المادة    
قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ذلك بأنه عَلَى كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إِلَى شيء، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير].
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ذلك إشارة إِلَى ثبوت صفاته في الأزل قبل خلقه، والكلام عَلَى "كل" وشمولها وشمول "كل" في كل مقام بحسب ما يحتف به من القرائن، يأتي في مسألة الكلام إن شاء الله تعالى.
وقد حرّفت المعتزلة المعنى المفهوم من قوله تعالى: ((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [البقرة:284]، فَقَالُوا: إنه قادر عَلَى كل ما هو مقدور له، وأما نفس أفعال العباد، فلا يقدر عليها عندهم. وتنازعوا: هل يقدر عَلَى مثلها أم لا؟! ولو كَانَ المعنى عَلَى ما قالوا لكان هذا بمنزلة أن يقَالَ: هو عالم بكل ما يعلمه، وخالق لكل ما يخلقه، ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها، فسلبوا صفة كمال قدرته عَلَى كل شيء.
وأما أهل السنة، فعندهم أن الله عَلَى كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا، وأما المحال لذاته. مثل كون الشيء الواحد موجوداً معدوماً في حال واحدة، فهذا لا حقيقة له، ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئاً باتفاق العقلاء، ومن هذا الباب خلق مثل نفسه، وإعدام نفسه، وأمثال ذلك من المحال.
وهذا الأصل هو الإيمان بربوبيته العامة التامة، فإنه لا يؤمن بأنه رب كل شيء إلا من آمن أنه قادر عَلَى تلك الأشياء، ولا يؤمن بتمام ربوبيته وكمالها إلا من آمن بأنه عَلَى كل شيء قدير] اهـ.

الشرح:
المقصود بقول المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: [ذلك بأنه عَلَى كل شيء قدير وكل شيء إليه فقير] أن ذلك إشارة إِلَى الفقرات السابقة المتضمنة لأزلية صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وكونه لم يزل متصفاً بصفات الكمال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قبل إنشاء المخلوقات، ولم يزده خلق هذه المخلوقات صفاتاً أخرى لم يكن متصفاً بها من قبل.
  1. من معاني كلمة "كل" في اللغة والرد على المعتزلة

    ويشير المُصنِّف إِلَى أن كلمة "كل" تطلق في اللغة العربية عَلَى معانٍ كثيرة سيذكرها فيما بعد.
    أقول:
    ومنها: العموم، ولذلك يسمونها في المنطق: ألفاظ العموم، وهي التي تصور الشيء وتحيط بجميع ما تدل عليه، فإذا قلت: كل الطلاب.
    معنى ذلك أنك لا تستثني منهم أحداً، ولكنها أيضاً تأتي أحياناً لعموم مقيد، وهو لا يعني العموم المطلق من كل وجه، ولهذا لما جَاءَ المعتزلة وغيرهم، يناظرون الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ في مجلس الخليفة، قالوا له: يا أَحْمَد! أليس القُرْآن شيء؟ قَالَ: بلى. قالوا: أليس الله تَعَالَى يقول: ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) [الزمر:62]؟ قَالَ: بلى، قالوا: إذن القُرْآن مخلوق.
    فرد عليهم الإمام أَحْمَد بإلزام يوضح أن كلمة كل هنا ليست بمعنى الإطلاق.
    وذلك أنه لما قال الإمام أَحْمَد: أو ليس الله تَعَالَى يقول في الريح التي أرسلها عَلَى عاد: ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا)) [الأحقاف:25]؟ فهل دمرت السماوات؟ وهل دمرت الأرض؟ وهل دمرت الرمال؟ إنما تدمر كل شيء أمرت بتدميره، وهو هَؤُلاءِ الناس، وما يتعلق بهم من أموالهم وأمتعتهم، أو مساكنهم أو نحو ذلك.
    فكلمة "كل" إذاً ليس مدلولها الشمولية الكاملة في كل وقت، وإنما تأتي هذه الكلمة بحسب السياق الذي تدل عليه، فعمومها قد يكون مطلقاً، وقد يكون مخصوصاً، أو خاصاً بما يقيده، وتعينه القرائن الحافة به.

