المادة    
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
أما بعد:
أولاً: نقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم نسأل الله تبارك وتعالى، وهو الجواد الكريم، أن يمن علينا بالقبول.
ثانياً: نشد على يد طلاب، العلم وطالباته الذين يزدادون يوماً بعد يوم، وهذا يدل على أن هذه الأمة مهما اشتدت عليها هجمات أعداء الله، ومهما طغت عليها وسائل التدمير والإفساد، فإن الخير فيها كثير ولله الحمد، وإن جذوة الإيمان لم تنطفئ بفضل الله عز وجل.
وهذا دليل -ولله الحمد- على أن هذا الدين حق وخالد وأنه باق إلى قيام الساعة، وأن أعداء الله مهما حاولوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم فلن يستطيعوا، بل إننا لنستبشر كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار} وسوف نرى -بإذن الله- في هذه الأزمنة مع اشتداد أزمة الأعداء وضراوتهم؛ بواكير وبوادر صحوة عظيمة، نسأل الله سبحانه أن يبارك فيها، وأن ييسر للقائمين عليها أن يقودوها على أفضل الوجوه وأحسنها، إنه سميع مجيب.
ولا شك ولا ريب عند كل من تدبر كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أعظم ما دعا إليه الرسل هو التوحيد والتحذير مما يناقض ذلك ويخالفه من الشرك، كما قال الله تبارك تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ))[الأنبياء:25] وكما قال عز وجل: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ))[النحل:36] وهكذا القرآن في كل حديث وقصص يقصها عن أنبياء الله ورسله. نجد أن التوحيد هو الأساس الذي تدعو إليه الرسل قاطبة. وبعد ذلك تأتي الأحكام والشرائع، ويأتي الحلال والحرام.
  1. بعض الأمثلة على خطورة ونواقض الإيمان

    ولذلك فإن الاهتمام بهذا الأمر عظيم جداً، وحسبنا لنعلم خطر نواقض الإيمان، وما يخالفه وما يجانبه أن نأتي ببعض الأمثلة دون استقصاء أو تفصيل، ومنها:
    قول الله تبارك وتعالى: ((وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ))[الزمر:65] فانظر أيها الأخ الكريم! مع من هذا الخطاب، ولمن هذا الخطاب؟
    إنه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللرسل من قبله: ((وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ))[الزمر:65] فهذا الخطاب الإنذار التخويف؛ لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهل في البشر جميعاً خلق الله قاطبةً من دعا إلى التوحيد، وصابر عليه ورابط وحذر من الشرك وزجر كرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو الرسل من قبله؟!
    لا. بإجماع كل العقلاء في هذه الدنيا. ومع ذلك فإن هذا التحذير يقال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    ومنها ما ذكر في آيات الأنعام بعد أن ذكر الأنبياء وقصصهم: ((وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [الأنعام:88].
    فالشرك يدمر الأعمال ويحبطها، ولو أن الله تبارك وتعالى يريد عبادات بلا توحيد وإن خالطها الشرك ونواقض الإيمان، لكان عباد النصارى ورهبانهم ورهبان الهندوس والبوذيين أكثر الناس إيماناً، لأنهم أكثر الناس اجتهاداً في العبادة! بل لكان الخوارج أكثر هذه الأمة إيماناً؛ لأنهم كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه الكرام -الذين عبدوا الله عز وجل كما شرع وأمر- قال: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وعبادتكم إلى عبادتهم} لكن لما تلبسوا بما تلبسوا به من الانحراف والبدعة والضلال، لم ينفعهم ذلك.
    فتبين أن تصحيح الاعتقاد وأصل الإيمان والدين هو الأساس الذي يجب أن تبنى عليه بقية الأعمال، وإذا صح ذلك -أي الاعتقاد- فإن العبد يكون على سبيل نجاة وإن ارتكب ما ارتكب، كما جاء في قوله عز وجل في الحديث القدسي، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يقول عز وجل: يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا -أي بملء الأرض خطايا- ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا غفرت لك} وهذا من فضل الله عز وجل لمن جاء محققاً التوحيد والإيمان، ولو وقع فيما لا بد أن يقع فيه بنو آدم من الأخطاء والذنوب، ولو تلبس بما لا ينبغي أن يتلبس به المؤمن.
    لكن التوحيد كلما قوي، والإيمان كلما امتلأ به قلب الإنسان ويقينه وشعوره ووجدانه، فإن ذلك بلا ريب هو سبيل النجاة في الدنيا والآخرة.
  2. التوحيد في الدنيا والآخرة

