المادة كاملة    
في مستهل هذا الدرس تقرير وتوضيح لمسألة أن النذر لا يرد القضاء، وأن الدعاء سبب من أسباب رد القدر، ثم انتقل الكلام للرد على اعتراض الفلاسفة في قولهم: إن الدعاء ليس له فائدة، وبعد ذلك أورد إشكال بعض العلماء في زيادة ونقصان عمر الإنسان في قوله تعالى: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ)، مع الرد على هذا الإشكال، وذكر مراتب التقدير الزمانية، وخلاف العلماء في أيها يقع النسخ، وبيان القول الراجح. وقد تكلم هذا الدرس -أيضاً- عما يتعلق بالأمر الكوني وسعة علم الله تعالى، وما يتعلق بالأمر الشرعي والحكمة من خلق الخلق، ثم تحدث عن المشيئة الكونية، وتطرق إلى مسألة الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، مع إيراد شبهات في القدر والرد عليها.
  1. أفضل أنواع التوسل

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [فإن قيل: هل يلزم من تأثير صلة الرحم، في زيادة العمر ونقصانه تأثير الدعاء في ذلك، أم لا؟
    فالجواب: أن ذلك غير لازم، لقوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـأم حبيبة رَضِيَ اللهُ عَنْها: {قد سألت الله تَعَالَى لآجال مضروبة} الحديث، كما تقدم.
    فعُلمَ أن الأعمار مقدرة، لم يشرع الدعاء بتغييرها، بخلاف النجاة من عذاب الآخرة. فإن الدعاء مشروع له نافع فيه، ألا ترى أن الدعاء بتغيير العمر لما تضمن النفع الأخروي شرع كما في الدعاء الذي رواه النَّسَائِيُّ من حديث عمار بن ياسر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {اللهم بعلمك الغيب وقدرتك عَلَى الخلق أحيني ماكنت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي} إِلَى آخر الدعاء.
    ويؤيد هذا مارواه الحاكم في مستدركه من حديث ثوبان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه}.
    وفي الحديث رد عَلَى من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه {نهى عن النذر، وقَالَ: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل}.
    واعلم أن الدعاء يكون مشروعاً نافعاً في بعض الأشياء دون بعض، وكذلك هو.
    ولهذا لا يحب الله المعتدين في الدعاء.
    وكان الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللهُ يكره أن يدعى له بطول العمر، ويقول: هذا أمر قد فرغ منه] إهـ.

    الشرح:
    هو ماورد في الحديث وذلك بأن نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بكل اسم هو له -مثلاً- اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك... إِلَى آخر الدعاء المعروف.
    أو نقول:{اللهم إني أسألك بأنك أنت الله، لا إله إلا أنت الحي القيوم} أو نحو ذلك، فهذا أفضل أنواع التوسل أن يُسأل الله بأسمائه وصفاته، أو بعمل صالح عمله الإِنسَان كما كَانَ من أصحاب الغار -الثلاثة النفر- الذين دعوا الله بأعمالهم الصالحة التي فعلوها فكشف الله عَزَّ وَجَلَّ عنهم ما هم فيه.

    وأما التوسل بذوات المخلوقين فإنه لا يجوز بل هو بدعة، فالأولى للعبد المسلم أن يتوسل إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأسمائه وصفاته أو بعمل صالح عمله، وكذلك التوسل بجاه فلان من النَّاس لا يجوز، ولو كَانَ هذا المتوسل بجاهه نبي، أو ولي ممن لديه منزلة عظيمة عند الله؛ لأنه لا رابطة هنا بين المتوسل والمتوسل به.
  2. شروط الدعاء وآدابه

     المرفق    
    ومن شروط الدعاء وآدابه: ألا يدعو فيه بقطيعة رحم، كما جَاءَ في الحديث: {لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم}، وكثير من النَّاس لم يعملوا بهذا الشرط فتراهم يدعون عَلَى أزواجهم وأولادهم وأقربائهم وهذا لا ينبغي أن يكون ولو حصل له من هَؤُلاءِ الأذى والعنت.
    فقد {جَاءَ رجل إِلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقَالَ: يا رَسُول الله ‍! إن لي قرابة: أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي قَالَ: إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل} والمل هو الرماد الحار.
    والشرط الأخير: أن لا يدعو الإِنسَان بدعاء فيه اعتداء قال تعالى:((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) [الأعراف:55].

