المادة    
  1. أدلة كفر تارك الصلاة

     المرفق    
    السؤال: هل تارك الصلاة كافر يخرج من الملة، كما قال بعض العلماء؟
    الجواب: أنا أورد -إن شاء الله- الأدلة على تكفير تارك الصلاة:
    بدايةً: الأحاديث التي ورد فيها ترك الصلاة، ورد فيها الكفر المعرف بالألف واللام، وهو الكفر المطلق بخلاف قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وقتاله كفر} فإن كلمة (كفر) هذه كلمة مجردة تطلق على المعاصي، كما قال: {لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض} لكن هنا قال: {بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة} فهذا (الكفر) المعرف بالألف واللام، الذي هو من حقيقة الكفر، دليل على أنه كافر.
    دليل آخر: إجماع الصحابة، وإجماعهم حجة لا يجوز مخالفتهم، وقد رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن شقيق رضي الله تعالى عنه أنهم أجمعوا على أنه كافر، وقال عبد الله بن مسعود في تارك صلاة الجماعة: [[وقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق]] وهنا في صلاة الجماعة، فما بالك بترك الصلاة! والمقصود تركها بالكلية، أما من كان يصلي مرة ويترك مرة، فهذا كالمنافقين، يأخذ أحكام الإسلام الظاهرة، لكن يدخل في الإيمان مرة ويخرج منه مرة، لكن إن تركها بالكلية، فهو خروج من الإسلام بالكلية.
    أيضاً قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح الذي فيه ذكر الولاة وجور الولاة في آخر الزمان: {قالوا: يا رسول الله! ألا نقاتلهم، قال: لا. ما لم تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان} فلا يجوز مقاتلتهم إلا إن فعلوا الكفر البواح، وفي الحديث الآخر روايات صحيحة أخرى يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا. ما أقاموا فيكم الصلاة} وفي رواية أخرى صحيحة أيضاً: {قال: لا. ما صلوا} وكل هذه الروايات في البخاري ومسلم، فعرفنا أن ترك الصلاة كفرٌ بواح عندنا فيه من الله برهان.
    وكذلك القياس على أركان الإيمان الباطنة، فبعض العلماء يقيس أركان الإسلام الخمسة الظاهرة على أركان الإيمان الستة الباطنة، ولذلك ذهب جمع من الصحابة إلى أن من ترك ركناً من أركان الإسلام مصراً بقلبه فقد كفر، ولذلك ورد عن علي وعمر وابن عباس أن من أصر بقلبه على ألا يحج ونوى ذلك فهو كافر، واحتجوا بقول الله تبارك وتعالى: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ))[آل عمران:97] ومن الأدلة أيضاًَ: الصلاة والزكاة، نُص عليهما في حديث ابن عمر: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة}.
    ونُص عليهما بنص القرآن بقول الله تبارك وتعالى: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)) [التوبة:11] فالصلاة والزكاة عملان متكرران وظاهران، فالصلاة يجب أن يؤديها، وإن أداها وهو كاذب في الأصل نفسه، ولكن يجب أن نراه وهو يؤديها، والزكاة حق مالي لله يجب أن يؤديها أو نأخذها منه قهراً وقسراً، لكن الصيام عبادة خفية قلبية، يمكن لأي إنسان أن يظهر لنا أنه صائم وهو ناوٍ بقلبه أنه مفطر، ولا يكون صائماً، وممكن أن نقول له: حج، ويقول: وقت الحج موسع، فهو مرة في العمر، فأنا سأحج، لكن هذان الركنان نص عليهما أساساً لتكررهما.
    ومن الأدلة -أيضاً- على أن تارك الصلاة كافر: إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم على قتال مانعي الزكاة وقتال المرتدين، ولذلك احتج الصديق بذلك، فقال -كما في الرواية الصحيحة-: [[والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة]].
    إذاً: الصديق رضي الله تعالى عنه يقول: أنتم يا أصحاب محمد! ألستم مجمعون على أن تارك الصلاة يقاتل، فكذلك تارك الزكاة يقاتل، فإذاً ترك الصلاة كفر يخرج من الملة، وقد نقل ذلك إسحاق بن راهويه عن الصحابة ومن بعدهم، وإنما خالف في ذلك فقهاء الكوفة -أصحاب الرأي- ثم تبعهم بعض الشافعية.
  2. حقيقة الخلاف بين أهل السنة والأحناف في مسألة الإيمان

     المرفق    
    السؤال: هل الخلاف الواقع بين أهل السنة والجماعة وبين الأحناف خلاف لفظي أو حقيقي؟ وهل صحيح أن الإمام أبي حنيفة عنده شيء من الإرجاء؟
    الجواب: الحقيقة أن الإمام أبا حنيفة قال: إن الإيمان هو القول والإقرار والاعتقاد فقط، ولم يجعل العمل داخلاً في الإيمان، وهذا ثابت عن الإمام أبي حنيفة، وهو بهذا المعنى مرجئ، لكن الإرجاء على نوعين: إرجاء الفقهاء أو إرجاء العباد، وإرجاء المتكلمين أو إرجاء الجهمية.
