخون، بل كانوا يتحرون ذلك أشد التحري، ويجتهدون أشد الاجتهاد، ألا يكون فيهم من هو مقصر أو مذنب أو مجرم، فإذا ضمنوا هذه الجبهة الداخلية ضمنوا أن الجيش كله على تقوى الله وتقدموا وهم واثقون من نصر الله الذي وعد به عباده المتقين، فتكون الغلبة لهم ويكون النصر لهم بإذن الله عز وجل.
وإذا بأولئك الذين كانوا حفاة عراة، الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق، الذين هاجروا إلى الله ورسوله لا يملكون شيئاً، الذين شروا أنفسهم في سبيل الله - عز وجل - وكانوا يعيشون على الكفاف، ولا يكاد أحدهم يجد ما يأكله من الطعام، وإذا بهم كما قال عتبة بن غزوان -رضي الله عنه: [[وإذا بنا اليوم ما منا إلا من هو أمير على مصر من الأمصار]] الله أكبر! بعد أن كانوا قليلاً مستضعفين في الأرض، يخافون أن يتخطفهم الناس، أصبح كل منهم أميراً على مصر من الأمصار، أقطعهم الله عز وجل وأورثهم كنوز كسرى وقيصر ومملكتيهما وما حوتا وما شادوا وما جمعوا وما بنوا، كل ذلك لأنهم أولياء الله، والله ولي المتقين.
اتقوا الله فجعلهم الله تبارك وتعالى أولياءه ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[يونس:62-63] فبالإيمان والتقوى تنال الأمة أو الفرد أو القائد أو الطالب أو العالم وكل إنسان ينال النصر وينال التمكين وينال الرزق، نعم، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وإن الرجل إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه} ولهذا قال الله عز وجل: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ))[الطلاق:2-3] يأتيه رزقه من حيث لا يأمل ولا يرجو بتقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا أذنب أو أجرم أو عصى فإنه يحرم الرزق.
وكذلك يحرم العلم, كما أثر عن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: [[إن الرجل لينسى المسألة من العلم للخطيئة يرتكبها]] سبحان الله! كيف كان هذا الجيل، كيف كان أولئك السادة ينظرون بنور الله، فحققوا ولاية الله، وحققوا محبة الله، فنصرهم الله عز وجل, ومكن لهم في العالمين.