المادة    
ثُمَّ يستدرك المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ فَيَقُولُ:
[وللناس قولان في هذا العالم: هل هو مخلوق من مادة أم لا؟
واختلفوا في أول هذا العالم ما هو؟
وقد قال تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ))[هود:7].
وروى البُخَارِيّ وغيره عن عمران بن حصين -رضي الله عنه-، قَالَ: {قال أهل اليمن لرَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر، فقَالَ: كَانَ الله ولم يكن شيء قبله}.
وفي رواية: {ولم يكن شيء معه}.
وفي رواية: {غيره}.
{وكان عرشه عَلَى الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض}، وفي لفظ: {ثُمَّ خلق السموات والأرض}.
فقوله: (كتب في الذكر)، يعني: اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: ((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ)) [الأنبياء:105] سمى ما يكتب في الذكر ذكراً، كما يسمى ما يكتب في الكتاب كتاباً.
والنَّاس في هذا الحديث عَلَى قولين، منهم من قَالَ: إن المقصود إخباره بأن الله كَانَ موجودا وحده، ولم يزل كذلك دائماً، ثُمَّ ابتدأ إحداث جميع الحوادث، فجنسها وأعيانها مسبوقة بالعدم، وأن جنس الزمان حادث لا في زمان، وأن الله صار فاعلاً بعد أن لم يكن يفعل شيئاً من الأزل إِلَى حين ابتداء الفعل ولا كَانَ الفعل ممكناً.
والقول الثاني: المراد إخباره عن مبدأ خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام، ثُمَّ استوى عَلَى العرش، كما أخبر القرءان في غير موضع.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {قدر الله تَعَالَى مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه عَلَى الماء}. فأخبر صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تقدير هذا العالم المخلوق في ستة أيام كَانَ قبل خلقه بخمسين ألف سنة، وأن عرش الرب تَعَالَى كَانَ حينئذٍ عَلَى الماء] إهـ
.
الشرح:
قوله: [والقول بأن الحوادث لها أول يلزم منه التعطيل قبل ذلك ...الخ] يحتاج إِلَى تفصيل؛ لأن الأنواع تختلف عن الذوات، فأما الذوات والأعيان، فكل شيء من المخلوقات بعينه، مخلوق حادث بعد أن لم يكن، وأما أنواع هذه الحوادث - وهو الذي نقول: إنه أثر صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فهذا الذي لا أول له؛ لأن صفات الله عَزَّ وَجَلَّ لا أول لها.
والكلام في أن أعيان الحوادث لها أول، ينقلنا إِلَى النقطة المهمة التي هي هذا العالم الموجود، وهذا الكون المخلوق الذي نراه ونعيش فيه الآن، هل خلق من مادة، أو أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- خلقه من العدم بغير مادة؟ وما هو أول شيء خلق فيه؟
وسنذكر بعض ما قيل في شرح حديث عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- وهو حديث صحيح، رواه الإمام البُخَارِيّ في أول كتاب بدء الخلق، وفي كتاب التوحيد من صحيحه، وله روايات كثيرة.
وذكر فيه أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خرج عَلَى وفد بني تميم فقَالَ: اقبلوا البشرى يا بني تميم اقبلوا البشرى يا بني تميم، فَقَالُوا: قد بشرتنا فأعطنا -فرفض بنو تميم البشرى- فقَالَ: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن قالوا: قد قبلنا يا رَسُول الله -قبل أهل اليمن البشرى وجلسوا مع رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: يا رَسُول الله، جئنا نسألك عن أول هذا الأمر كيف كان؟ فَقَالَ لهم النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كان الله ولم يكن شيء غيره}، وفي رواية: {كَانَ الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه عَلَى الماء، ثُمَّ خلق السموات والأرض}.
ثُمَّ اختلفت الروايات، وكلها تُجمع عَلَى أن رجلاً قَالَ: {يا عمران، أدرك ناقتك فقد ذهبت، قَالَ: فخرجت فإذا السراب يقطع دونها، فوالله وددت لو أني تركتها}.
أما عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - فهو من خزاعة، كَانَ جالساً قبل أن يكمل النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديث، فهربت ناقته، فجاءه رجل يقول: أدرك ناقتك يا عمران، فخرج يظن أنه قد يلحقها ويدرك بقية الحديث، فإذا السراب يحول بينه وبينها، وقال مقولته التي في الحديث، لما فاته بقية مجلس النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن لم يفت شيء من العلم والْحَمْدُ لِلَّهِ، لأن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قرره في مواضع، وما قاله هنا بهذا القدر هو كافل لمعرفة الجواب الصحيح في هذه المسألة الشائكة.
والمتأمل للأقوال التي ذكرها المُصنِّفُ هنا، يجد أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقتصر في الجواب عَلَى العالم الذي جاءنا خبره، ولا نستطيع أن نقول أن هذا كل العالم، أو هذا كل خلق الله -عَزَّ وَجَلَّ-.
وحديث عمران قد شرحه شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- شرحاً مستفيضاً وافياً، وكلام المُصنِّفُ هنا ملخص منه، وهذا الشرح موجود في المجلد "18" من مجموع الفتاوى ابتداءً من صفحة "210"، وهي رسالة طبعت أيضاً في مجموعة الرسائل والمسائل اسمها، شرح حديث عمران بن حصين.
والروايات التي ذكرها المُصنِّفُ هنا في الشرح هي قول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كَانَ الله ولم يكن شيء قبله}. ورواية: {ولم يكن شيء معه}. ورواية: {ولم يكن شيء غيره}.
وحتى يعرف وجه الحق في هذه المسألة، يرجع إِلَى كلام عالم السنة الحافظ ابن حجر في الجزء "6" من فتح الباري، في أول كتاب بدء الخلق، فقد ذكر روايات منها ما رواه الإمام أَحْمَد وغيره: أن أول ما خلق الله العرش، ونقل أنه قول الأكثر.
إلا أن ابن حجر يرى أن هناك أول مخلوق بإطلاق، ومعنى كلامه أن الروايات اختلفت أهو العرش أم القلم؟ وأن أكثر الروايات عَلَى أنه العرش، وذكر الرواية التي فيها الترتيب بأن الله خلق الماء، ثُمَّ العرش، ثُمَّ القلم.
  1. أول ما خلقه الله تعالى من هذا الكون المشهود هو العرش

  2. الترجيح بين روايات حديث عمران رضي الله عنه