    أما إرجاء الجهمية فإنهم يقولون: إن الإيمان هو التصديق القلبي فقط، وإرجاء الحنفية أو إرجاء الفقهاء يقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، ولكن الأعمال غير داخلة في الإيمان، ورُد عليهم بما ثبت في أحاديث صحيحة كثيرة، كما في كتاب الإيمان من صحيح البخاري، أن الصوم من الإيمان، وأن قيام ليلة القدر من الإيمان، وأن اتباع الجنائز من الإيمان، وهكذا فكلها تدل على أن العمل من الإيمان، وكذلك لما سُئِلَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أي العمل أفضل؟ قال: إيمانٌ بالله وبرسوله} فالعمل إيمان والإيمان عمل.
    ومذهب الإمام أبي حنيفة على فهمين: منهم من فهم إدخال عمل القلب في الإيمان وهي اليقين والإنابة والإخلاص والصدق والرغبة وما إلى ذلك، فكل الإيمان الباطن يجعله من الإيمان، ويجعل القول من الإيمان، فيكون عنده أن أركان الإيمان ثلاثة وهي: قول القلب وعمل القلب وقول اللسان وأخرجوا عمل الجوارح وهو الرابع عند أهل السنة والجماعة، ثم جاء أبو منصور الماتريدي الحنفي وقال: لا. حقيقة الإيمان عند أبي حنيفة مثله عند جهم، فجعلوه كـجهم، قالوا: يقصد فقط قول القلب، وهو التصديق، فعمل القلب غير داخل، والعمل غير داخل في الإيمان عند أبي حنيفة، والذي نظنه نحن بـأبي حنيفة أنه لا يخرج عمل القلب، لكن الحنفية يخرجون عمل القلب.
    أما الفرق، هل هو لفظي أم حقيقي؟ فإن شارح العقيدة الطحاوية يقول: إن الخلاف لفظي، وبعض المواضع لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية يقول: الخلاف لفظي، فهل هذا الكلام على إطلاقه؟ لا. الخلاف لفظي باعتبار وحقيقي باعتبار، فهو لفظي إذا قلنا: إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول: إنه يجب على الإنسان أن يصلي ويزكي، وأنه إن لم يفعل ذلك كان صاحب كبيرة، وأن الله يعذبه على ذلك، وأن العمل مطلوب ومشروع، وأهل السنة يقولون: إن العمل مطلوب ومشروع وعليه أن يصلي ويزكي، وفي الآخرة كلهم متفقون على أنه مؤاخذ وأنه آثم، فعلى هذا يكون الخلاف بهذا الاعتبار لفظي؛ لأن المؤدى في النتيجة عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واحد، لكن الخلاف من الناحية الأخرى حقيقي، فمثلاً: إنسان فاسق شارب خمر فهو عند أبي حنيفة مؤمن كامل الإيمان، لأن الإيمان عنده هو التصديق والإقرار باللسان، لكن نحن لا نطلق عليه أنه مؤمن، فالخلاف هنا حقيقي، وكذلك من يقول: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ومن يقول: إنه يزيد وينقص، فبينهما خلاف حقيقي، لأن هذا تكذيب، أو رد للنص وإن كان هو بتأويل وباجتهاد، لكن هو في الحقيقة رد للنص، ولا نقول إن الإمام أو من اتبعه على ذلك يؤاخذ، لأن الخطأ في الاجتهاد مغفور لكن لا يجوز لنا نحن أن نتابعه وأن نوافقه فيه، فالخلاف إذاً حقيقي باعتبار ولفظي باعتبار.
  3. أسباب خروج الفرق الضالة من الإيمان

     المرفق    
    السؤال: ما هي أسباب خروج الفرق الضالة من العقيدة الإسلامية، مع أن العقيدة الإسلامية واضحة وليس فيها شك؟
    الجواب: الحقيقة أن من أسباب اختلاف الفرق في الإيمان: هو أن الإيمان يختلف في الآيات وفي الأحاديث، فيأتي الإيمان مرة مطلقاً، ويأتي الإيمان مرة مقيداً، ويأتي الإيمان مرةً مقروناً بالإسلام، ويأتي الإيمان مرةً ويراد به بعض الأعمال الصالحة، ويأتي الإيمان مرةً ويراد به جميع الأعمال، فهذه الاطلاقات المتعددة، أربكت بعض الناس فوقعوا في خطأ في فهم حقيقة الإيمان؛ لأنه ليس كل أحد يستطيع أن يرد النصوص المتشابهة إلى المُحكمة، وأن يرد النصوص التي تحدثت عن بعض الإيمان إلى التي تحدثت عن الإيمان كله.
    فنقول: إنَّ من أسباب الخلاف بين الفرق: أن الإيمان ورد مطلقاً، وورد مقيداً، وورد مقروناً بالإسلام، وورد معطوفاً عليه بالأعمال الصالحة، وورد غير ذلك، فلهذا اختلف الناس، ونشأت الفرق، وهذا الكلام عند من نحسن الظن به.
    أما أهل الأهواء فإن من أسباب اختلافهم: أنهم تركوا ما دل عليه الدليل الصحيح من كلام الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واتبعوا الهوى، ومن أعظم الأدلة على ذلك: وهو أن الخوارج -وهي أول فرقة خالفت في الإيمان- لما ناظرهم ابن عباس رضي الله عنه، رجع الآلاف منهم إلى الحق، والذين بقوا قامت عليهم الحجة، وظهر لهم الدليل، واتضح لهم الحق، لكنهم بقوا على باطلهم، والسبب هو اتباع الهوى والمكابرة، فينطبق عليهم ما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} وكما قال: {تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه} أي: مثل الكَلَب، وهو داء الكلاب الذي يتجارى بصاحبه، وإلا فالحق واضح.
