المادة كاملة    
ما زال الحديث في هذا الدرس عن مسألة الاحتجاج بالقدر على المعاصي، والرد على المخالفين، مع بيان أن الاحتجاج بالقدر يكون على المصائب والآلام، ولا يجوز الاحتجاج به على المعائب والآثام، بل تجب التوبة منها ويلام فاعلها. ثم انتقل الشرح لبيان مسأله الكسب، ومسألة الهدى والضلال، وهل يجب فعل الأصلح على الله تعالى، مع توضيح وذكر مذاهب الناس في هذه المسائل، وكذلك مذهب أهل السنة والجماعة، مع دعمه بالأدلة والبراهين.
  1. إثبات المشيئة لا يستلزم الاحتجاج بالقدر على المعاصي

     المرفق    
    إن إثبات المشيئة الكاملة النافذة لله تَعَالَى التي ذكرها المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- لا يعني أن يحتج المحتجون من العصاة والفجار بالقدر فيفعل أحدهم الذنب ويقول: إن الله قدره علي، وهذا الإثبات رد عَلَى الذين ينكرون القدر بحجة إنكار الله عَلَى من يحتج بالقدر، فإن الله أنكر عَلَى الذين يحتجون بالقدر بقوله: ((وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ)) [الزخرف:20] وقوله: ((لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا)) [الأنعام:148] فأنكر عليهم هذا.
    فقال الذين ينكرون القدر: إذاً فليس لله مشيئة لأن الكفار والْمُشْرِكِينَ احتجوا بالمشيئة، والله تَعَالَى قد أنكر عليهم هذا القول، فعلى هذا فالله ينكر عَلَى من يثبت المشيئة، وقولهم هذا غير صحيح.

    فالله ينكر عَلَى من يحتج بالمشيئة عَلَى الرضا، فإن الله شاء أن يكفر الكفار بدليل أن الكفر واقع منهم، فيوجد في الأرض كفار، وهذا الذي نراه في الكون عليكم أن تؤمنوا أن الله شاءه وقدره، وإلا أن تقولوا: إن الله يقع في ملكه وكونه ما لا يشاؤه، فيلزمكم أن تقولوا أحد الأمرين إما: أن العبد يعمل مالم يشاؤه الله ولم يأذن به وهذا لا يقول به مسلم، وإما أن تؤمنوا بالقدر، وقد سبق شرح الآيات التي في الأنعام والزخرف والنحل في موضوع القدر مثل قوله تعالى: ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا))[الأنعام:148] وقوله: ((وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا)) [النحل:35].
    وقوله: ((وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ))[الزخرف:20] بالأوجه التي ذكرها المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، والتي من أجلها ومن أوضحها أن الكفار احتجوا بأن الله تَعَالَى لو شاء ما عبدوا هذه الأصنام وعليه فعبادة الأصنام هذه حق والله تَعَالَى راضٍ، بها
    وأيضاً فدعوى الأَنْبِيَاء مردودة عندما قالوا: ((يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) [الأعراف:59] كيف ذلك؟
    قال المُشْرِكُونَ للأنبياء: لو أن الله لا يرضى منا أن نعبد الأصنام لما شاء ذلك، وما دام أنه قد شاء وقد وقع منا الشرك فهو راضٍ به، فنحن نرد كلامكم ولا نقبل دعواكم. وهذه هي شبهة الْمُشْرِكِينَ قديماً كما قال تعالى: ((كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ))[النحل:35]، أي: أن تكذيب الْمُشْرِكِينَ للنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سبقهم أمم من قبل ذلك في تكذيب غيره من الأَنْبِيَاء ولذلك رد الله تَعَالَى عليهم فقَالَ: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)) [النحل:36] فلو كَانَ هذا مما يرضى الله به لما بعث الرسل ينكرون وأيدهم بالحجج والبينات الظاهرة التي تقطع كل دعوى ومنها هذه الشبهة. ولهذا قال تعالى: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)) [النحل:36] فجعل الله تَعَالَى الهداية فضلاً منهفقَالَ: ((فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ)) فهذا توفيق من الله وفضل ونعمة منه تعالى، وأما الضلال فَقَالَ فيه: ((وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)) فهذا من فعلهم فهم أعرضوا عن الحق فلم يوفقهم للإيمان عدلاً منه تعالىوهذا ما سيأتينا عند قول الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: [وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله] فنحن في كل الأمور نتقلب بين فضل الله وعدله.
    1. تعذيب الله لعباده بسبب ذنوبهم ليس فيه ظلم لهم

      أما الظلم فإن الله لا يظلم أحداً كما قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً)) [النساء:40] لأن الله تَعَالَى غني عن العالمين فما الذي يدفعه إِلَى ظلمهم وهو غني عنهم -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهو الذي يقول كما أخبر عن نفسه في الحديث القدسي: {يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا عَلَى اتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً}.
      فلماذا يظلمهم؟ وهو الغني وهم فقراء إليه، وهو القادر عليهم في كل حال، وهم الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة أمام قدرته -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وهو الذي خلقهم ومَنَّ عليهم وأسبغَ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، ولو شاء لما خلقهم ولما أوجدهم، فمهما فكَّر الإِنسَان بنظره وبعقله فإنه يجد أن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- غير محتاج إِلَى أن يظلم العباد وأنه تَعَالَى بريء من الظلم إذاً: فالبشرية يتقلبون بين فضل الله وعدله
      أما الذين يحتجون بالقدر فهذا من باب اتهام الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أنه ظالم للعبد، بمعنى: أن الله تَعَالَى يقدر عَلَى العبد الذنب ويرغمه عليه ثُمَّ يحاسبه عليه فلا خيار للعبد في هذا الفعل ولا إرادة له وهذا ظلم قبيح لا يليق بأي مخلوق فكيف يليق بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى؟
    2. أقسام الناس في القدر

