المادة    
  1. الإيمان عند أهل السنة والجماعة

    أكّد أهل السنة والجماعة ذلك بقولهم الإيمان: قول وعمل يزيد وينقص، فالزيادة والنقصان تعتري عمل القلب، وعمل الجوارح، فالإنسان الذي يصلي الفرائض جميعاً ويصلي النوافل، ويتهجد من الليل ما شاء الله، هو أكمل من الذي لا يؤدي إلا الفرائض أو من الذي لا يؤدي الفرائض بالمرة.
    كذلك الأعمال الباطنة تزيد وتنقص، فيكون فلان أكثر يقيناً وتوكلاً وإخلاصاً من فلان، وهذا هو الواقع والظاهر.
    إذاً: فالإيمان على هذا يزيد وينقص، ولو نقص إيمان القلب إلى حد أن اليقين أصبح شكاً -شك الإنسان في دينه- هنا يخرج الإنسان من الملة -والعياذ بالله-.
    وأيضاً في الأعمال الظاهرة: لو أن إنساناً لم يأت بشهادة أن لا إله إلا الله، فهذا لا يكون مسلماً أبداً بإجماع المسلمين، وكذلك لو ترك الصلاة مطلقاً، فقد أجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على أن تارك الصلاة كافر، كما نصت على ذلك الأحاديث الصحيحة الكثيرة، وثبت إجماع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على ذلك.
    فالفارق الذي نعرف به الفرق بين مذهب الفرقة الناجية وغيرها هو أننا نعرف لماذا يقول الصحابة أو أهل الفرقة الناجية: إن الإيمان يزيد وينقص.
  2. الإيمان عند الخوارج والمعتزلة والمرجئة

    تقول الخوارج: إن الإيمان قول وعمل، لكن لا يقولون: يزيد وينقص، فعندما قال أهل السنة والجماعة: إن الإيمان حقيقة مركبة تقبل الزيادة وتقبل النقصان، وقالت الخوارج: الإيمان ليس حقيقة مركبة، وإنما هو حقيقة مشتركة، أو قدر مشترك كلي، لا يزيد ولا ينقص، فالإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، فوقع الخلاف في صاحب الكبيرة.
    وهنا نعرف مع من يكون الحق في مسألة صاحب الكبيرة، وهو من زنى أو سرق أو ارتكب كبيرة، فقالت الخوارج: هذا يكفر، لأن الإيمان عندنا جميع الطاعات، وهو قدر كلي مشترك، وحقيقة واحدة مشتركة كلية، فليست مركبة، وإنما هي واحدة، فمن زنى ومن سرق، فقد فَقدَ هذه الحقيقة تماماً، إذاً هو كافر خارج من الملة.
    فجاءت المعتزلة وهي قريبة من الخوارج فقالوا: لا نقول إنه كافر، ولا نقول إنه مؤمن، ولكن هو في منـزلة بين المنـزلتين، لكنهما اتفقتا على أنه ليس بمؤمن، ولا يطلق عليه اسم الإيمان.
    وقالت المرجئة: إنا نظرنا في الأدلة -من كتاب الله ومن سنة رسوله- فوجدنا أن الزاني أو شارب الخمر أو العاصي لم يحكم عليه بحد الردة كالذي كفر بالله وبرسوله.
    إذاً: هذا مجرد معاصي، والإيمان عند المرجئة هو حقيقة واحدة مشتركة وليس حقيقة مركبة، أي: شيء واحد لا يزيد ولا ينقص.
    فقالوا: إذاً: ما دام الشارع فعل ذلك، -لم يحكم على صاحب الكبيرة بحد الردة- فمرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، وقالوا: إنه كامل الإيمان لأن الإيمان عندهم شيء واحد أصلاً لا يزيد ولا ينقص، إذاً الإيمان كله متحقق لدى صاحب الكبيرة، والخوارج يقولون: الإيمان كله منفيٌ عن صاحب الكبيرة.
    فكان هذا الغلو وهذا السخف من هاتين الفرقتين.
    ولكن الأمة الوسط والفرقة الناجية هم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين ظهرت الخوارج في أيامهم، وناظروهم في ذلك كما ناظرهم ابن عباس رضوان الله تعالى عليهم.