  4. حكم التأويل في أسماء الله وصفاته

     المرفق    
    السؤال: ما حكم التأويل في أسماء الله وصفاته؟
    الجواب: الموضوع خارج عن نطاق الإيمان، لكن نقول باختصار: التأويل منه ما يكون كفراً، ومنه ما يكون بدعة، ومنه ما يكون خطأً، كما قال ذلك شارح العقيدة الطحاوية في أولها، والتأويل المكفر كتأويل الباطنية، والتأويل البدعي كتأويلات الأشعرية، والتأويل الخطأ مثل بعض من أخطأ من أهل السنة والجماعة في صفة القدم مثلاً.
  5. حكم تارك الصلاة

     المرفق    
    السؤال: عندما قلتم إن من ارتكب الزنا، فإن قول القلب ما زال موجودًا عنده، مع أنه فقد عمل القلب، فلماذا لم نقل لمن ترك الصلاة: إنه فقد عمل القلب، وقول القلب ما زال موجوداً عنده؟ أرجو بيان ذلك مفصلاً وحكم تارك الصلاة؟ سواءٌ أكان منكراً أم تاركاً عمداً أم تاركاً تكاسلاً، وهل بعد دعوة تارك الصلاة مرات كثيرة وإصراره على الترك يقال: إنه كافر؟
    الجواب: الموضوع الأول ليس هناك داع لأن نطيل فيه؛ لأننا قلنا: إن هناك أركان أساسية: الأركان الخمسة من الإسلام، والستة من الإيمان، فهذه أساسية وبفقد أحدها يفقد الإيمان أو الإسلام، وأما بقية الأشياء فهي واجبات، وتختلف عن الأركان الأساسية، وهناك -أيضاً- خلاف أساسي بين ترك المأمورات وبين ارتكاب المحرمات، فارتكاب المحرمات مهما كثر مع الإتيان بالأركان الخمسة فإن صاحبه يبقى مرتكباً لكبيرة، كما في حديث صاحب البطاقة -وكما تعلمون- أنه لم يعمل خيرًا قط، لكن عنده التوحيد فنفعه ذلك التوحيد، وحديث المذنب الذي يأتي بصلاة وصيام وزكاة، لكن الأعمال السيئة تأخذ كل ذلك حتى يطرح في النار، فالأحاديث كثيرة تدل على أن ارتكاب المحظورات جميعاً، ليس مثل ترك الواجبات جميعاً، بل ترك الواجبات جميعاً يخرج من الملة، ولو أن أحدًا لم يعمل من الواجبات شيئاً، فهذا لا يكون مؤمناً قط، لكن لو فعل المحرمات جميعاً ما عدا الشرك؛ فإنه لا يخرج من الملة، فهذا فارق أساسي بين شارب الخمر أو الزاني وبين تارك الصلاة.
    أما قضية ترك الصلاة منكراً أو غير منكر، فإن كان المقصود بالإنكار أنه يقول: إن الله لم يوجب الصلاة، فهذا أصلاً قليلٌ جداً من يقول من المنكرين أو من المكذبين ذلك، فهل سمعتم أحدًا يقول: الصلاة ليست واجبة!
    ولنأخذ مثالاً واضحًا، الذين تركوا الزكاة في عهد الصديق رضي الله تعالى عنه، هل قالوا: إن الله لم يفرض علينا الزكاة، وأنكروا الآيات التي نزلت في الزكاة؟ لا. ولو أنكروها ما احتاج أبو بكر إلى أن يقول: فرقوا بين الصلاة والزكاة، لأن من أنكر آيات في القرآن، ولو حرفًا واحدًا فإنه يكفر، لكنهم لم يلتزموا بها وأنكروا دفعها، فالذي يرفض أن يصلي فإنه يكفر، وإن كان مقراً بأن الصلاة واجبة، ولو قال: أنا أقول أنها واجبة لكن لا أصلي، فهذا مثله مثل من يقول: أشهد إنك رسول الله ويقاتله، أو مثل من يأخذ المصحف، ويقول: أشهد أن هذا كلام الله، ويدوس عليه برجله والعياذ بالله! وهذا أشد كفرًا.
    ولهذا نقول: إن الكفر أنواع: منه كفر الإباء، ومنه كفر الجحود، وكفر الاستحلال.
    وهذه هي العين التي نعرف بها حكم تارك الصلاة: كفر الإباء وكفر الجحود.
    فكفر الإباء: كإبليس أُمر بسجدة واحدة، فقال: ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ))[الأعراف:12] واستكبر وأبى: ((إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ))[البقرة:34] فتركها عناداً ولم ينكر إبليس أن الله أوجب عليه السجدة، فمن قال أيضاً: لا أصلي، وامتنع عن أداء الصلاة، فهذا كفره من جنس كفر إبليس لما ترك السجود، ولذلك يوم القيامة إذا أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الناس أن يسجدوا، يأتي هؤلاء فإذا ظُهورهم كالخشب، كما جاء في الحديث الصحيح، وهذا من الأحاديث الدالة على أن تارك الصلاة يكفر كفراً ينقله من الملة.
    أما كفر الجحود كمثل أن يقول: إن الله ما أوجب علينا الصلاة، ولو كان يصلي، فهذا كافر، أو يقول: الخمر حلال، ولو لم يشرب الخمر، فهذا كافر، فهذا نوع من الكفر.