      لقد ضل النَّاس في القدر عَلَى فرقتين الجبرية والقدرية، فـالقدرية ابتدأ أصلهم من غيلان الدمشقي ومعبد الجهني وهَؤُلاءِ كانوا في أواخر عهد الصحابة -رضوان الله عليهم- في زمن التابعين، وأظهرا بدعة إنكار القدر ولهذا لما ظهر معبد الجهني وأنكر القدر بـالبصرة جَاءَ التابعي من البصرة فحدثه ابن عمر بالحديث عن أبيه عُمَر بما رآه من مجيء جبريل إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالكلام في القدر حدث من أيام التابعين، من معبد الجهني بـالبصرة ومن غيلان الدمشقي بـالشام، والجبر حدث بعد ذلك من الجهم بن صفوان المتوفي سنة 128هـ.
      ثُمَّ تطور كلٌ من المنهجين من مجرد فكرة بسيطة -ومجرد إنكار للقدر أو إثبات له- كما تتطور الأفكار عادة فتدخل فيها الحوارات والنقاشات والآراء ثُمَّ تتطور وتتسع دائرتها حتى تصبح ألغازاً وهذا ما وقع في باب القدر.
      فأصبح المعتزلة الذين ابتدأ أصلهم من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد الذين كانوا في مجلس الحسن البصري -رحمه الله تعالى- كانوا قدرية، وهم أنفسهم المعتزلة تعددت مآربهم ومشاربهم في أبحاث فرعية فرعوها عن باب إنكار القدر، وقد انقرض مسمى الجهمية ولكن ورث الجهم في مسألة الجبر أبو الحسن الأشعري الذي جَاءَ بنظرية الكسب وطلابه إِلَى الآن عَلَى ذلك، وهم أنفسهم عاجزون عن إيضاح هذه النظرية، ولهذا قال فيهم الشاعر:
      مما يُقال ولا حقيقة تحته            معقولة تدنو إِلَى الأفهام
      الكسب عند الأشعري والحال عند البهشـ             مي وطفرة النظام

      هذه ثلاثة أشياء عجزت العقول عن معرفتها، وعجز أصحابها عن شرحها وإيضاحها للناس.
  2. مذهب الكسب عند الأشعرية

     المرفق    
    إن حقيقة مذهب الكسب عند الأشعرية أنه يؤول كثيراً بهم الأمر إِلَى الجبر ولذلك يقول الخطيب البغدادي صاحب كتاب الفرق بين الفرق: وهو كثير ما يقول قال أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أو أجمع أهل السنة فلا بد أن ننتبه فهو لا يقصد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ إنما يقصد الكلابية والأشعرية.
    ومن ذلك عندما يقول مثلاً: "وأجمع أهل السنة عَلَى سكون الأرض "فلو أتى أحد وقَالَ: عندنا دليل عَلَى أن الأرض تدور، وهذا الموضوع لا يهمنا؛ لأنه لا يدخل في مباحث العقيدة والدين؛ ولكن عندما يأتي شخص وينسب هذا إِلَى أهل السنة فقد يتضح الأمر خلاف ذلك، أو قد يقول به أحد من أهل السنة فيقول المخالف لأهل السنة هذا الإجماع خطأ، والإشكال ليس في أن أهل السنة أجمعوا عَلَى هذا أولاً: الخطأ في أن البغدادي يقول أهل السنة ونحن نظن أنه يقول أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بينما هو يعني المتكلمين من الكلابية والأشعرية.
    ولذا نحذر من أمثال هذه الكتب واصطلاحتها.

    والبغدادي هو من أوضح من أراد أن يفسر نظرية الكسب وعلاقتها بالجبر أو القدر فقَالَ: إن فعل العبد مع الله مثلاً: لو أن رجلين يحملان حجراً كبيراً، وأحد الرجلين كبير والآخر صغير، والصغير لا يستطيع أن يحمل الحجر بمفرده لا بد أن يحمله معه الكبير، والكبير يستطيع أن يحمل الحجر بمفرده، فإذا تعاونا وحملا الحجر مع بعض، فإننا لا نكون مخطئين حينما نعاقب الصغير، لأنه أيضاً حمل الحجر وإن كَانَ وحده لا يستطيع حمل الحجر.
    فيشبه قدرة الله بقدرة الكبير وقدرة الصغير بقدرة العبد، والقدرتين تتعاون مع بعض في فعل الذنب، فإذا فعل أحد ذنباً فقدرة الله في نظره، كالرجل الكبير وقدرة العبد مثل الصغير، فإذا عاقب الله العبد لم يكن ظالماً، وهذا كما تلاحظون أقرب شيء إِلَى أن العبد مجبور؛ لأن الصغير مادام أنه لا يستطيع وحده أن يحمل أي شيء، وما دام أن الكبير هو وحده الذي حمل فاللوم والعقوبة تتوجه إِلَى الكبير هذا في حكم البشر، وهذا مما يدل عَلَى خطأ هَؤُلاءِ النَّاس وعلى أنهم لم يؤمنوا بالقدر مثل ما آمن به السلف الصالح وهذا الكلام جرّأ الذين ينكرون القدر بأن ينكروه ولا يؤمنوا به نهائياً.

    والحديث الذي سنذكره الآن من أعظم الأدلة التي احتج بها الأشعرية عَلَى مذهبهم، ولكن المعتزلة والقدرية تجرؤوا أيما تجرؤ، فأنكروا الحديث الذي هو حديث محاجة آدم وموسى عليهما السلام.
  3. دراسة حديث محاجة آدم وموسى عليهما السلام