    والاعتداء في الدعاء يمنع من قبول الدعاء. ومثاله: أن تعلم أن الله عَزَّ وَجَلَّ إذا قبض ميتاً لا يبعثه مرة أخرى في هذه الحياة الدنيا، فتدعو الله أن يبعثه! لأن هذا لا يمكن أن يتحقق. أو تدعو الله عَزَّ وَجَلَّ أن ينتقم من رجل صالح من عباد الله الأتقياء، وأنواع الاعتداء في الدعاء كثيرة.
    وظاهر دعاء أم حبيبة رَضِيَ اللهُ عَنْها أنه نوع من الاعتداء في الدعاء؛ لأن دعاء الإِنسَان لأحد بطول العمر أو قصره مع الاعتقاد الجازم أن الله خلق الخلق وقدر لهم أقداراً، وضرب لهم آجالاً، فيه اعتداء واضح.
    وجهة النظر الأخرى: الدعاء سبب والأسباب مخلوقة والله عَزَّ وَجَلَّ يقول: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) [الرعد:39] فلا يبعد أن يكون هذا من الأسباب التي تدفع البلاء وترد القضاء وتجعل صاحبها يطول عمره، وكما أن الإِنسَان إذا وصل رحمه، فإنه يطول عمره فكذلك إذا قطعهم، فإنه يقصر عمره.
    1. النذر لا يرد القضاء

      وتطرق المُصنِّفُ بعد ذلك إِلَى النذر، لأن كثيراً من العوام يظنون أن النذر يحقق لهم ما يريدون، فإذا مرض لأحدهم مريض نذر أنه إذا شفى الله مريضه أن يتصدق بكذا وكذا من المال، فإذا شفي المريض ظن أن ذلك بسبب النذر، وأنه قد استرضى الله تَعَالَى بهذا العمل الصالح، وهذا أيضاً مما رده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قولهِ: {إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل} وذلك أن البخيل قبل أن يبتليه الله تَعَالَى لا ينفق ولا يتصدق، فلما حلت به البلية نذر عَلَى نفسه بالإنفاق والتصدق، وهذا مالا ينبغي أن يكون عليه المؤمن.
      كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما {سُئل أي الصدقة أعظم أجراً، قَالَ: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخاف الفقر وترجو الغنى} فالمؤمن في وقت الرخاء يتصدق ويعطي، فإذا نزلت به بعد ذلك نازلة فإنه يسأل الله عَزَّ وَجَلَّ ولا ينذر، فإن سأله - مثلاً - بالعمل الصالح الذي عمله في وقت الرخاء، كأن يقول: اللهم يا رب! إني تصدقت بتلك الصدقة عَلَى فلان فإن كنت تعلم أنها خالصة لوجهك الكريم فاشف مريضي، كما فعل أصحاب الغار، فهنا يكون الدعاء في محله، وتكون تلك الصدقة في محلها؛ لأنها حصلت في وقت رخاء، فيكون أحسن حالاً من ذلك البخيل.
    2. الدعاء وهو العبادة

      والذي ينبغي أن يعلم أن الدعاء بحد ذاته عبادة لا يستغنى عنه أي مخلوق، وقد طلب الله تَعَالَى منا ذلك بقوله: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:60]، أما ما يقوله بعض الفلاسفة أو بعض الصوفية الغلاة - وتسرب إِلَى بعض العوام- أنه لا حاجة إِلَى الدعاء، وبعضهم يفلسفها بكلمة واحدة فَيَقُولُ: (علمه بحالي يغني عن سؤالي)، وهذا غير صحيح، لأن الله سبحانه يعلم أحوال العباد لكنه يريد من العبد أن يتضرع إليه وأن يظهر الانكسار بين يديه، والخضوع؛ لأن هذه قربة وعبادة، وأشد ما يكون العبد خاضعاً لله عَزَّ وَجَلَّ عندما يتضرع إليه في أمر ملح وهو محتاج مضطر إليه.
  3. الفلاسفة يعترضون على القدر