    أما الإيمان الواجب أو الإيمان الذي يطلق وهو اسم مدحٍ في الإنسان، ودرجة عليا، وهو كمال الإيمان، فهذا يُنفى عن صاحب الكبيرة، ولكن نقول: إن عمل الجوارح نقص عندما زنى وعملت جارحته، وفقد عمل قلبه، أي إيمانه القلبي.
    إذاً عمل القلب فقد عند الزاني، لكن هل فقد قول القلب؟ هو قد يكون مستحلاً فيكفر، لكن الكلام مختص بمرتكب الكبيرة غير المستحل.
    فنقول: هذا فَقَدَ عمل القلب، الذي هو الالتزام والانقياد والإذعان لأمر الله الذي حرم الزنا، وهو لما زنى لم يكن لديه عمل القلب، لكن هل نقول: إنه فقد قول القلب، الذي هو الإقرار والاعتقاد الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؟ الصحيح أنه ليس هناك دليل -لا من الشرع ولا من واقعه- أنه فقد قول القلب، فهو تارك لجزء من الإيمان الذي هو عمل القلب، ولم يترك الجزء الآخر الذي هو قول القلب.
  3. متى يكفر الإنسان

    لا يكفر الإنسان ولا يحكم بكفره إلا إذا ترك قول القلب الذي ينخرم بفقدان عمل القلب بالكلية، أو بفقدان عمل الجوارح بالكلية؛ لأنه إذا انتفى هذا أو هذا بالكلية انتفت الحقيقة المركبة التي هي الإيمان، والتي يتركب منها هذا الإيمان، وقد أوضح الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك في القرآن، وفي المثل الذي ضربه، والذي به نفهم جميعاً الفرق بين مذهب أهل السنة والجماعة وغيرهم في الإيمان، فيقول الله تبارك وتعالى: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا))[إبراهيم:24-25] والشجرة الطيبة هي: شجرة الإيمان، التي هي شهادة أن لا إله إلا الله، ولو تصورنا نحن الآن هذه الشجرة لعرفنا حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة.
    فهو مثلما قلنا: إنه يتركب من روح وجسد، والشجرة تتكون من الجذع ثم الفروع ثم الأوراق والثمرة، وهناك جانب أسفل سطح الأرض وهو الجذور التي تمتد إلى أسفل والتي تتغدى بالماء وتدفع الغذاء إلى الأغصان فتنمو، فإذا كثر الغذاء كثرت هذه الفروع وإذا قلَّ قلَّت، فهذا المثال ينطبق تماماً على حقيقة الإيمان.
    وإذا قارنا ما يقول هؤلاء، وما يقول أولئك، عرفنا أولاً حقيقته، ثم عرفنا ثانياً أنه هو الحق، فهذه الشجرة إذا قُطع غصن منها، فهو مثل مرتكب الكبيرة، أو مثل من كترك واجباً من الواجبات غير الأركان الخمسة، ترك -مثلاً- فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو كان من أهل الغيبة أو النميمة، فنقول هذا الإنسان ذهب عنه غصن من هذه الشجرة، لكنه لم يفقد الشجرة بالكلية، ولهذا على قول الخوارج أن مرتكب الكبيرة قد خرج من الدين، كمن يقول: الذي قطع غصناً من الشجرة، فإن الشجرة لا وجود لها.
    لكن المرجئة بالعكس من ذلك، فالمرجئة يقولون: الإيمان يكون فقط في القلب، ولا ظاهر له، فنقول لهم: لو أن إنساناً جاء واجتث الشجرة من فوق الأرض، ثم دفنها تماماً، فهل نطلق على هذا الذي في الأرض أنها شجرة؟
    أو لو نظرنا إلى أرض فضاء ليس فيها أي شيء وقال شخص: يمكن أن يكون هناك شجرة تحت هذه، بينما نحن نرى تراباً وحجارة فقط، وليس هناك شجرة، لكن يقول: لا ندري، يمكن أن يكون في الباطن شجرة.
    فنقول: هذه مكابرة ومخالفة للعقل، فهم يقولون: إن الإنسان الذي لا يعمل أي عمل من أعمال الإيمان، يمكن أن يكون الإيمان كاملاً في قلبه، إذا كان مصدقاً بالله وبرسوله، فنقول: هذا مثل الذي يرى أرضاً فضاء، ويقول: تحت هذا التراب شجرة، فنقول: هذا كذب، وإن كنا معاً نقول: إن أصل الشجرة هي الجذوع التي في الأرض، لكن الشجرة لا وجود لها.