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [فإن قيل: فما تقولون في احتجاج آدم عَلَى موسى عليهما السلام بالقدر إذ قال له أتلومني عَلَى أمر قد كتبه الله علي قبل أن أخلق بأربعين عاماً، وشهد النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن آدم حج موسى أي غلب عليه بالحجة، قيل: نتلقاه بالقبول والسمع والطاعة لصحته عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا نتلقاها بالرد والتكذيب لراويه، كما فعلت القدرية ولا بالتأويلات الباردة؛ بل الصحيح أن آدم لم يحتج بالقضاء والقدر عَلَى الذنب، وهو كَانَ أعلم بربه وذنبه؛ بل آحاد بنيه من المؤمنين لا يحتج بالقدر، فإنه باطل، وموسى عَلَيْهِ السَّلام كَانَ أعلم بأبيه وبذنبه من أن يلوم آدم عَلَى ذنب قد تاب منه وتاب الله عليه واجتباه وهداه، وإنما وقع اللوم عَلَى المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنة، فاحتج آدم بالقدر عَلَى المصيبة لا عَلَى الخطيئة، فإن القدر يحتج به عند المصائب لا عند المعايب، وهذا المعنى أحسن ما قيل في الحديث، فما قدر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضى بالله رباً، وأما الذنوب فليس للعبد أن يذنب وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب فيتوب من المعايب ويصبر عَلَى المصائب، قال تعالى: ((فَاصبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ))[غافر:55] وقال تعالى:((وَإِنْ تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً))[آل عمران:120]إهـ.
    الشرح:
    هذا الحديث ثابت وصحيح باتفاق الحفاظ وعلماء الحديث وقد رواه الإمام البُخَارِيّ- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في صحيحه ومن أشهر من رواه الإمام: أبو بكر بن خزيمة في كتاب التوحيد في باب إثبات اليد لله تعالى؛ لأنه ورد في أكثر روايته في قول آدم عَلَيْهِ السَّلام: {يا موسى أنت كليم الله وأنت نبي الله الذي كلمه الله من وراء حجاب وكتب له التوراة بيده}وذكر روايات كثيرة لهذا الحديث وكذلك ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح أنه روي من عشر طرق عن أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وكذلك رواه الإمام البُخَارِيّ في كتاب القدر، والمعروف عند علماء الحديث أنه إذا طعن أحد في صحة الحديث، أو تكلم في سنده أو متنه من واقع كونه عالماً من علماء السنة وعالماً من علماء الحديث، فإننا نقبل كلامه من حيث المبدأ ولا اعتراض عليه أن ينقض حديثاً ما، لكن علينا أن نتبين فقد يكون مخطئاً في الاعتراض.
    فنقول: تضعيف فلان للحديث خطأ هكذا يرد عليه علماء الحديث الآخرون، لكن هذا الحديث لم يضعفه أحد من علماء الحديث.
    فإن قيل ما الفرق بين تضعيف أحد علماء الحديث لحديث وبين رد أحد آخر غيره؟ نقول: الذي ليس من علماء الحديث؛ بل من المتكلمين ويرد الحديث ويقول: أنا أرده بالعقل كما قال بعضهم في حديث موسى مع ملك الموت لما لطمه: لا يمكن أن يصح، ولو رواه البُخَارِيّ في صحيحه، ولا يوجد عنده أي عذر في السند أو المتن؛ وهذا الرد والاعتراض والإنكار ليس مبني عَلَى علم وبصيرة بل عَلَى هوى، فالحديث إذاً ثابت وصحيح
    وأما ما فعلته الجبرية والقدرية فكما قال الإمام المقبلي صاحب كتاب العلم الشامخ في تفضيل الحق عَلَى الآباء والمشايخ وهو كتاب عظيم فيه فوائد عظيمة وفيه رد عَلَى المتكلمين وعلى الصوفية كـابن عربي وأمثاله، وإن كَانَ عليه بعض الملاحظات التي لا يخلوا منها بشر؛ لكنه كإنسان متحرر من التقليد يعتبر رجلاً مجدداً؛ لأنه عاش في القرن الثاني عشر الهجري، فيقول -وكلامه صحيح-: هذا الحديث قد أطال فيه الأشعرية جداً حتى كأنهم جعلوا آدم عَلَيْهِ السَّلام أشعرياً وموسى عَلَيْهِ السَّلام معتزلياً، فهَؤُلاءِ أخذوا بطرف وهَؤُلاءِ أخذوا بطرف وعجزوا عن فهم الأحاديث، حتى أن كثيراً من كتب علم الكلام وخاصة الكتب الأشعرية التي هي أكثرها انتشاراً إذا وصل مصنفوها إِلَى هذا الحديث قالوا: وهذا الحديث مشكل، فيستدلون به عَلَى مذهبهم ويردون به عَلَى المعتزلة بقول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأخير: {فحج آدم موسى} فهم يحتجون بالقدر ويثبتونه إِلَى حد أنه جبر، لكنهم يردون به عَلَى المعتزلة فإذا رجعوا إِلَى أنفسهم قالوا هذا الحديث مشكل، ومعناه غير مفهوم لنا؛ لكنهم لا يرضون أن يحتج به المعتزلة أما المعتزلة والقدرية فإنهم ينكرون الحديث.
    1. سبب ردّ القدرية حديث محاجة آدم وموسى عليهما السلام

      ومن أسباب رد القدرية لهذا الحديث هو قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر الحديث: {فحج آدم موسى} ولهذا فإن بعض المعتزلة قالوا: نَحْنُ لا ننكر الحديث لكن نقول: {فحج آدمَ موسى} يجعلون موسى هو الذي غلب آدم عَلَيْهِ السَّلام بالحجة، ويقولون: إننا عندما نعترض عَلَى الذين يقولون بالقدر معنا حق، لأنه قد سبقنا إِلَى ذلك موسى عَلَيْهِ السَّلام فنحن نعترض، ولذلك من حقنا إذا قال أحد: إن الله قدر كذا أن نقول له: أنت الذي فعلت ذلك، ولم يقدره وننكر القدر؛ لأن موسى عَلَيْهِ السَّلام قال لآدم عَلَيْهِ السَّلام: {أنت أبونا أخرجتنا من الجنة وخيبتنا وفعلت وفعلت} فلامه ولم يقبل منه الاحتجاج بالقدر ورواية {فحج آدم موسى} تعني: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سقط قال هذه الكلمة، فيجعلون الفاعل هو موسى، والمفعول هو آدم.
    2. الرد على من رد حديث المحاجة