     المرفق    
    قول هَؤُلاءِ الفلاسفة -ومن قال بمقالتهم-: إن المقادير إن كانت قد جرت بأن يتحقق للعبد ما يريد فلا حاجة للداعي أن يدعو، وإن كانت قد جرت بما لا يريده العبد فلا فائدة في الدعاء‍!! ورؤيتهم إنما هو اعتراض عَلَى القدر وهي من أبطل الباطل، وهذا مما زينه الشيطان لهَؤُلاءِ المتصوفة وأمثالهم، وإلا فالأنبياء هم أكثر النَّاس دعاءً، والنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد شرع لنا الأدعية المأثورة الكثيرة الصحيحة في معظم الحركات والسكنات منها: إذا دخل بيته وإذا خرج منه، وإذا أتى أهله، وإذا أخذ مضجعه لينام، وإذا قام من مضجعه.
    فالحياة كلها متصلة بالدعاء وبذكر الله عَزَّ وَجَلَّ وما ذاك إلا لبيان الافتقار والحاجة إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى،
    أما قولهم: إن كَانَ قد قضى ما نريد فلا حاجة إِلَى الدعاء، وإن قضى بضده فلا فائدة في الدعاء، فالرد عليهم بما أوضحنا في أول الموضوع وهو أن الدعاء سبب من الأسباب، فكما أنني إذا رأيت وحشاً يهجم علي وعندي بندقية فسأطلقها عليه، ولا أقول: إن كَانَ قد قدر الله موتي فلا يفيد إطلاق النار، وإن لم يكن قدر الله موتي، فإنه لن يأكلني، نقول: لا، بل أطلق النَّار عليه وأدفعه عني؛ لأن إطلاق البندقية سبب لدفع المكروه، فكذلك يُقال في الدعاء: إنه سبب، فإن نفع هذا السبب واستجيب الدعاء فالْحَمْدُ لِلَّهِ، وإن لم يقع فنقول حينها قد اتخذنا السبب، وأقدار الله عَزَّ وَجَلَّ لا غالب لها، ولا ينفع معها أي سبب من الأسباب.
    ومن هنا نفهم أنهم مخالفون للعقل وللشرع، وأن الحق هو ما عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في هذه المسألة كما في غيرها من المسائل وهو الموافق للنصوص الشرعية، والموافق أيضاً للعقل والفطرة السليمة عند التأمل.

    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [وأما قوله تعالى: ((وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ)) [فاطر:11].
    قال بعض العلماء عندما قرأوا هذه الآية: إن العمر يزيد وينقص، يعني: أن عمر الإِنسَانِ يقبل الزيادة والنقصان فلو أن الإِنسَان اجتهد في الطاعة أو بذل الأسباب من السلامة والوقاية فإن عمره يزيد، ولو أن الإِنسَان قصر في ذلك، فإن عمره ينقص وذلك بناء عَلَى أن الضمير في قوله تَعَالَى:((وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ))[فاطر:11] يعود عَلَى ذات الإِنسَان الواحد.
    فيرد عليهم المؤلف قائلاً: أنه بمنزلة قولهم: عندي درهم ونصفه، أي: ونصف درهم آخر، لكن هذا الضمير عود لفظي فقط، وليس عائداً عَلَى حقيقة الشيء، فيكون تفسير الآية عَلَى هذا المعنى: لا يزيد عمر أحد ولا ينقص عمر أحد آخر، إلا كَانَ ذلك في الكتاب، فمن النَّاس من يمد الله في عمره حتى يصل إِلَى مرحلة الضعف الأخيرة (الشيبة).
    ومنهم من قضى الله بأن يموت وهو طفل وكل ذلك في كتاب، ومن ثُمَّ إذا قلنا: إن الآجال مقدرة ومضروبة، وأن كل ذلك في كتاب، وأنه قد تؤثر بعض الأسباب وبعضها لا تؤثر، فإن المعنى صحيح، وللقدر مراتب زمانية.
    1. مراتب القدر الزمنية

      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
      [وأما قوله تعالى: ((وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ))[فاطر:11]
      فقد قيل في الضمير المذكور في قوله تعالى: ((مِنْ عُمُرِه)) إنه بمنزلة قولهم: عندي درهم ونصفه، أي ونصف درهم آخر، فيكون المعنى: ولا ينقص من عمر معمر آخر، وقيل الزيادة والنقصان في الصحف التي في أيدي الملائكة، وحمل قوله تعالى: ((لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))[الرعد:38-39] عَلَى أن المحو والإثبات من الصحف التي في أيدي الملائكة، وأن قوله: ((وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))[الرعد:39] اللوح المحفوظ. ويدل عَلَى هذا الوجه سياق الآية وهو قوله: ((لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ))، ثُمَّ قَالَ: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ)) أي: من ذلك الكتاب، ((وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) [الرعد:39] أي: أصله، وهو اللوح المحفوظ. وقيل: يمحو الله ما يشاء من الشرائع وينسخه، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، والسياق أدل عَلَى هذا الوجه من الوجه الأول، وهو قوله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)) [الرعد:38] فأخبر تَعَالَى أن الرَّسُول لا يأتي بالآيات من قبل نفسه، بل من عند الله، ثُمَّ قَالَ: ((لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))[الرعد:38-39] أي: أن الشرائع لها أجل وغاية تنتهي إليها، ثُمَّ تنسخ بالشريعة الأخرى، فينسخ الله ما يشاء من الشرائع عند انقضاء الأجل، ويثبت ما يشاء. وفي الآية أقوال أخرى، والله أعلم بالصواب] ا.هـ.