    ولذلك نرد عليهم في دعوى تارك الصلاة، إذا أُخذ وقُيِّد وعُرض على السيف، وقيل له: إما أن تصلي، وإما أن نقتلك، قال: لا، اقتلوني ولا أصلي، وحكم عليه القاضي بأن يقتل، وقطعت رقبته، قالوا: هذا يقتل حداً، ويدفن في مقابر المسلمين، لأنهم قالوا: لوجود احتمال أن يكون عنده تصديق في قلبه، سبحان الله! أي تصديق بعد هذا الكلام، بعد أن يعرض على السيف، وبعد أن يقرر ويطلب منه التوبة، ولو تاب كذباً أو نفاقاً لتركناه، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله}.
    فحتى لو قالها كذباً، فحسابه على الله، لكن إن امتنع عن أداء الصلاة بالمرة حتى يقتل، لا يكون هذا مسلماً أبداً.
    وأما الخوارج، فالرد عليهم أوضح من ذلك، نقول لهم: إذا قلتم أن كل من ترك فريضة أو واجباً من واجبات الإيمان، فقد خرج من الإسلام بالكلية، فأنتم كمن يتصور أن من قطع من هذه الشجرة غصناً، فكأن الشجرة لا وجود لها، وكأنه قد اجتثها من أسفلها ولم يبقِ منها أي شيء.
    ولعل بضرب هذه الأمثلة، وهي أمثلة قرآنية ونبوية، يكون قد اتضح الكلام على حقيقة الإيمان، وتلازم ظاهر الإيمان بباطنه، وتلازم القول بالعمل، وهي أن الحقيقة المركبة من هذه الأربعة، يتكون منها الإيمان الذي هو الإيمان الكامل.
  4. الأدلة على أن الإيمان يزيد وينقص

    الإيمان يكون الناس فيه على درجات، لأنه يزيد وينقص، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة منها قوله تعالى: ((لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ))[الفتح:4] وكمثل قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن النساء أنهن: {ناقصات عقل ودين} والإمام البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه، جمع على مذهب أهل السنة والجماعة أدلة كثيرة وأحاديث صحيحة، تدل جميعاً على أن الإيمان عمل وعلى أن العمل إيمان، وذكر زيادته ونقصانه.
    ومن أعظم الأدلة والأحاديث الدالة على أن الإيمان يزيد وينقص حديث الشفاعة، وهو حديث صحيح ورد عن أنس وجابر وحذيفة وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري، أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يوم القيامة بعد أن يشفع النبيون والصالحون ويخرجون من شاءوا يأمرهم: {أن أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ثم يتحنن بعد ذلك، فيقول لهم: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان} فهناك أناس يجتازون الصراط كالبرق الخاطف، أو كمثل السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فهؤلاء إيمانهم ليس كمثل إيمان من يحاسب ويجتاز الصراط ماشياً أو راجلاً -مثلاً- وهذا الذي يجتاز الصراط راجلاً ويدخل الجنة بسلام، ليس مثل من يشفع فيه النبيون، ومن يشفع فيه النبيون وينجو أول الأمر ليس مثل الذي يعيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى النبيين والصالحين ويقول: {أخرجوا من كان في قلبه مثقال شعيرة} وصاحب الشعيرة أكثر إيماناً ممن في قلبه مثقال الذرة، والذي في قلبه مثقال الذرة أكثر إيماناً من الذي في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة.. وهكذا.