      ويرد عليهم: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال كما في بعض الروايات (فحجه آدم) وهذا الحديث واضح لمن تأمله، وأن الذي غلب بالحجة هو آدم عَلَيْهِ السَّلام، فعلينا أن نأخذ روايات هذا الحديث ونتأمل معناه ونأخذ خلاصته ونرى هل هو مشكل إِلَى هذا الحد؟ أم أن الإشكال ورد عند الشبهات.
      فلو أن كل أحد جعل في نفسه قاعدة، وهي أنك تأخذ الحق من الكتاب والسنة، وكلما أتاك حديث آمنت به، ثُمَّ اطلعت عَلَى معناه إن لم تفهمه، أو تسأل أهل الذكر عن معناه حتى تفهمه، فإنك بذلك لا تجد أي إشكالٍ بإذن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ لأن هذا الدين لا تناقض فيه أبداً كما قال الله تعالى: ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً))[النساء:82] فهو من عند الله والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتكلم أيضاً من عند الله كما قال الله في نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى))[النجم:3، 4] فلا يمكن أن يكون هناك اختلاف أو تناقض.
      وإن أشكل شيء فإنما قد يشكل عَلَى عقول بعض النَّاس لكن لو ردوه إِلَى أهل العلم وأهل الذكر لزال هذا الإشكال، فأكثر روايات الحديث عَلَى كثرتها وكثرت ألفاظها فيها أنه {لقي موسى آدم عَلَيْهِ السَّلام}.
      ومن الممكن أن يقَالَ: أين لقي آدم موسى.
      يقول لبعض العلماء: إنه لم يلقه وإنما هذا سيكون إذا التقيا في الآخرة والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر عن شيء سيقع وهذا خلاف ظاهر الحديث.
      فما الذي يجعلنا نقول: إنه لم يلقه وإنما سوف يلقاه؟ بل نقول: لقيه وعادت الأرواح في الملأ الأعلى ونحن لا ندرك منه شيئاً إلا ما جاءنا عن الله وعن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكن عندنا علم أن الأرواح تتلاقى وتتزاور وتتخاطب وأن لها أموراً لا نعلمها عند الله تَعَالَى لا نعلمها وأكمل حياة برزخية هي للأنبياء، ولهذا فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قابلهما وقابل غيرهما من الأَنْبِيَاء ليلة أسري به إِلَى السماء، ودار بينهما هذا النقاش وهذه المحاجة عندما لقي موسى آدم.
      وهذا الحديث أيضاً فيه دليل عَلَى إثبات اليد لله تَعَالَى كما في آخره {وكتب لك التوراة بيده} في كلا القولين عَلَى هذه الرواية إثبات اليد لله تَعَالَى.
  4. عدم وجود حجة لمن يحتج بالقدر

     المرفق    
    ولا حجة لمن يحتج بالقدر عَلَى الإطلاق، لأن هناك شيئين: هناك ذنب أو معصية فعلها آدم -عَلَيْهِ السَّلام- وهي أنه أكل من الشجرة، وترتب عَلَى الأكل من الشجرة عقوبة ربانية من الله ليكون درساً لآدم وذريته، ألا يطيعوا الشيطان ولا يتبعوا سبيله وغيرها من الحكم الكثيرة، وهناك شيء آخر وهو: إخراج الله تَعَالَى آدم عَلَيْهِ السَّلام بأن قال له: أنت الذي أذنبت، وأنت الذي عصيت وأنت الذي أكلت من الشجرة؟ لا، فلم يكن اللوم متوجه إِلَى المعصية، ولو قلنا ذلك؛ لكان موسى لائماً بهذا، ولقال له آدم في الجواب: هذا ذنب قد غفره الله لي، فإذا غفر الله لعبد ذنباً لا يحق لأحد من المخلوقين أن يقول له: لماذا تخطئ وتذنب قد غفر الله لك، فإن الله هو الذي يحاسب العبد وليس للعبد أن يُحاسب عبداً هذه المحاسبة في ذنب قد غفر الله تَعَالَى له، فاتضح بهذا أن السؤال لم يكن هكذا ولكن قال أنت أخرجتنا وخبيتنا فكان جواب آدم عَلَيْهِ السَّلام لست أنا الذي أخرجتكم فآدم عَلَيْهِ السَّلام، ليس هو الذي أخرجنا وقد بكى الأعوام الطوال -كما يروى- {أن دموعه خطت خديه، ونزلت إِلَى الأرض} لأنه لما أنزل من النعيم الذي في الجنة إِلَى هذا التراب بكى وندم، فالإخراج ليس بإرادة آدم -عَلَيْهِ السَّلام- فلذلك احتج ورد عليه، قال له: {أتلومني عَلَى أمر قد كتبه الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة} فأنا ما خرجت ولا أخرجتكم هذا معنى كلام أبينا آدم عَلَيْهِ السَّلام لكن الإخراج والإنزال إِلَى الأرض كتبه الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة
    1. معنى التقدير قبل أربعين سنة

      وقد بحث بعض العلماء في معنى تقدير الله قبل أن يخلق آدم بأربعين سنة، قالوا: لماذا يقول آدم أربعين سنة مع أن الله قدر مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، والأظهر والله أعلم في معنى هذه الأربعين أنها الفترة التي لم يكن آدم فيها مذكوراً، كما جَاءَ في الحديث الصحيح في تفسير قوله تعالى: ((هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً)) [الإنسان:1] قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أربعون سنة} فيقول آدم منذ أن خلقني الله تَعَالَى من الطين قبل أن ينفخ فيَّ الروح كتب أنه ينزلني إِلَى الأرض.
      ويظهر أن هذا وقت الخطاب من الله للملائكة ((إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)) [البقرة:30] وهذا الكلام موجود في التوراة ولهذا قال آدم: يا موسى أتلومني عَلَى أمر تجده عندك في التوراة مكتوباً قبل أن أخلق بأربعين عاماً كيف تقرأ في التوراة أن الله سيجعل في الأرض خليفة والملائكة تعترض عَلَى ذلك ثُمَّ يعيبهم الله تَعَالَى بعد ذلك، وتأتي وتلومني وتقول أنت الذي أخرجتنا وأنت الذي خيبتنا.
      فالإخراج والإنزال إِلَى الأرض مكتوب علي قبل أن أخلق.
      فهناك فرق بين الإخراج وبين الذنب فالذنب وقع من آدم أما الإخراج فهو من الله تعالى، وكذلك أن آدم تاب وموسى يعلم أن الله قبل توبته فلا يمكن لموسى أن يعاتب عَلَى الذنب وقد تاب منه وغفر الله تَعَالَى له.
      مثال ذلك: لو أن رجلاً كَانَ كافراً ويشرب الخمر أو يأكل الميتة ثُمَّ أسلم، فأتى شخص وقال له أنت في جاهليتك شربت الخمر أو أكلت الميتة هل هذا كلام يقال؟ لاأحد يقوله؛ لأنه سيقول له: أنا أسلمت والإسلام يجب ما قبله، وكذلك التوبة تجب ما قبلها فلذلك عندما تأتي فالقدرية ومنهم كثير من الصوفية حتى صاحب منازل السائرين يقولون: لا تنكرون عَلَى أصحاب المعاصي؛ لأن الكل في العبودية سواء فأنت ومن يفعل المنكر سواء في العبودية والذي ينكر عليه ويحاسبه هو الله تَعَالَى أما أنت فإذا رأيت أحداً يعمل شيئاً فقل: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ))[الأنعام:112] وهذا القول من أسقط الأقوال أبعدها عن الكتاب والسنة لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد والشعائر العظيمة تبطل بهذا القول.
    2. خطر من يحتج بالقدر على المعاصي