    ثُمَّ انتقل إِلَى تحريف المعتزلة لمعنى: ((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [البقرة:284]، بأنه: وهو عَلَى ما يقدر عليه قدير، أو عَلَى ما يشاء قدير، ومقصودهم بذلك أنه لا يشاء أفعال العباد القبيحة، وأن الله لا يشاء معاصي العباد، كما سبق في بحث الإرادة، قالوا: وهو عَلَى ما يشاء قدير، ولا يقولون: عَلَى كل شيء قدير، حتى لا يدخلوا أفعال العباد هذه، وَقَالُوا: وهو عَلَى كل شيء مقدور له قدير، وأفعال العباد ليست مقدورة له.
    فرد عليهم المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ هنا بأنك إذا قلت: فلان بما يعلمه عليم، وفلان بما يقدر عليه قدير، أنها لا تثبت فائدة في حق المخلوق، فكيف في حق الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؟!
    والمعنى الصحيح أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قدير عَلَى كل شيء بإطلاق، حتى أفعال العباد، فهي من مشيئته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهذا أذكر قصة وهي أشبه بالنكتة:
    دخل الزمخشري عَلَى أحد الأمراء، وعنده رجل جالس من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فأراد الزمخشري -وهو معتزلي- أن يغيظ هذا العالم السني، فقَالَ: سبحان من تنزه عن الفحشاء كلام عادي لو سمعه أي واحد، فإنه يقول: جزاه الله خيراً يذكر الله عَزَّ وَجَلَّ، ولكن هذا الخبيث يقصد أن الله ليس هو الذي خلق أفعال العباد، من المعاصي والأفعال السيئة- فَقَالَ السني: سبحان من يفعل ما يشاء. فألجمه وأفحمه، بأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يفعل ما يشاء، يخلق الشر كما يخلق الخير سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وذاك ينزهه عن أن يكون خالقاً للشر، بينما الله يفعل ما يشاء، يخلق الخير ويخلق الشر.
    فكان إفحاماً سريعاً، وبنفس اللفظة، وعلى نفس السجعة، وهذا توفيق من الله عَزَّ وَجَلَّ.
    الشاهد أن قدرة الله -عَزَّ وَجَلَّ- تتضمن كل شيء كلية مطلقة، لكن الذين طمس الله عَلَى بصائرهم، وأضل عقولهم، وختم عَلَى قلوبهم، دخلوا في أسئلة من الكلام المتناقض الذي يريدون به التشكيك، وبذر الشبهات في قلوب الْمُسْلِمِينَ.
  2. هل المحال يدخل في عموم كلمة "كل"

    جاء سؤال في إذاعة لندن، قبل زمن: إذا كَانَ الله عَلَى كل شيء قدير، فهل يقدر أن يخلق أكبر منه، أو أعظم منه؟
    وهذه شبهة قديمة -كما ترون ذكرها المُصنِّف هنا- وهذه الشبهة لا يقولها إنسان عاقل؛ لأن هذا الإِنسَان العاقل إن كَانَ مؤمناً بالله، فإن كل من يؤمن بالله من مسلم أو يهودي أو نصراني أو غير ذلك، يؤمن بأنه عَلَى كل شيء قدير، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا شيء مثله، ولا شيء أكبر منه، ومن قال أن هناك ما هو أكبر من الله، فالإله عنده هو الأكبر وليس الأصغر، فبطبيعة الحال يقال له: كيف تعبد الأصغر مع وجود الأكبر؟
    والمعتزلة وأمثالهم يقولون: وجود مثيل لله من المحال، لأن واجب الوجود واحد لا يتعدد، وقولهم من المحال. أي: مما يحيله العقل. فيقال لهم: شيء يحيله العقل كيف تسألون عنه؟ هل يفعله الله أو يقدر عليه؟ فقد تناقضتم مع اعترافكم، ومع إقراركم بأنه محال، لا يمكن هذا أبداً، فالسؤال إنما يكون عن الأمور الممكنة، ولا يحتاج أن يرد عليكم إلا ليبين تناقضكم في نفس سؤالكم من نفس كلامكم وما تعقدونه.
    وأنتم تقولون وكل العقلاء: أن المحال شيء، والممكن شيء آخر، وأن الوصفين لا يجتمعان في حق أي شيء، فنقول: ممكن ومحال في نفس الوقت، فسؤالك هذا هو عن الإمكان، والسؤال عن الإمكان لا يكون بالمحال.
    وهذه من فلسفات الزنادقة، وتمويهات السفسطائية، يريدون أن يلبسوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وخاصة العوام بأمثال هذه الفلسفات، التي لا أصل لها، ولا حقيقة لها.