    فإذا جئنا بتارك الصلاة -كما يقول هذا السائل- وكرر عليه مرات ولم يصلِ هل نقول إنه كافر؟ نفرق بين الأحكام الظاهرة وبين الأحكام الباطنة؛ لأن هذه قضية خطيرة، فالأحكام الظاهرة تعطى لكل من أظهر شعائر الإسلام، وإن كان في حقيقته كافراً لا إيمان له، كما كان المنافقون يعطون أحكام الإسلام، فتارك الصلاة -مثلاً- الذي يعيش في المجتمع المسلم مع المسلمين، ويؤدي بعضاً ويترك بعضًا، أو لا يصلي بالمرة، نحن نعطيه الأحكام الظاهرة، فلو أنه مات وجيء به إلى المسجد فإننا نصلي عليه جميعاً، ولو أنني بذاتي أعرف أن هذا تارك صلاة ونصحته، وأصر على ترك الصلاة، فأنا بذاتي لا أصلي عليه.
    إن أكثر أسباب الخلاف والشقاق بين الدعاة المعاصرين اليوم، ومما أوقع بينهم الجدل والخلاف وتشعب الآراء، وكذلك بين المتناظرين قديماً، هو عدم التفريق بين الأحكام الظاهرة والأحكام الباطنة، أي في إجراء الأحكام الظاهرة والأحكام الباطنة، فالقاعدة التي نقولها ونكررها: ليس كل من كان كافراً في الحقيقة أو في الباطن تجرى عليه الأحكام الظاهرة للكفار، وما دليل ذلك؟ نقول: أعظم دليل واضح، هو: حكم المنافقين في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنهم كفار في الباطن والحقيقة، ومع ذلك تجرى عليهم أحكام الإسلام الظاهرة، فلا يلزم من القول بكفر امرئٍ ما باطناً، أن تجرى عليه أحكام الإسلام ظاهراً.
    ولو أخذنا القضية التي سأل عنها السائل -تارك الصلاة- نقول: تارك الصلاة، الذي لا يصلي فعلاً، هذا بحسب معرفته، فإجراء الأحكام عليه، يختلف الحال بين زوجته -مثلاً- التي تعيش معه في البيت، والتي تعلم يقيناً أن هذا الزوج لا يصلي، وبين حال رجلٍ لا يعرفه من الناس، ولو ذهب وقابله في أي مكان لسلَّم عليه، ولو ذبح لأكل ذبيحته، ولو تكلم معه بكلام الإيمان أو الإسلام لخاطبه بذلك، فهذا رجل يختلف حكمه في حق زوجته التي يجب عليها شرعاً أن تطالب القضاء بإلغاء العقد، وألا تمكنه من نفسها؛ لأنه كافر بالنسبة لها، وبين الذي لا يعرف حقيقته من الناس، ومع ذلك يعامله معاملة المسلمين، فنحن أمرنا أن نجري أحكام الإسلام الظاهرة على كل من يدعي الإسلام في دار الإسلام، ولكن لا يعني ذلك أنهم في الحقيقة وفي الباطن وعند الله أنهم مؤمنون، فلو مات هذا الرجل فإن من كان يعرف حقيقته وأنه تاركٌ للصلاة بإطلاق، فإنه لا يصلي عليه بل يتركه، لكن إذا قدمت جنازة في المسجد صلى عليها أناسٌ كثيرون، فإن هذا يصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، ويرث ويورث، بحسب الأحكام الظاهرة التي تجرى عادة، لكن لو تيقنا بأحد الأمرين، فإذا جيء بتارك الصلاة أو تارك أي ركن من الأركان إلى قاضي المسلمين الشرعي وناظره، بأن أقام عليه الحجة ثم امتنع عن أدائها، فحكم القاضي عليه بالقتل، فقتل، فنقول: هنا اتضح الحكم، هذا هو الذي لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين؛ لأن البينة قامت، واتضح لدينا الدليل بحكم القاضي، وكما تعلمون حكم القاضي أيضاً هو على الظاهر، أي ليس كل ما حكم به القاضي هو مطابق للحقيقة، لكننا أيضاً نحكم على الظاهر في هذه الحالة، فلا يجوز لنا أن نصلي عليه، ولا يجوز أن يرث ولا يورث؛ لأننا تيقنا أنه تاركٌ للصلاة فعلاً، وأنه قد قامت عليه الحجة، وقتل وهو لم يصلِ، فهذا كافر على الحقيقة.
    وفي حالة الإنسان المجهول -كما قلنا- فهذا يظل كذلك، إنسان يؤدي فرائض ويترك فرائض، ولا يوجد أحد يتابعه، ويستقرئ حاله بالدقة وبالتفصيل، فهذا في الحقيقة مثل المنافقين الذين يدخلون في الإيمان ويخرجون منه، يدخلون في الكفر ويخرجون، ثم يعودون إلى الإيمان، فهم كما قال تعالى: ((مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ))[النساء:143] مرةً مع المؤمنين ومرةً مع الكافرين، فالحال التي يؤدي فيها الصلاة يكون مع المؤمنين، والحال التي يتركها يكون مع الكافرين، ولذلك حذيفة رضي الله عنه، لما أطلعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أسماء المنافقين بأعيانهم، فكان عمر ينظر، فإذا رأى حذيفة يصلي على فلان صلّى؛ لأنه معروف أنه غير منافق، وإن رأى حذيفة لم يصلّ، لم يصلّ، أما الصحابة الذين لا يعرفون عنه شيئاً، فإنهم يعطونه الأحكام الظاهرة، فيصلون عليه، ويرثه أولاده وزوجاته فيأخذ كل الأحكام الإسلامية الظاهرة، لكن هو في الحقيقة كافر ومنافق، ويعلم ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي، وعلَّم ذلك حذيفة، وهو يعلمهم، ويعرفهم بأعيانهم.