    التوحيد في الدنيا معلوم للجميع أنه سبيل النجاة، لأن الإنسـان إذا وحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأقر له بالربوبية والألوهية، وانقاد لشرعه ودينه؛ سلم بذلك ماله ودمه، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام} فهذا في الدنيا.
    وفي الآخرة، تكون النجاة من عذاب الله عز وجل، إما ابتداءً -وهذا من فضل الله- وهؤلاء هم الذين حققوا التوحيد قولاً وعملاً، فكان لهم الاهتداء التام والأمن التام الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ))[الأنعام:82]. وقد ثبت في البخاري وغيره أن هذه الآية لما نزلت شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: {يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟!} ظنوا أن ذلك في المعاصي والذنوب، ولا شك أنها من ظلم النفس، فبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن المقصود هو الشرك، {قال: ألم تقرءوا قول العبد الصالح ((يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ))[لقمان:13]}.
    فالمقصود من هذه الآية: أن الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بشيء من الشرك: (( أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ))[الأنعام:82] هؤلاء لهم الأمن التام يوم القيامة، وفي الدنيا أيضاً.
    فمهما حصل لهم من ابتلاء أو محن فهم في الحقيقة في أمن، لأن الأمن الحقيقي هو الأمن على العقيدة والإيمان: (( وَهُمْ مُهْتَدُونَ))[الأنعام:82] فلهم أيضاً الاهتداء التام.
  3. حكم من وقع فيما نهى الله عنه

    أما لو حصل من الإنسان شيء من التلبس بالذنوب والمعاصي ووقع فيما نهى الله تبارك وتعالى عنه، فإنه بين أمرين:
    إما أن الله عز وجل يغفر له ويعفو عنه بتحقيقه للتوحيد- وهذا فضل من الله تبارك وتعالى، وتكرم منه، ويمن به على من يشاء من عباده-.
    ولا أدل على ذلك -أي المغفرة- من حديث البطاقة، كما ثبت في الحديث، الرجل الذي يأتي يوم القيامة وله من الذنوب تسعة وتسعون سجلاً، فتوضع في كفة في الميزان ويقال له: هذه ذنوبك وهذه أعمالك أتنكر منها شيئاً؟ فيقول: لا يا ربي، لا يا ربي.
    فيقال له: ولكنا لا نظلم أحداً شيئاً، إن لك عندنا "بطاقة".
    فيقول:يا ربي! وما تغني هذه "البطاقة" مع هذه السجلات؟
    فتخرج، وإذا فيها "لا إله إلا الله". فتوضع في الميزان، ولا يثقل مع اسم الله عز وجل شيء، فإذا بها تهبط -أي تقوى على تلك السجلات وتثقل عليها- فينجو هذا الرجل بفضل الله عز وجل ويصبح من أهل الجنة.
    فمثل هذا يرجى لمن حقق التوحيد أن الله عز وجل يغفر له ما دون ذلك من الذنوب والعيوب، وإن كان الأصل في المؤمن أنه يحقق التوحيد قولاً وعملاً، وفروع التوحيد من الطاعات وترك المحرمات، هذه هي الحالة الأولى.
    والحالة الأخرى: أن يكون لديه من الذنوب والكبائر والعيوب ما أضعف إيمانه وأتى عليه بنقص شديد، وهو مع ذلك لم يزل من أهل التوحيد، ولم يتلبس بشيء من الشرك، ففي هذه الحالة الذي يحصل- إن دخل النار ولم يشمله فضل الله تبارك وتعالى ولا شفاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا الشهداء ولا الصالحين، ولا شيء مما هو من موانع إنفاذ الوعيد في الآخرة، بل استحق أن يدخل النار- فهذا أيضا على سبيل نجاة وإن دخل النار فهو خير من الذين هم أهلها -نسأل الله العفو والعافية-.
    فأهل النار الذين لا يحيون فيها ولا يموتون ولا يطمعون في خروج أبداً -نسأل الله أن يحفظنا جميعاً- هو خير منهم، لأنه لا بد أن يخرج بإذن الله، ويكون في هذه الحالة في نار العصاة وليس في نار الكافرين، ولو أشرك بالله لكان في نار الكافرين. كما قال تبارك وتعالى: ((إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ))[المائدة:72].
    وكما قال عز وجل: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))[النساء:48] فلو وقع في الشرك الأكبر لكان في نار الكفار التي لا يطمع أهلها في الخروج أبدا.
    لكنه وحالته هذه -مسلم مذنب لم تشمله الشفاعة- هو في نار العصاة التي يخرج أهلها بإذن الله تبارك وتعالى وبفضله، وبشفاعة الملائكة والنبيين والشهداء والصالحين ولو بعد حين، لبثوا ما لبثوا فمآلهم ومصيرهم إلى الجنة، كما ثبت من حديث أنس رضي الله عنه، عند البخاري وغيره أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {يخرج من النار من كان في قلبه وزن مثقال شعيرة من الإيمان -ثم قال في الثانية- مثقال ذرة -ثم قال في الثالثة- أدنى مثقال ذرة من إيمان} فآخر من يخرج من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، فمعنى ذلك أن لديه أصل الإيمان والتوحيد والإنقياد لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.