      إن غرض هَؤُلاءِ أنهم يريدون أن يبطلوا بهذا الكلام وبهذا اللغو الشريعة والدين، وكوني أنا وهو عبيد نعم، ولكن الله أمرني أن أنكر المنكر، وهو عبد وقع في المنكر فلا بد أن أنكر عليه، وكون الله هو الذي يحاسب العباد فهذا لا شك فيه، ولكن يجب علي أن أنكر المنكر، ولا أحاسبه محاسبة الرب للعبد، فلا حجة لهم في قولهم إن آدم قد غلب موسى، فإن كل من فعل ذنباً ثُمَّ أتيت تنكر عليه فإنه يغلبك بالحجة إذا احتج بالقدر كما تقوله الجبرية لأن معنى هذا لا تنكر أي منكر وهذا ترده الأصول الشرعية القوية المبنية عَلَى آيات وأحاديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا يدل عَلَى بيان ضلال وخطأ هَؤُلاءِ والمصنف ركز عَلَى هذه الفقرة الواضحة في الرد عَلَى هَؤُلاءِ الذين لم يفهموا هذا الحديث وهي قوله (وقع اللوم عَلَى المصيبة ولم يقع عَلَى المعصية والقدر والأقدار يحتج بها عَلَى المصائب ولا يحتج بها عَلَى المعاصي، فقد أمرنا بشيئين أمرنا في باب الأقدار أن نصبر عَلَى أقدار الله وهذا من الإيمان بقدر الله تَعَالَى أما المعاصي والذنوب، فأمرنا بالتوبة والاستغفار ولم نؤمر بالرضى بها وأن نفعلها فضلاً عَلَى أن نقر من يحتج بها من المحتجين.
  5. الرد على من يحتج بالقدر

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [وأما قول إبليس ((رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي))[الحجر:39] إنما ذم عَلَى احتجاجه بالقدر لا عَلَى اعترافه بالمقدر وإثباته له ألم تسمع قول نوح عَلَيْهِ السَّلام ((ولا يَنْفَعُكُمْ نُصحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [هود:34] ولقد أحسن القائل:
    فما شئتَ كَانَ وإن لم أشأ             وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
    وعن وهب بن منبه أنه قَالَ: "نظرت في القدر فتحيرت ثُمَّ نظرت فيه فتحريت ووجدت أعلم النَّاس بالقدر أكفهم عنه، وأجهل النَّاس بالقدر أنطقهم به"] إهـ.

    الشرح:
    من الآيات التي استدل بها من يحتج بالقدر عَلَى المعاصي، آيات الأنعام، والنحل، والحديث الذي سبق، واستدلوا كذلك بقوله تعالى: ((رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي)) [الحجر:39] فَقَالُوا: إن إبليس لما قَالَ: ((رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي))[الحجر:39] أنكر الله عليه واحتجاجه هذا مردود وعلى هذا فنحن لا نثبت المشيئة، أي: لا نقول إن الله هو الذي أغوى إبليس؛ لأن إبليس هو الذي قال إن ربه هو الذي أغواه محتجاً بذلك، فبناءاً عليه فنحن ننكر الإغواء، فهم يريدون أن ينكروا أن الله قدر الأقدار بناءاً عَلَى أن الذين احتجوا بالقدر هم المُشْرِكُونَ، ومنهم إبليس وَقَالُوا: لا نأخذ ديننا عن إبليس ولا عن الْمُشْرِكِينَ فلا قدر إذاً، ونرد عليهم بمثل ما رددنا عَلَى الْمُشْرِكِينَ من أن الله تَعَالَى لم ينكر أنه شاء الشرك، ولم ينكر أنه أغوى إبليس.
    وإنما كَانَ الإنكار بما يحتج المُشْرِكُونَ -بمشيئته عَلَى شركهم- وبما يحتج إبليس -بإغواء الله له عَلَى ما فعله من التزين بالإِنسَان وإغواءه- فَيَقُولُ: إنما ذم عَلَى احتجاجه بالقدر لا عَلَى اعتراضه به فنحن نقول: إن اعتراض الْمُشْرِكِينَ بأن الله هو الذي شاء أن يعبدوا هذه الأصنام لا اعتراض عليه.
    ونقول: لا يقع في ملك الله إلا ما شاءه الله، واعتراض قول إبليس بأن الله قدر عليه الغواية نَحْنُ نقول نعم قدر الله عليه الغواية، لكن احتجاجه بأن الله قدر عليه بأنه غير مؤاخذ هذا الذي نرده.
    فإن المشيئة لا تستلزم الجبر والقهر فهذا شيء شاءه الله تعالى، لكن المسئول عنه هو من فعله، أي: أن إبليس خاطبه الله تَعَالَى وأمره بالسجود مع الملائكة وهو يعلم عقوبة المعصية ومع ذلك ارتكبها بمشيئة الله، ولأن لله حكمة لكنه بإرادته وبطوعه خالف أمر الله وعصاه، ومن هنا طُرد ولُعن وأصبح رذيلاً مذموماً
    ويستدل عَلَى ذلك بقوله تَعَالَى عن نوح عَلَيْهِ السَّلام: ((لا يَنْفَعُكُمْ نُصحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [هود:34] فما عَلَى الرَّسُول إلا البلاغ مع أنه يبين لهم ويدعوهم إِلَى الله، ويقول لهم إن ما آتيكم به من الحجج والبراهين لا ينفعكم إن كَانَ الله يريد أن يغويكم، لكن لو فرضنا أن الله يريد أن يغويهم -ولا شك أنه أغوى منهم الأكثرين وما آمن له منهم إلا القليل- لكنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ليس راضياً بغوايتهم بدليل أنه بعث فيهم نوحاً يجادلهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ليلاً ونهاراً سراً وعلانية يدعوهم، كما ذكر الله ذلك في سورة نوح واستخدم معهم شتى أنواع الدعوة فالله ليس راضياً عن شركهم وما فعلوه وكونه - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- اقتضت حكمته ومشيئته أن يكون في النَّاس مؤمن وكافر، فإن هذا شيء نقرُّ به ونؤمن به، وهذا من حكمته التي لا نستطيع أن ندركها وأن نعرف أبعادها، يقول المُصنِّفُ نقلاً عن هذا الشاعر:
    فما شئتَ كَانَ وإن لم أشأ            وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
    لقد أحسن القائل، وهذه الأبيات التي قالها السلف الصالح في بيان الإيمان بالقدر وأن الله تَعَالَى مع أنه أعطانا مشيئة، إلا أن المشيئة النافذة هي مشيئته فَيَقُولُ: (فما شئتَ كَانَ وإن لم أشأ) ما شاء الله كَانَ وإن لم يشأ العبد أن يكون (وما شئتُ) أي: أنا المخلوق (إن لم تشأ لم يكن) فالمشيئة التي تنفذ هي مشيئة الله.
    1. مقالات بعض السلف في القدر