    فمن عرف هذه القضية زالت عنه الشبهة، وهو أننا عندما نقول: أن تارك الصلاة كافر، إذاً معنى هذا أنني إذا رأيت شخصاً لا يصلي وكلمته مرة بالصلاة ولم يصلِ، فنقول: أنت ما دمت لم تصل إلى الحقيقة وإلى البينة، فإنه لا يزال حكمه -عندك- أنه مجهول، ولا تعلم هل قامت عليه الحجة أو لا؟ وهل هو مواظب على أدائها تماماً أو مفرط فيها؟ فما دامت هذه الأمور والتساؤلات موجودة، فأنت تجري الأحكام الظاهرة التي يأخذها كل من يظهر الإسلام، وكل من يدعي الإسلام في دار الإسلام، فإذا جئنا -مثلاً- إلى من يذبح نأكل ذبيحته في دار الإسلام وهو يدعي الإسلام، فإن من البدع أن نقول: لا آكل إلا ذبيحة من تأكدت يقيناً أنه موحد، صحيح العقيدة.
    فهذا أصلاً من الحرج الذي رفعه الله تعالى عن هذه الأمة، ومن حرَّجوا على أنفسهم بذلك، فقد خالفوا هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وعقيدة أهل السنة والجماعة؛ ولو مررت بأناس وهم يصلون في مسجد، فإنك تصلي وراءهم جماعة، ولا تقول: لا أصلي إلا خلف من تيقنت أن عقيدته صحيحة، لو فعلت ذلك وقلته لكان هذا من فعل أصحاب البدع، لا من فعل أهل السنة والجماعة.
    إذاً نقول: الأحكام الظاهرة تختلف، فيمكن يكون هذا الإمام في الباطن أنه منافق، لكن لا نرتب على ذلك حكماً ظاهراً إلا على بينةٍ ويقين ظاهر، وأما الأحكام الباطنة فهذه بين العباد وبين ربهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعد أصحاب مسجد الضرار أنه يصلي فيه إذا رجع من تبوك؛ لأنه لا يعلم الغيب، ولكن لما أخبره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأن هؤلاء اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل، وأمره بعدم الصلاة فيه، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امتثل ذلك وامتنع عن الصلاة فيه وإن كان مسجداً، لكن بعد أن علم أنه مسجد ضرار ونفاق، فإنه لم يصلِ فيه.
    وهكذا نحن ما دمنا لا ندري، فيمكننا أن نصلي في أي مسجد وراء أي إنسان، وهكذا الشيء نفسه في أصحاب البدع، فمن جاهر بالبدعة وقامت عليه الحجة فإنه تترك الصلاة خلفه زجراً له وردعاً، وأولى من ذلك لو كان الرجل ممن يُقْتدى به، فإن في حقه أوجب ألا يصلى خلفه لأن الناس يقتدون به، لكن من لم يعرف حقيقته، وصلى خلفه فصلاته صحيحة كاملة ومجزئة، بل إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في أول أمره لا يصلي على من جيء به وعليه دين، ويقول: {صلوا على صاحبكم} ثم لما وسع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليه قال: {أنا ولي كل مسلم}.
    فصار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كافلاً لكل مسلم يموت ولا يجد من يقضي عنه دينه، وليس في ماله شيء، فصار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي عليه، وهذه الأعمال كان يعملها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زجراً لأصحابه عن التورط في الدين -مثلاً- فلذلك من حق الإمام الشرعي أو من حق من يقتدى به من أهل العلم أنه يترك الصلاة على من مات مصراً على بدعة -نقول: من حقه، ولا يجب عليه- لينـزجر الناس وليرتدعوا، لكن من لم تقم عليه البينة الشرعية والحكم الشرعي القاطع بأنه كافر، فهذا لا يأخذ أحكام الكفر الظاهرة، فهذا موجز لهذه القضية.
  6. الجمع بين أحاديث الوعد والوعيد

     المرفق    
    السؤال: كيف نوفق بين قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن تارك الصلاة كافر، وقوله: {من قال لا إله إلا الله صادقاً من قلبه وجبت له الجنة} والحديث الذي يصف أهل آخر الزمن أنهم لا يعرفون إلا قول لا إله إلا الله، ولكن يدخلون الجنة؟
    الجواب: الحديث الأول ليس فيه إشكال، من قال: {لا إله إلا الله صادقاً من قلبه..}، ونحن نقول: من كان صادقاً من قلبه فإنه لابد أن يصلي قطعاً، وهذا دليل على أن عمل القلب موجود لديه، ومن وجد لديه عمل القلب فلابد أن يوجد لديه عمل الجوارح، ولا خلاف في ذلك.
    أما آخر الزمان، فإن السائل يقصد حديث حذيفة لما سأله الرجل، قال له: { ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟، قال: تنجيهم من النار }.
    وهنا نأخذ قاعدة، وهي أنه يجب أن نفرق بين القاعدة الكلية أو الحكم الأصلي المشروع المتبع، وبين العوارض.
