المادة    
إنما المقصود كيف عِمل المسلمون بهذا الأمر؟ وكيف طَبقت الأمة الإسلامية هذه الآيات والأدلة الأخرى؟ وكيف أقامت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في واقع حياتها؟ وكيف استطاعت هذه الأمة أن تتطور إدارتها وولايتها لهذا المنصب العظيم والوظيفة الدينية، وأن تتكيف مع تغير الأحوال والأزمان؟ إلى أن جاء زمن السوء وزمن الفتنة المتأخر الذي كاد أن يُطمس فيه نور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إنه لم يبق في أكثر بلاد الإسلام وظيفة ولا ولاية ولا شعيرة تحمل هذا الاسم، وبقي في هذه البلاد -والحمد لله- ما سمي بـ"هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ممثلة لولاية الحسبة المعروفة في التأريخ الإسلامي، إلا أنه اعتراها ما اعتراها من ضعف ونقص وتقليص في الصلاحيات وغير ذلك مما يجب مراجعته، والاعتناء، والاهتمام بتكميله وتحصيله على ما سنبين إن شاء الله تعالى.
  1. الحسبة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم

    إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الذي أنزل الله -تبارك وتعالى- عليه هذا القرآن الكريم وهذا الذكر الحكيم ليبينه للناس، فبين بعمله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتوافر في حياته كلها: كيف أنه جاء حقاً يأمر العالمين بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويُحلُّ لهم الطيبات، ويُحرِّم عليهم الخبائث. فقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وما كانت دعوته من أولها إلى آخرها إلا أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر. وبهذا نفهم المعنى الواسع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ كل ما أمر الله به فهو معروف، وأعظم المعروف هو توحيد الله عز وجل؛ لأنه أعظم مأمور به، وكل ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه إما إلزاماً أو كراهية -على التعريف الأصولي- فهو أيضاً منكر، وأكبر منكر هو الشرك بالله عز وجل.
  2. الحسبة في عهد الخلفاء الراشدين

    جاء بعده صلوات الله وسلامه عليه: الخلفاء الراشدون، فكانوا -رضي الله عنهم وأرضاهم- أعظم القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمة، ولهذا لا نجد في أيام الخلفاء الراشدين وظيفة تسمى "وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" أو "ولاية الحسبة" لأنهم كانوا يعلمون أن ذلك هو أعظم واجباتهم، وكانوا قائمين به حقيقة: ظاهراً وباطناً، وفي الأمصار والبوادي، والعواصم والأقاليم.
  3. الحسبة في عهد عمر بن عبد العزيز

    ومن أعظم من أحيا هذه الشعيرة بعد الخلفاء الراشدين: الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه؛ فإنه جاء بعد أن اندرس جانب من هذا الشأن، فأحيا هذا الأمر، ومن جملة ما أحيا أنه جلس رضي الله عنه لرد المظالم بنفسه، التي كان بنو أمية اغتصبوها وأخذوها بغير حق، وأعانه على ذلك وزراء الخير وجلساء النصح ممن كان لديه من علماء، ومن هنا عُرف في الأمة ما يسمى بولاية المظالم.
  4. الحسبة في عهد الدولة العباسية وما بعدها

    ثم تطور الحال حتى خُصِّصَ للمظالم ولاية مستقلة في أيام الدولة العباسية، وكذلك للقضاء -وولايته واضحة معروفة- وكذلك للحسبة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    ثم أخذت هذه الصلاحيات تتقلص أو تكثر بحسب اختلاف الدول، فمن الدول كما بين شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- من توسعت في مفهوم ولاية الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى شملت أموراً عظيمة جداً.
    ومنها ما كان أقل من ذلك بحيث إنه أعطى بعض صلاحيات ولاية الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إما لولاية القضاء، أو لولاية المظالم، أو للشرطة أو لغيرها.