      يقول المُصنِّف عن وهب بن منبه وهو من أهل الكتاب الذين أسلموا قَالَ: [نظرت في القدر، فتحيرت، ثُمَّ نظرت فيه فتحيرت، فوجدت أعلم النَّاس بالقدر أكفهم عنه، وأجهل النَّاس بالقدر أنطقهم به].
      وذلك لأن الله لما خلق النَّاس وجعلهم فريقين هذا إِلَى الجنة وهذا إِلَى النار، ووفق هذا إِلَى الهدى وحجبه عن هذا، وهذه الأمور من الأمور العميقة الدقيقة، ولا يعني قول وهب أن كل أحد يتوقف فيها أولا يدرك حكمتها، فإذا كَانَ وهب بن منبه لم يدرك شيئاً من ذلك، فإن غيره قد يدرك ما يفتح الله به عَلَى أهل العلم، وإنما يأتي المُصنِّف بأمثال هذا الكلام ليبين أن الأصل هو عدم الخوض في باب القدر، وأن علينا أن نؤمن بالقدر بأن الله قدر مقادير كل شيء، ثُمَّ نؤمن بأنه تَعَالَى لا يظلم أحداً، ثُمَّ نؤمن بأنه ليس لأحد يعصي الله تَعَالَى أن يحتج بالقدر نؤمن بذلك كله، ونرد علم غير ذلك إِلَى خالقه تعالى، كما قال تعالى: ((وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)) [الإسراء:85] وعقولنا لا تستطيع أن تفسر كل شيء إِلَى أبعاده أعماقه، ولكن إذا وجدنا من العلماء الموثوق بهم أو من السلف الصالح كلاماً في بيان بعض الإشكالات التي تعترضنا، حمدنا الله تَعَالَى وعرفناها وتعلمناها، وإن لم نجد نقف حيث وقفوا، ونَكِلُ ما وراء ذلك إِلَى الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
  6. مسألة الهدى والضلال والخلاف فيها

     المرفق    
    1. مذهب المعتزلة والرد عليهم

      ثُمَّ قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
      قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
      [يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً].
      يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ :
      [هذا رد عَلَى المعتزلة في قولهم بوجوب فعل الأصلح للعبد عَلَى الله، وهي مسألة الهدى والإضلال، قالت المعتزلة: الهدى من الله بيان طريق الصواب، والإضلال: تسميه العبد ضالاً أو حكمه تَعَالَى عَلَى العبد بالضلال عند خلق العبد الضلال في نفسه.
      وهذا مبني عَلَى أصلهم الفاسد أن أفعال العباد مخلوقة لهم والدليل عَلَى ما قلناه قوله تعالى: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))[القصص:56] ولو كَانَ الهدى بيان الطريق لما صح هذا النفي عن نبيه؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الطريق لمن أحب وأبغض، وقوله تعالى: ((وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا)) [السجدة:13] وقوله: ((يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))[المدثر:31] ولو كَانَ الهدى من الله البيان وهو عام في كل نفس لما صح التقييد بالمشيئة وكذا قوله تعالى: ((وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)) [الصافات:57] وقوله: ((مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [الأنعام:39] اهـ.

      الشرح:
      إن مسألة الهدى والضلال من أدق الأمور التي ينبغي أن نفهمها لكثرة ما وقع فيها من الخوض، لا سيما بين المعتزلة والأشعرية حيث قالت المعتزلة -الذين أورد المُصنِّف هذه الفقرة في الرد عليهم-: الهدى من الله هو أنه بين طريق الصواب، مثل ما نقول: وضع علامات عَلَى الطريق، وقال هذا هو الطريق الحق وأما الإضلال من الله، فهو أنه يسمى العبد ضالاً إذ أن العبد ضل من عند نفسه وارتسم الضلال فيه فسماه الله ضالاً.
      هذا هو معنى الهدى والضلال عند المعتزلة وهذا باطل.