    فالأصل فيك أنك تتوضأ وتقيم الصلاة، لكن -مثلاً- إذا كنت تجاهد في سبيل الله ثم أسرك الكفار وقيدوك ومنعت من الماء، فإنه يجوز لك أن تُصلي بدون وضوء، أو أن تصلي إلى غير القبلة، أو تصلي بدون قيام، كذلك لو ألجئت في دار الكفر، ألا تظهر إسلامك فيجوز لك أن لا تظهر شهادة أن لا إله إلا الله أو الصلاة بالمرة، فهذه أحكام عارضة، وليست هي الأصل.
    لكن لو أتى شخص وقال: أنا أصلي بدون وضوء، لأن الصلاة جائزة بدون وضوء! قيل له: ما الدليل؟ قال: لأن الإنسان إذا حبس في مكان وليس عنده ماء فإنه يجوز له ذلك، لكن نقول: ذاك محبوس، أما أنت فعندك الماء ولست محبوسًا، ففرق بينهما.
    ففرق بين الذي يكون القرآن والسنة بين يديه، ويعرف أن الصلاة واجبة، والمساجد يؤذن فيها، وبين الذين هم في آخر الزمان كما في حديث حذيفة: { يدرس الإسلام كما يدرس الثوب، وينسى الدين، حتى يأتي العجوز والشيخ الكبير فيقولون: أدركنا قوماً يقولون: لا إله إلا الله، فنحن نقولها. فقال الراوي: وما تنفعهم لا إله إلا الله، قال حذيفة رضي الله تعالى عنه: تنجيهم من النار } لأنه ما بلغهم من الدين إلا هذه الكلمة، فهؤلاء كمثل المقيد الذي لا يستطيع أن يصلي إلا بدون وضوء، أو لا يستطيع أن يصلي إلا وهو جالس، ولا يستطيع أن يقف، فهذا غاية ما بلغهم من الدين، فهل نقول: إذاً ما دام هؤلاء كذا فنحن الذين بلغنا الدين كله ونستطيع أن نؤدي الفرائض أن نكون مثل حال هؤلاء، ولا نصلي أبداً، ثم ننجو من النار؟ هذا لا يمكن؛ لأن هناك فرقاً.
    فعارض الأصل: الإكراه والجهل وعدم البلاغ، فهذه عوارض تعرض، لكن القاعدة الكلية الأصلية تبقى دائماً هي الأصل، وهذه الاستثناءات وإن وردت فإنها لا تلغي القاعدة، لكنها تستثني الحالة الخاصة التي وردت فيها.
    ولذلك حالة الجهنميين الذين يخرجون بعد أن يأمر الله تعالى بإخراج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان أو من خير، كما في رواية ففي رواية: {فيتحنن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى } وهي في المسند: { فيخرج قوماً لم يعملوا خيراً قط } كما ورد في إحدى روايات أبي سعيد عند مسلم: { فيخرج قوماً لم يعملوا خيراً قط } فهذا مثل الناس الذين في آخر الزمان ولم يبلغهم إلا هذا الكلام، ولم يعملوا خيراً قط ولا عرفوه.
    وأيضاً يخرج من النار الرجل الذي ورد في رواية أبي عوانة أنه هو آخر الناس خروجاً من النار، وهو الذي قال لأهله من بني إسرائيل: {إذا أنا مت فاحرقوني واسحقوني وذُرُّوني في البر والبحر، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين} فورد في رواية أن هذا الرجل هو { آخر أهل النار خروجاً من النار }، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يخرجه من النار، مع أنه شك في القدرة، سواءً قيل إن هذه الرواية شاذة، أم أنه هو هذا الرجل أو غيره، فالمهم أن هذا الرجل كان في حالة خوفٍ وإجلالٍ شديدٍ -كما في آخر الحديث- {ثم يأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى البحر أن يلقي ما فيه، والبر أن يلقي ما فيه، فيجمعه فيعيده خلقاً سوياً، كما بدأ، فيقول: يا عبدي! ما حملك على ما فعلت؟ قال: خوفك يا رب} فمن خوف الله نسي قدرة الله، ونسي أنه على كل شيء قدير، ونسي الإيمان بالبعث، ونسي أصلاً من أصول الدين.
    فنقول: هذه الحالة لا نجعلها معيارًا ومقياسًا لنفي القدرة، فيقول شخص: نفي القدرة لا يلزم القول به عدم دخول الجنة.
    فإذاً هناك حالات أو عوارض تعرض، تستثنى من القاعدة الأصلية، ولكنها لا تهدم القاعدة الأصلية أبداً، وكذلك حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، لما قال: {خمس صلوات فرضهن الله في اليوم والليلة، من حافظ عليهن دخل الجنة، ومن لم يحافظ عليهن فهو إلى رحمة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له} فهذا لا يدل على أن تارك الصلاة تحت المشيئة كصاحب الكبيرة؛ لأن المحافظة على الصلاة شيء، ومجرد الأداء شيء آخر، فالذي يصلي الفجر الساعة السابعة، والظهر الساعة الرابعة، والعصر الساعة السادسة، هذا نقول: إنه غير محافظ على الصلاة، والذي ينام مرة ويقوم مرة، هذا لا يسمى محافظاً على الصلاة، والله تعالى لما مدح المؤمنين قال: ((وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ))[المؤمنون:9] ولم يقل: يؤدون الصلاة، فالذي يؤدي الصلاة هو مسلم، أما الذي يحافظ على الصلاة فنقول: إنه مؤمن.
    فالمحافظة درجة أعلى من الأداء، وليس في الحديث دليل على أن من لم يصلِ بالكلية فهو تحت رحمة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. فالمحافظة على الصلاة أن تقام بهيئاتها وأركانها وبواجباتها ومستحباتها في أوقاتها كما شرع الله، فالإهمال فيها والتكاسل ليس محافظةً عليها.