    والحق ما أجمله المُصنِّف بقوله: هو الإيمان بربوبية الله تَعَالَى العامة والتامة، فإنه لا يؤمن بأنه رب كل شيء إلا من آمن أنه قادر عَلَى تلك الأشياء. انتهى.
    ومن قَالَ: إنه رب كل شيء، يجب عليه أن يؤمن بأنه رب جميع هذه الأشياء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو ما دام ربها فهو خالقها وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكذلك لا يؤمن بتمام ربوبيته وكماله إلا من آمن بكمال قدرته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛
    فـالمعتزلة حينما يخرجون شيئاً عن قدرة الله، سواء كَانَ فعل الشر، أو أفعال العباد، أو غير ذلك، فإنهم ينقصون من قدر الربوبية، فكأن الله ليس رباً لكل شيء لما أخرجوا ذلك عن قدرته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإلا ما دام أنه رب كل شيء كما تقولون، فإذاً كلها تخضع لقدرته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
  3. هل المعدوم الممكن يسمى شيئاً

    قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
    [وإنما تنازعوا في المعدوم الممكن: هل هو شيء أم لا؟ والتحقيق: أن المعدوم ليس بشيء في الخارج، ولكن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون، ويكتبه، وقد يذكره ويخبر به، كقوله تعالى: ((إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)) [الحج: 1] فيكون شيئاً في العلم والذكر والكتاب، لا في الخارج، كما قال تعالى: ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))[يس:82]، وقال تعالى: ((وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً))[مريم:9]، أي: لم تكن شيئاً في الخارج، وإن كَانَ شيئاً في علمه تعالى، وقال تعالى: ((هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً))[الإِنسَان:1]] اهـ.
    الشرح:
    يعني: أن الشيء الذي اختلفوا فيه هو المعدوم الممكن، هل يسمى شيئاً أولا يسمى شيئاً؟
    وذكر المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: أن التحقيق في المعدوم في ذاته أنه ليس بشيء، فالمعدوم لا يسمى شيئاً، لكن ما كَانَ في علم الله أنه سيوجد يسمى شيئاً، باعتبار أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يعلم أنه سيوجد، لأنه -جل شأنه- يعلم بالشيء متى يوجد؟ وكيف يكون؟ قبل أن يوجده.
    فما وجد وما لم يوجد بعد، هو سواء في علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد يسمى شيئاً عنده، أما بالنسبة لنا نحن، فإن ذلك متعذر علينا ولا نسميه شيئاً، ومن الأدلة عَلَى تسمية ما لم يوجد بعد شيئاً عند الله قوله تعالى: ((إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)) [الحج:1]، والساعة لم تقم بعد، وقد وصفها الله بأنها شيء عظيم؛ لأنها ستوجد، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلم بكيفيتها إذا حدثت، وقد أخبرنا بذلك. أما بالنسبة لنا نحن، فإن ذلك متعذر علينا ولا نسميه شيئاً،
    وكذلك قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) [يس:82]، أي: إذا أراد الله شيئاً يكون عَلَى وفق ما يعلمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه يعلم الشيء قبل وجوده.
    وكذلك قوله تعالى: ((وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً)) [مريم:9] وقوله: ((لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً)) [الإِنسَان:1]، أي: لم يكن شيئاً في الوجود الخارجي، أو في العالم المشهود عند الناس، أما في علمه تَعَالَى فإنه موجود.