      والصحيح في معنى الهدى والضلال، أن الهدى من الله وهو توفيق العبد للإيمان وإعانته عليه، والفضل كما قال المصنف: [ويعصم ويعافي فضلاً] أي: تفضل الله عَلَى العبد بأن يعينه ويوفقه إِلَى طريق الحق والخير، ويمده بذلك كما نقول دائما في صلاتنا ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5] وهذه الاستعانة لا تريدها المعتزلة، يقولون: نَحْنُ من عند أنفسنا نخلق فعل أنفسنا ونفعل الطاعات، أما المؤمن فَيَقُولُ: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5] فإليك نتوجه يا رب وبك نستعين، ولولا عون الله -تعالى- وتوفيقه لنا ما عبدناه ولا صلينا ولا زكينا، ولكن وفقنا لذلك وبينه لنا، وهدانا إليه، وأعطانا القوة عليه، وحجب عنا الشبهات والشهوات، وذلك من فضله ومنته حتى عبدناه فصلينا وصمنا إِلَى آخر ذلك، فالمسألة أكبر من أنه بين الطريق لنا فقط أو قال هذا هو الحق؛ بل إنه وفقنا وأعاننا وأمدنا وتفضل علينا، حتى فعلنا الهدى واهتدينا، وأما إضلال العبد فليس أن الله يسميه ضالاً بعد أن خلق العبد فعل نفسه الذي هو المعصية إنما إضلال الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- للعبد أي يُحجب الله عنه ويحرمه الفضل ويحرمه التوفيق مع بيان طريق الحق له.
      وهذا هو الفارق وما تجعله المعتزلة للمؤمنين وهو بيان طريق الحق، ونحن نقول هذا البيان حصل ووقع للعاصي وللكافر، وللفاجر، بين لكل واحد منهم طريق الحق، لكنه لم يعينه ولم يوفقه إلا أنه يفعله عدلاً منه تَبَارَكَ وَتَعَالَى وأما المؤمن فمع أنه بين له أيضاً إلا أنه وفقه وأمده وأعطاه فضلاً منه -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-
      فـالمعتزلة يقولون: يجب عَلَى الله.
      وفي هذه العبارة جرأة، فمن يتجرأ أن يوجب عَلَى الله تَعَالَى شيئاً أن يفعل الأصلح للعباد.
      والأصلح لهذا العبد: أن يبين له طريق الهدى وأن يتركه ليعمل لنفسه مثلاً، فيرون أنه يجب عليه ذلك فنقول: لا يجب عَلَى الله تَعَالَى شيء ولكن الأمر يدور بين العدل وبين الفضل، فأما فضله تَعَالَى فإنه عَلَى المؤمنين: ((وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)) [النساء:113] تفضل الله عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن أوحى إليه، وأنزل إليه الكتاب، وجعله سيد ولد آدم، وجعله إمام المتقين، وإمام الغر المحجلين، ورسالته رحمةً للعالمين، كل هذا فضل من الله عَلَى نبيه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    2. لا يستطيع أحد أن يوجب على الله فعل شيء

      لا يستطيع أحد أن يوجب عَلَى الله شيئاً ولكن الله تَعَالَى حجب الإيمان وحرم الهداية والتوفيق عدلاً منه جل شأنه، فقد حرم أبا لهب ومنعه من هذا الإيمان، وبين له الطريق وأوضحها له ومن أعظم الأدلة عَلَى ذلك: أن أبا لهب كَانَ يعلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صادق، وأنه لا يكذب أبداً، ولو أن أبا لهب وسأل نفسه هل مُحَمَّد هذا صادق أم أنه كاذب في دعوى الوحي! لقالت له نفسه: هو نبي وصادق، وما أكثر ما صرح به الكفار المعاندون للنبوة.
      فالحجة قامت عَلَى أبي لهب ولكن لماذا لم يؤمن؟
      هل هو من عند نفسه؟
      نعم، نقول: إن الله لم يوفقه ولم يتفضل عليه بالإيمان؛ لكن هذا التوفيق فضل من الله يعطه من يشاء ويحجبه عمن يشاء، ولا يحرمه أحد إلا لسبب من العبد لذاته، علم الله أنه لا خير فيه، كما قال الله تعالى: ((وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ))[الأنفال:23] لكن علم أنه لا خير فيه وأنه يرفض هذا الإيمان رغم الحجج الواضحة البينة، ولهذا لم يوفقه للإيمان وهذا عدل منه -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مع أنه بين له طريق الهدى وقول المعتزلة بأن الهدى بيان الطريق وأن الإضلال تسمية العبد ضالاً هذا خطأ بل الهدى من الله تعالى: هو التوفيق والعون والإمداد والتفضل بالهداية وسلوك طريق الطاعة، وأما الإضلال فهو: صرف الإِنسَان وحجبه عن طريق الخير لفعل يفعله بسبب منه لعدم قابليته الهدى فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
      ولهذا جَاءَ في الحديث الصحيح {عملت اليهود إلى منتصف النهار كما نقول: إِلَى صلاة الظهر وعملت النَّصَارَى ما بين صلاة الظهر والعصر، وعملت هذه الأمة من صلاة العصر إِلَى المغرب.
      فضرب الله لذلك مثلاً بثلاثة عمال فرجل استأجرته بأجر إِلَى الظهر، فأعطيته ديناراً، والآخر استأجرته من الظهر إِلَى العصر فأعطيته ديناراً، ورجل استأجرته من العصر إِلَى المغرب فأعطيته ثلاث دنانير أو أكثر.
      فَقَالَ الأول والثاني لماذا تعطيه أكثر منا؟
      فاحتجت اليهود والنَّصَارَى -عَلَى أن الله تَعَالَى أعطى هذه الأمة أكثر منها - فَقَالُوا: يا رب عملوا قليلاً وأعطيتهم كثيراً؟
      فَقَالَ تعالى: أوقد حرمتكم من حقكم شيئاً، قالوا: لا يا رب قَالَ: ذلك فضلي أعطيه من أشاء}
      فهذا فضل من الله، فأنت إذا حرمت شيئاً من حقك تطالب به، فلا تعترض وقد أعطيت حقك إذا أعطى غيرك أكثر مما يستحق لتفضل المعطي بذلك، ومع ذلك إذا كَانَ المتفضل هو الله، فإنما يتفضل عَلَى أحد ويحرم آخر من هذا الفضل لِمَا يعلمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مما في نفس هذا من الخير والقابلية والتوجه ومراغمة النفس عَلَى قبول الحق، وما يعلم في نفس ذلك من رد الحق ودفعه وغمطه.