    فهذا الحديث لا يتعارض مع الأدلة الصحيحة الصريحة المروية عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وجوه كثيرة في أن تارك الصلاة تركاً كلياً أنه كافرٌ لا إيمان له.
    وهنا أمر آخر، وهو أن من لم يفهم شيئًا في الدين، فإنه يؤدي إلى شكه في دينه، ولذلك وجدت الحلقات العلمية وألفت الكتب، وأُرْسِلَ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحابة، فالذي لا يفهم يجب عليه أن يتعلم، والذي لديه بعض الشك يجب عليه أن يسأل الراسخين في العلم الذين ليزيلون عنه الشك والشبهة، ليصل إلى مرتبة اليقين، ولو أننا لم نؤمر أو لم نكلف أو لم نعلّم من الدين إلا ما كان يفهمه العامة، لما علم من دين الله شيء، وإنما يجب على العقول أن تحاول، وأن تتعلم هذا الدين ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
    لكن كما ذكر -أيضاً- شارح العقيدة الطحاوية رحمه الله في أول العقيدة، فقال: يجب على كل قادر أن يُعلِّم هذا العلم وأن يتعلمه، لكن من عجز عن ذلك، فلا يلوم من قام به، بل يجب عليه أن يفرح، إذا وجد من يقوم بذلك؛ فمن قام به فالحمد لله، وأما من يقول: إن هذا الأمر إنما هو إحياء لخصومات قديمة فهذا صحيح، ويجب أن تظل هذه الخصومات قائمة، ما دام هناك خوارج يكفِّرون المسلمين بالذنب، فيجب أن أظل خصماً لهم، وأن تستمر الخصومة بيني وبينهم إلى قيام الساعة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {لو أدركتهم لأقتلنهم: قتل عاد وإرم} أي: قتل عاد وثمود، فالخصومة قائمة ويجب أن تقوم.
    ومن يقول: إن من يصدِّق بقلبه -فقط- ينجو عند الله ويدخل الجنة، ولو كان تاركاً للصلاة والزكاة والحج والصيام، فهذا يجب عليّ أن أخاصمه، ومن منهج أهل السنة والجماعة أن الجدال يكون بالتي هي أحسن، وأن الحجة تقام أولاً، وأن كل مسلم يفترض فيه حسن النية، حتى يثبت خلاف ذلك، فهذه كلها أمور موجودة في مذهب أهل السنة والجماعة، لكن يجب علينا أن نتحدث عن أمور العقيدة، وعن مسائل الإيمان، ولو غضب من غضب، ونحن نعلم أننا عندما نقول هذا الكلام فإن أهل البدع كـالخوارج والمرجئة يغضبون، ولكننا نحن أهل السنة والجماعة لا نبتغي رضا الناس بسخط الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإنما نبتغي رضا الله عز وجل وإن سخط الناس جميعاً، فلا يهمنا ذلك، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبر -وهو الصادق الأمين- أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فهذا الخبر من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتخلف.
    أما موقف المسلم من هذه الفرق، فقد بيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الفرقة الناجية واحدة، وبينت الأحاديث الصحيحة، ومنها ما جاء في رواية جابر قال: {لا تزال عصابة من أمتي قائمة يقاتلون على أمر الله} وفي حديث عبد الله بن مسعود، قال: {ثم تخلف من بعدهم خلوفٌ يقتدون بغير هديي ويستنون بغير سنتي -فما موقفنا منهم؟- قال: فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن} ففي الحديث الأول (يقاتلون)، وفي حديث ابن مسعود (يجاهدون)، فقتال أهل البدع وأهل الباطل ومجاهدتهم من أساسيات حفظ الدين والتوحيد، ولابد منها، ولذلك فإن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم جميعاً من كان مع علي رضي الله عنه ومن كان مع معاوية رضي الله عنه، من أهل الشام وأهل العراق، فرحوا بقتل الخوارج واستئصالهم؛ لأن هؤلاء أصحاب بدعة، بينما القتال الذي دار بين الصحابة كان مكروهاً عند الجميع، ولذلك فرحوا لما تنازل الحسن رضي الله عنه عن الخلافة، وفرحوا لما التأم الصف وتوحدت صفوفهم، لأن العقيدة واحدة -والمفروض أن من كان على عقيدة واحدة، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم لا يتقاتلون أبداً- ففرحوا بذلك، لكن فرحوا بأنهم قاتلوا الخوارج، وفرحوا بأنهم حققوا ما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قتالهم.
    فهذا جزء من حديثٍ طويل حول موقفنا من أهل البدع في الجملة.
    وأما على التفصيل وعلى التعيين فالأمر يختلف، لأنك قد تطمع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يهدي رجلاً منهم، فعليك أن تعامله بالرفق، وهذا لا شك فيه، وأن تتعامل معه بالتي هي أحسن، وأنك تفترض فيه حسن النية، أو يحمل على المحمل الحسن، فهذه القضايا معروفة في مذهب أهل السنة والجماعة، لكن بيان الحق -في ذاته- نقوله مهما يكون مخالفاً.
