المادة    
إذاً: كيف يكون الحال؟
فالمؤمنون بالغيب منهم من لا يؤمن بالغيب على الحقيقة، والمنكرون للغيب كثيرٌ منهم لا ينكر الغيب على الحقيقة.
إذاً: القضية أن الإيمان بالغيب في عرف الشرع، وفي حقيقة دعوة الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- أن يسلم الإنسان بقلبه إلى الله تبارك وتعالى، وأن ينيب إليه؛ فكل ماجاء من عند الله تبارك وتعالى صدق به، وأقر وظهر أثر ذلك الإيمان على لسانه؛ فيؤمن لسانه وتؤمن أيضاً جوارحه، ولهذا يقول الله تعالى: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) [فاطر:28].
نعم العلماء الذين يؤمنون بالغيب على حقيقته، ويعلمون ويعرفون ربهم، وصفاته على الحقيقة، هم أكثر الناس خشية، فكأنه لا يخشاه تعالى إلا هم؛ لأنهم عرفوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
  1. الإيمان بإقرار الذهن فقط

    أما مجرد الإقرار الذهني فقط فقد كان موجوداً حتى عند العرب في الجاهلية، فكان العرب في الجاهلية يؤمنون بشيء من الغيب، فقد كانوا يؤمنون بوجود الله، ولم يكن ينكر ذلك أحد في العصر الجاهلي! بل ولا في سائر العصور، إلا عند طائفة شاذة مارقة مكابرة ومعاندة، وكان في العرب -أيضاً- من يؤمن بيوم الحساب مجرد إيمان، ورد ذلك في شعرهم كما قال زهير:
    فلا تكتمن الله ما في نفوسكم             ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
    يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر            ليوم الحساب أو يعجل فينقم
    إذاً: كان لدى العرب شعور وإحساس بأن هنالك عالماً آخر، وأنه قد يكون هناك يوم آخر؛ ولكن ليست القضية في أنه هل يوجد أو لا يوجد يوم آخر؟
    وإنما المسألة: أن يكون الإيمان بالغيب هو الإيمان الذي يريده الله تبارك وتعالى على الحقيقة، والذي من أجله بَعثَ الرسل، وأنزل الكتب، وهذا هو محل النـزاع؛ لأنه يقتضي التسليم المطلق والمجرد لله تبارك وتعالى، والإنابة إليه بالقلب، والإخبات إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
  2. حال الأمم مع الإيمان بالغيب

    لذلك أنكر الجاهليون ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الوحي، فأنكروا الوحي، والوحي من الغيب؛ فقالوا: كيف يتنزل هذا القرآن على هذا الرجل؟
    هذا لا يمكن أبداً! ولذلك قالوا له: إنما أنت مفتر، وقالوا عنه: ساحر، وقالوا عنه: كاهن، وقالوا عنه أيضاً: شاعر، وقالوا: إنما يعلمه بشر، وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً، فَلِمَ كُل هذا اللجاج وكل هذا العناد؟!
    كل ذلك حتى لا يؤمنوا بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اختص هذا النبي الأمي بهذه الرسالة؛ فأنزل وأرسل إليه الروح الأمين بهذا الوحي، وهل في ذلك ما يخالف الفطرة أو العقل السليم؟
    كلا. لا شيء من ذلك، ولكنه العناد والجحود، فقد جحدت الأمم وعاندت من قبل، كما فعل ذلك فرعون وقومه، ولهذا أخبر الله عنهم بقوله: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)) [النمل:14].
    فطمأن الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فقال: ((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) [الأنعام:33] أي لا تهتم بقولهم لك: إنك كاذب؛ فإنهم في حقيقة أنفسهم لا يعتقدون كذبك، بل يعلمون -في أنفسهم- أنك صادق؛ ولكنه الجحود. فهل نفعهم هذا الإقرار القلبي المجرد؟! هل نفعتهم هذه المشاعر الذهنية العامة بأن هنالك عالماً آخر هو عالم الغيب بخلاف عالم الشهادة؟
    لا. لم ينفعهم ذلك أبداً.