    فهذا يدل على الزيادة والنقصان، وهذا مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، أما المرجئة والخوارج فأنكروا الزيادة والنقصان معاً، وقالوا: النقص شك، والشك كفر، فلا يزيد ولا ينقص؛ لأن الإيمان هو حقيقة أو ماهية واحدة مشتركة، ومما يرد به عليهم في هذه المسألة المهمة أن نقول لهم: إن الإيمان لا يمكن أن يكون حقيقة واحدة مشتركة، بل هو حقيقة مركبة، كما يقول أهل السنة والجماعة، والفرق بين هذا وذاك أننا إذا قلنا: إن الإيمان حقيقة واحدة؛ فمعنى هذا أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أول الإسلام، في الوقت الذي لم ينزل فيه إلا التوحيد، لم يزد إيمانهم عنه آخر الإسلام، فقد نزل التوحيد أولاً، ثم نزلت الصلاة، ثم أخذت الشرائع تنزل ركناً ركناً، وفريضة فريضة، حتى قال الله تبارك وتعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ))[المائدة:3] فمن مات من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في السنة الثانية من الهجرة -مثلاً- قبل أن يفرض الصيام والحج، ليس بمثل ما آمن به الذي توفي بعد وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعد أن اكتملت الأركان والواجبات والفرائض، لأنه مات قبل أن تفرض، إذاً نقول: هذا دليل على أن الإيمان ليس حقيقة واحدة، وإنما هو بقدر ما يُؤْمَن به يكون الإيمان.
    لكن هل نقول: إن الذين ماتوا في بدر أقل درجة؟ لا. أهل بدر هم أفضل الأمة.
    كذلك الذين آمنوا بنوح عليه السلام مؤمنون، هل آمنوا بشريعة مثل شريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ لا، لأن شرائع الأنبياء تختلف، لكن من آمن بنوح فهو مؤمن، ومن آمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو مؤمن، هذا آمن بشيء، وهذا آمن بشيء، كذلك الأعرابي الذي جاء من البادية وعرف بعض الإيمان، هل آمن بمثل ما آمن به الصحابي الذي عرف من تفصيلات الدين والإيمان الشيء الكثير؟
    لا، فحقيقة ما آمن به هذا غير حقيقة ما آمن به ذاك.
  5. تناقض الخوارج والمرجئة في زيادة الإيمان ونقصانه

    إن الإيمان يختلف بحسب ما يبلغ الإنسان، وبحسب علمه، واجتهاده، وبحسب الآيات والشرائع التي نزلت، فهذا دليل على أن الإيمان ليس أمراً واحداً، وقضية واحدة ذهنية -كما يقولون هم- ولذلك تجدون في كتب علم الكلام أنهم يقولون: إن الإيمان هو التصديق أو الاعتقاد الجازم بكل ما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلم من الدين بالضرورة، وهذه العبارة تجدونها في جميع كتب المتكلمين من أشعرية وماتريدية وغيرهم، يقولون: وعُلم من الدين بالضرورة؛ وهذا لأن الدين عندهم قدر واحد، وشيء واحد فقط، فيضطرون إلى أن يدخلوا الإيمان بالصلاة في الإيمان لا العمل، فهم يخرجون العمل كليةً من الدين، لكن الإيمان بالصلاة وأنها واجبه، هذا هو الإيمان عندهم، يعني التصديق القلبي بها وأنها من الإيمان، وهم إن لم يدخلوها في الإيمان فإنه خطأ كبير لأنها معلومة بالضرورة، وإن أخرجوها من الإيمان إذاً نقص الإيمان، ولو تصورنا أن واحداً لا يصلي، فيكون بذلك ناقص الإيمان، إذاً هو كافر، فجاءوا بتعريف يدل على حقيقة واحدة وقضية واحدة مشتركة لا تزيد ولا تنقص، وهو أن يكون معلوماً من الدين بالضرورة.
    قالوا: هذا يجب على كل أحد أن يعلمه بهذا القدر، أما عدا ذلك، مثل: إماطة الأذى عن الطريق، فإنها ليست من الإيمان -عندهم قطعاً- ولا تدخل في تعريف الإيمان، لأنها ليست معلومة من الدين بالضرورة، فليس كل أحد يعلم أن إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، وإن كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص على ذلك.
    إذاً هم يقولون هذا، وخرج بقولنا معلوم بالضرورة ما لم يكن معلوماً من الدين بالضرورة.