    فمثلاً الإمام أبو حنيفة أفضل منا جميعاً، وهو مجمع على فضله وجلالته ومكانته لكن مع ذلك لما أخطأ في مسألة الإيمان وجب أن يبين خطؤه في هذه المسألة، وهذا لا ينقص من قدره لأنه يمكن أن ينتقص من قدر أي إنسان، ولا يمكن أن يتنقص من قدر ديننا، فيسبب ذلك اعتقاد غير الحق حقاً، ويُعْتَقد الخطأ صواباً، مهما كان هذا الإنسان، إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو مبلغ عن الله الذي لا يخطئ في هذا الأمر.
  7. قبض أرواح المؤمنين العصاة

     المرفق    
    السؤال: كما هو معروف في اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فهل هذا المؤمن العاصي تقبض روحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، أفتونا مأجورين، مع ذكر الدليل إن وجد؟
    الجواب: الذي جاء في الحديث الطويل -في المسند- أن المؤمن تقبض روحه ملائكة الرحمة، وأن الكافر أو المنافق تقبض روحه ملائكة العذاب، ولكن كون المؤمن الذي ختم له في النهاية بالإيمان، فإنه تقبض روحه ملائكة الرحمة، ولا يعني ذلك أنه قد لا يعذب، بل جاء ذلك في حديث صحيح، هو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، دخل الجنة} وإن عُذب قبل ذلك، وإن أصابه ما أصابه، فالمؤمنون تقبض أرواحهم ملائكة الرحمة، وإن كانوا عصاةً -هذا الذي يظهر لي إلى حد الآن والله تعالى أعلم- ثم بعد ذلك قد يعذب ثم يكون مصيره إلى الجنة.
    ولا شك أن خروج الروح وقبضها واستقبالها يتفاوت فيه الناس مثل تفاوتهم في أعمال الإيمان، فمن الناس من اهتز -مثلاً- لموته عرش الرحمن، كـسعد رضي الله تعالى عنه، فهذا قبض روحه يختلف عن قبض روح أي مسلم، وهكذا.
    فحتى هذه الأمور يدخلها التفاوت، وحتى استقبال الأرواح يدخله التفاوت، وفي آخر سورة الواقعة، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما ذكر قوله: ((فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ))[الواقعة:86]، قال: ((فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ))[الواقعة:88].
    ثم ذكر أصحاب اليمين فذكر فيها استقبال المقربين أنه غير استقبال أصحاب اليمين والمقربون السابقون هم الذين أدوا جميع الواجبات وتركوا جميع المحظورات، وأتوا بالإيمان الواجب كاملاً، ولكن أصحاب اليمين هم قوم اقتصروا على الإيمان الواجب بدون مكملاته التي هي المستحبات، فهؤلاء أدوا الفرائض فقط، وأولئك زادوا بالتقرب في أعمال البر، فكان أولئك سابقين , وكان أولئك أصحاب اليمين، وكلاهما يستقبل على أنه مؤمن، لكن هذا استقباله يختلف عن الآخر، أما إن كان من أصحاب الشمال -والعياذ بالله- فأولئك لهم استقبال آخر، نسأل الله عز وجل أن يعافينا وإياكم منه.
  8. تقديم قول الشيخ والجماعة على قول الرسول

     المرفق    
    السؤال: ما حكم من يقدم قول شيخه وجماعته على قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
    الجواب: هذا سؤال لا تعلق له بموضوع الإيمان إلا من ناحية: إن كان السائل يقصد أن الإنسان إذا بلغه الحديث الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أعرض عنه إلى قول إمام أو شيخٍ أو مفتٍ، فإن ذلك يكون طعناً في إيمانه ونقصاً فيه، وهذا لا شك فيه.
    فإن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وحده الذي أمرنا الله تعالى بطاعته، وأمرنا إذا اختلفنا في شيء أن نرده إلى الله ورسوله، وأما غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه مهما بلغ من العلم والاجتهاد، فإنه ليس له علينا الطاعة المطلقة، وإنما يطاع في الحق والصواب، وإذا أخطأ فلا يجوز لنا أن نتابعه فيه إذا علمنا أنه أخطأ، وهذا الحال يتفاوت ويختلف، فإن الإنسان منا -نحن طلبة العلم- قد يستطيع أن يحقق بمسألة من المسائل حتى يعرف الدليل القوي فيها على أي مذهب، فلا يجوز له حينئذٍ أن يعدل عنه إلى غيره، وأما العامي الذي يقلد إمامًا من الأئمة، ولا يدري عن هذه الأمور، فهذا غير ذلك، وكذلك -مثلاً- لو قيل لك بحكم من أحكام العبادات، كأحكام الصلاة ونحوها، على أدلة شرعية استطعت أن تعرف صحتها، فيجب عليك أن تتبع الدليل الصحيح، لكن لو أتيت في حكم من أحكام المعاملات -مثلاً- أو أي حكم اجتهادي محض، فلك حينئذٍ أن تختار رأي أحد الأئمة إن كنت لا تستطيع أن تعمل نظرك واجتهادك لتعرف هذه القضية.
    فالمسألة فيها تفصيل، لكن الذي يهمنا -ونحن نتكلم عن موضوع الإيمان- أن نقول: إن من قدّم قول أحدٍ على قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كائناً من كان وقد اتضح لديه معناه نصاً، لأن الحديث قد يقبل معناه أكثر من احتمال لكن ما كان المعنى نصاً أو راجحاً، فإن هذا لا شك أنه دليل على ضعف إيمان هذا الرجل، ودليل على ضعف متابعته للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله تبارك وتعالى يقول: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً))[النساء:65].
    نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن يؤمنون به حق الإيمان، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.