      فلما لم يقم العبد بما وجب عليه من طاعة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى والاستعانة به عَلَى نفسه خذله الله ووكله إِلَى نفسه، ومن وُكل إِلَى نفسه فقد خاب وخسر، ولهذا كَانَ من دعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إِلَى نفسي طرفة عين} وفي الرواية الأخرى: {فإنك إن تكلني إِلَى نفسي تكلني إِلَى ضعف وعجز وخطيئة} فالإِنسَان إذا وكل إِلَى نفسه فقد وكل إِلَى عقله وتفكيره وحرصه وأنه يعرف الحق ويعرف الخير والهدى والضلال فيخيب ويخسر ويشقى، بل الواجب عَلَى الإِنسَان أن يدعو الله تَعَالَى أن يهديه للحق، فإذا وجد من يبين له الحق فعليه أن يحمد الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وأن يشكره.
      ولذلك استدل المُصنِّف في الرد عَلَى قول المعتزلة بأن الهدى لو كَانَ هو بيان الطريق لما قال الله لنبيه: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ))[القصص:56] لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بين الطريق فالبيان والإرشاد حصل منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن هداية التوفيق والامتثال والتفضل ليست من عنده كما قال الله تعالى:((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))[القصص:56] وقد قال له ((وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))[الشورى:52] أي: إنك تبين الطريق المستقيم وتدعو إليه وتوضحه للناس، أما قوله: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ))[القصص:56] أي: إنك لا توفق من تشاء ليكون مؤمناً.
      وهذه الآية نزلت في عمه أبي طالب لما حرص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخذ يُلح عليه أن يسلم، ويقول له: {يا عمِ قل كلمة أحاجُّ لك بها عند الله} ففاضت روح عمه وهو يقول إنه عَلَى ملة عبد المطلب، فرَسُول الله يُلح عليه وهو يعلم صدقه، ولا يوجد أحد من الْمُشْرِكِينَ أعلم بصدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أبي طالب، ولذلك حماه وأواه وحوصر معه في الشعب في سبيل نصرته النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      ولو كَانَ كاذباً لما تحمل هذا الأذى كله من أجله، ولكنه يعلم أنه صادق لكن مع ذلك كله لم يؤمن به فالمسالة مسألة هداية وتوفيق من الله وليست بالرأي ولا بالعقل ولا ببيان الحجج فعلينا أن نسأل الله دائماً الهدية والتوفيق كما جَاءَ في سورة الفاتحة ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5].
      ونعلم أنه هو الذي يعيننا عَلَى الطاعة، وأنه لو وكلنا إِلَى أنفسنا طرفة عين لهلكنا، ونقول بعد ذلك: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) [الفاتحة:6] فهو الذي يهدينا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فندعوه دائماً في كل ركعة بأنك أنت الذي تعين العبد ولولا توفيقك وإعانتك لما عبدك أحد، ولما آمن بك أحد، حتى بعد أن يدخل أهل الجنة الجنة يقولون: ((وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)) فالأمر كله فضل منه تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

      ثُمَّ قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ :
      [وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله].
      قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
      [فإنهم كما قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ))[التغابن:2] فمن هداه إِلَى الإيمان فبفضله وله الحمد، ومن أضله فبعدله وله الحمد، وسيأتي لهذا المعنى زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى، فإن الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ لم يجمع الكلام في القدر في مكان واحد، بل فرقة، فأتيت به عَلَى ترتيبه] اهـ

      قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
      [وهو متعال عن الأضداد والأنداد].
      قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
      [الضد: المخالف، والند: المثل، فهو سبحانه لا معارض له، بل ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا مثل له، كما قال تعالى: ((وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ))[الإخلاص:4] ويشير الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ بنفي الضد أو الند إِلَى الرد عَلَى المعتزلة في زعمهم أن العبد يخلق فعله] اهـ.

      قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
      [لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره]
      قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
      [أي لا يرد قضاء الله راد ولا يعقب أي: لا يؤخر حكمه مؤخر، ولا يغلب أمره غالب، بل هو الله الواحد القهار] اهـ

      قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
      [آمنا بذلك كله وأيقنا أن كلاً من عنده]
      قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
      [أما الإيمان فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى، والإيقان الاستقرار من يقن الماء في الحوض إذا استقر، والتنوين في "كلاً" بدل الإضافة: أي كل كائن محدث من عند الله أي: بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته وتكوينه، وسيأتي الكلام عَلَى ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى] اهـ
      .
      الشرح:
      قوله: [وهو متعالٍ عن الأضداد والأنداد] لقد نفى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يكون له ضد أو ند في ملكه وأفعاله أو أفعال العباد كما قال تعالى: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)) [الإخلاص] بل يجب أن يفرد وحده بالعبادة، وأما الذين اتخذوا من دون الله أنداداً؛ فأولئك هم المُشْرِكُونَ الذين توعدهم الله بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة، والتخليد في النارفي النار فاتخاذ الأنداد من دون الله تَعَالَى هو عين الشرك، فليس له تَعَالَى ضد ولا ند.
      وقوله -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [ولا راد لقضائه].
      قد سبق شرحه، ومعناه: أنه قد كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكل ما كتبه الله تَعَالَى فهو واقع لا محالة ولا راد له كائناً من كان.
      وقوله [ولا معقب لحكمه] الحكم هنا يشمل الحكم الشرعي والقدري فأما حكمه القدري: فهو قضاؤه الذي سبق أن حكم به فلا يستطع أحد أن يدفعه.
      وأما حكمه الشرعي: فلا معقب لحكمه أي: لا مستدرك عليه مثال ذلك: عقوبة الزاني الجلد إن كَانَ بكراً، والرجم إن كَانَ ثيباً فلا معقب لحكمه كَانَ يأتي أحد فيجعلها السجن والغرامة أو يجعل الجلد أقل أو أكثر، كذلك حرم الله تَعَالَى الربا، فلا معقب لحكمه.
      كأن يأتي أحد فَيَقُولُ: الربا حلال ويتأول ويتفلسف في بيان استحلال ما حرم الله تعالى، فلا معقب لحكمه أبداً -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فما عَلَى العباد إلا أن يطيعوه وينقادوا له ويسلموا ولهذا خلقهم
      ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56] فلم يخلقهم ليعترضوا عليه، وإنما أعطاهم الله العقول؛ ليفكروا بها فيما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم ويفهموا بها دينه وشرعه فلم يعطهم العقول ليفكروا بها فيما يعارضون به شرعه ودينه، ويردون به عَلَى أنبياءه، أو عَلَى من يدعوهم إِلَى الحق والهدى.
      وقوله: [ولا غالب لأمره] أي: ولا غالب لأمر الله تَعَالَى إذا قدَّر أمراً بخلاف المخلوقين فإنه يغلب عَلَى كثير من أمورهم إلا ما شاء الله أنه ينفذ.
      وقوله: [آمنا بذلك كله وأيقنا أن كلاً من عنده] أي: آمنا بجميع ما تقدم من المباحث في إثبات الصفات والقدر آمنا بذلك كله، وأيقنا أنه من عند الله تعالى، وكل ما جَاءَ في كتاب الله، أو في سنة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنحن نؤمن به.