    إذاً نقول لهم: هل من جاء من البادية ولم يعلم -مثلاً- أن الخمر حرام، هل تكفرونه؟ فإن كفروه، فقد ارتكبوا أشنع من قول الخوارج، وأنتم تقولون: إننا هربنا من الخوارج الذين يكفرون بالذنب، فأنتم المرجئة من أشعرية وماتريدية والمتكلمين عموماً، قلتم: إن الذي لا يدري أن الخمر حرام كافر، فقولكم يعتبر أشنع من قول الخوارج، وإن قلتم إن تحريم شرب الخمر ليس معلوماً من الدين بالضرورة، فهذه مناقضة؛ لأنه معلوم من الدين بالضرورة، وهم وقعوا في هذه المناقضة؛ لأنهم جاءوا بحقيقة واحدة، لا يريدون أن يزيدوا عليها ولا ينقصوا منها، لكن الكلام الذي قاله أهل السنة والجماعة: أن ما يُؤْمَن به يختلف، فهذا الذي بَلَغه تحريم الخمر، وٍهذا مؤاخذ إذا شربها، لكن من جاء من البادية يجهل أن الخمر حرام، فنحن نعلمه ذلك ولا نكفره.
    والإيمان عندنا يختلف ويتفاوت بحسب ما يؤمن به الأشخاص، وبحسب ما قام عليه من الحجة، والدليل، ولذلك الأحكام المنسوخة لا يجب على الإنسان -حتى في عهد الصحابة- أن يعبد أو أن يعرف الحكم النافذ، أي لو فرضنا أن قوماً تعبدوا بالصلاة إلى بيت المقدس، ولم يبلغهم خبر تحول القبلة إلا بعد يوم أو يومين، فهؤلاء لا نقول: إن إيمانهم أقل، وإنما بحسب ما بلغهم واعتقدوا وآمنوا.
    إذاً لو جعلنا الإيمان قدراً مشتركاً واحداً بين الجميع، لنتج عن ذلك أن هؤلاء قد تركوا معلوماً من الدين بالضرورة، إذاً هم كفار وهذا لا يقول به أحد.
    فالأدلة النقلية والعقلية على خطأ وبطلان مذهب الخوارج والمرجئة في الإيمان كثيرة جداً، والأمثلة عليها كثيرة، ولكن أتينا بهذه الأمثلة لنبين القضية الأهم، وهي قضية: حقيقة الإيمان عند الفرقة الناجية: أهل السنة والجماعة.
  6. تفاوت أعمال القلب و الجوارح

    إن أعمال القلب تتفاوت وتتفاضل تفاضلاً عظيماً، ولذلك المصليان اللذان يؤديان الصلاة في صف واحد، وهذا يصلي بجانب هذا، هل نقول إن صلاتهما واحدة؟ وكما تعلمون أن من المصلين من تكتب له الصلاة كاملة، ومنهم النصف، ومنهم الربع إلى العشر إلى لا شيء، لماذا، مع أن الحركات الظاهرة واحدة؟ لأن ما في القلب يتفاوت من الخشوع واليقين والإنابة والرغبة في هذه العبادة ومحبة هذه العبادة.
    وجملةً نقول: إن عمل القلب يتفاوت ويتفاضل، فلهذا: صلاة هذا غير صلاة ذاك، فهذا بالنسبة لتفاضل أعمال القلب.
    وأما تفاضل أعمال الجوارح، فمعلومٌ أيضاً بالبداهة، فالإنسان الذي قام بأمر الله وجاهد في الله حق جهاده، كما جاهد أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأدوا جميع الفرائض، وجاهدوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشروا الدعوة، وعملوا هذه الأعمال العظيمة، فلا يعقل مطلقاً أن يقال إن إيمانهم كإيمان أحد من الناس، ولذلك قال ابن أبي مليكة، كما روى عنه ذلك البخاري: [[أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم يخشى على نفسه النفاق، ما فيهم أحد يقول: إن إيماني كإيمان جبريل وميكائيل]] وقال في رواية أخرى: [[وقد خاب وخسر من قال: إن إيماني كإيمان جبريل وميكائيل]].

  7. فقدان حقيقة الإيمان

    وسبب ذلك أن هذا الإيمان، سواء أكان عمل الجوارح، أم عمل القلب فإنه يتفاوت تفاوتاً عظيماً، فالذي يقول: إنه حقيقة واحدة كلية ومشتركة، فهذا مصادم للنصوص والآيات والأحاديث في ذلك، فإذا عرفنا هذه الأركان الأربعة، عرفنا بعد ذلك: لماذا قال العلماء -مثلاً-: إن الراجح أن ترك الصلاة كفر؛ لأن الحقيقة المركبة -كما نسميها- إذا فُقد منها شيء أساسي، فُقدت الحقيقة كلها، فالأشياء الأساسية إذا فُقدت تُفقد الحقيقة كلها.
    مثلاً: لو شبهنا الإيمان بالإنسان، فالإنسان يتكون من بدن وروح، فإن من قُطِعَ رأسه، فهذا انتفت حقيقته، أي أنه مات تماماً، لأن قطع الرأس كقطع الجزءٍ الأساسي، لكن من قُطِع منه أصبع -مثلاً- فهذا إنسان ناقص الخلقة، أي نقص شيء من خلقته، لكنه ما مات، وهكذا نقول أركان الإسلام الخمسة -مثلاً- أو أركان الإيمان الستة، هذه هي الأركان الأساسية التي ذكرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن ترك الصلاة فقد كفر؛ لأنه ترك ركناً أساسياً تفقد به الحقيقة، مثل الشجرة لو استأصل الجذر وهو أصل الشجرة فهذه الشجرة تكون قد انتفت تماماً، كذلك الصلاة من الإيمان كما قال تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ))[البقرة:143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس كما فسرها الصحابة كـابن عباس في صحيح البخاري، فإذا كنا نريد أن نعرّف الإيمان الكلي، ونعرف هذا الجزء منه وهو الصلاة، فالصلاة لها أركان وواجبات، ولها نوافل وكمالات، وكذلك الإيمان له أركان وواجبات، وله نوافل وكمالات.
    فمثلاً: الركوع من أركان الصلاة، فالذي لا يأتي بالركوع مع قدرته على ذلك، يكون تاركاً للصلاة، ولم يصل مطلقاً، وكذلك من ترك الصلاة -مثلاً- هذا لم يؤمن مطلقاً، ومن ترك ركناً من أركان الإيمان الباطن كمن ترك الإيمان بالكتب أو الإيمان بالملائكة، فإن هذا ترك ركناً أساسياً من أركان الإيمان، فهذا يكون خارجاً من الملة، لكن الذي يترك واجباً -مثلاً- من واجبات الصلاة، فإنها تجبر بسجود السهو، وكذلك واجبات الإيمان تجبر بالتوبة -كلها تجبر بالتوبة والاستغفار- لكن الحقيقة باقية، فحقيقة الصلاة باقية حتى مع ترك الواجب، وأما الذي ترك الواجبات والمستحبات والنوافل، فقد ترك الكمال فقط.
    فتشبيه الصلاة بالإيمان تشبيه من جميع الوجوه، فالصلاة لها باطن ولها ظاهر، فباطنها: النية والخشوع والانقياد والاستسلام لله بهذه العبادة، وظاهرها: ركوع وسجود وقيام، فلو رأيت إنساناً يركع ويسجد وله حركات ظاهرة مجردة بدون نية، وبدون إخلاص، لكان هذا مجرد حركات بدنية، وليست صلاة، وهذا مثل المنافق وإن حج وصام وزكى وجاهد، فهي حركات ظاهرية بدون إيمان في القلب، وهذا لا يسمى إيماناً.
    وكذلك العكس لو أتيت إلى إنسان وهو جالس، قلت له: قم إنَّ الناس يصلون، فقال: لا. أنا أصلي بقلبي، وهذا كأمثال الذين وصلوا إلى أهل الحلول والاتحاد وأمثالهم، فلا نقبل منه ذلك، فنحن نعلم أن الخشوع أو الجانب القلبي من الصلاة عظيم ومهم، لكن لا يمكن أبداً أن يكون من دون أن يؤدي الإنسان الأعمال الظاهرة من ركوع وسجود وقيام وقراءة ونحو ذلك، فكذلك الإيمان من قال: الإيمان كامل في قلبي، لكن في حياته الدنيا لا صلاة ولا زكاة ولا عبادة ولا أَمَر بمعروف ولا نهى عن منكر، بل كله خطايا وآثام ومعاصٍ.
    فنقول: دعوى الإيمان عنده كذب، كما أن الذي يقول: أنا أصلي وأنا جالس، هذا كذب، وكذلك من أدى هذه الأعمال ولو كثرت بدون عمل القلب الباطن، فهو أيضاً كذب كما كذب المنافقون في دعواهم للإيمان.