      الشرح :
      وقد سبق أن ذكرنا أن هناك تقديراً يومياً، وتقديراً سنوياً، وتقديراً عمرياً -على العمر كله- وتقديراً كونياً -على عمر الكون كله-، واللوح المحفوظ - أم الكتاب - قدر الله فيه الأمور الكونية التي لا تتغير ولا تتبدل، وهو الذي في حديث {أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب: قال وما أكتب، قال: اكتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة}، فهذا لا يتغير ولا يتبدل، أما التقدير اليومي في قوله عَزَّ وَجَلَّ: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))[الرحمن:29] فمعناه أنه يرفع ويخفض ويعطي ويمنع، وأما التقدير السنوي ففي ليلة القدر، وهي ليلة واحدة في العام فيقدر الله عَزَّ وَجَلَّ فيها ما سيقع في ذلك العام، فهذا التقدير عَلَى مستوى العام في العمر كله، يعني كل سنة من سنين العمر الكوني فإن الله تَعَالَى يقدر في ليلة القدر من تلك السنة من الآجال والأرزاق والحياة والموت وما أشبه ذلك، والتقدير العمري هو ما يتعلق بالعمر وهو أن العبد - كما مر معنا في حديث عبد الله بن مسعود - إذا مرت عليه مائة وعشرون ليلة أو اثنتان وأربعون ليلة - كما في الرواية الأخرى التي صرحت بذلك {أن الملك ينفخ فيه الروح ويكتب فيها رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد}، هذا التقدير عَلَى مستوى عمر الإِنسَان، أحد ماسبق من المراتب.
  4. النسخ في التقديرات الزمانية

     المرفق    
    ولأجل هذه التقادير المختلفة اختلف العلماء في أيها يقع النسخ والتقدير، فذهب ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأبو وائل شقيق بن سلمة ومجاهد وبعض العلماء من السلف أن التقدير السنوي الذي في ليلة القدر: ((فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)) [الدخان:4] يغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيه ما يقضي وما يقدر.
    1. أصل التقدير الثابت في اللوح المحفوظ لا يغير

      لكن التقدير الذي لا يغير ما كَانَ في أم الكتاب، وعلى ذلك حملوا الآية في سورة الرعد ((لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))[الرعد:38-39] أي: الآجال، كل أجل له كتاب والله عَزَّ وَجَلَّ يمحو ما يشاء ويثبت من هذه الآجال ثُمَّ قَالَ: ((وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ المذكور في قوله تعالى: ((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْر)) [الأنبياء:105]، فما كَانَ في اللوح المحفوظ فإنه لا يتغير ولا يتبدل ولا ينسخ منه شيء.
    2. التغيير في صحف الملائكة

      أما الصحف التي في أيدي الملائكة فهذه تقبل التغيير، والملائكة لا يعلمون الغيب إنما يأمرهم الله عَزَّ وَجَلَّ أن ينقلوا من اللوح المحفوظ، ولهذا قال ابن عباس - لما تقول الملائكة يَوْمَ القِيَامَةِ: ((إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) [الجاثية:29]- ألستم عرباً؟ ألا تقرأون؟ فالملائكة تستنسخ بإذن الله عَزَّ وَجَلَّ، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقدر الأقدار العمرية والسنوية ويأمر الملائكة بها؛ لكن المكتوب في اللوح المحفوظ الذي تستنسخه الملائكة هو النهاية الأخيرة التي لا تقبل التغيير والتبديل بأي حال من الأحوال، لذلك ذكر المصنف: إن زيادة ونقص العمر وأثر الأسباب في الآجال يحمل عَلَى الصحف التي في أيدي الملائكة، أو بمعنى أوسع. نقول: عَلَى القدر العمري أو القدر السنوي، أما أصل الكتاب فإنه لا يدخله التغيير ولا يدخله التبديل.
      ثُمَّ قَالَ: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِت)) [الرعد:39] أي: من هذه الآجال، ((وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) التي لا محو فيها ولا تغيير وذهب البعض الآخرين من العلماء -من الذين لا يرون أثراً للأسباب في الآجال- إِلَى أن آية الرعد ليست في موضع علاقة الدعاء بالقضاء والآجال، وإنما هي في موضوع الشرائع.
      فالكتابة -التي هي الكتابة القدرية الكونية القضائية- إنما هي في الشرائع والأديان بدليل أول الآية، كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ: ((وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِت وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) [الرعد:38، 39].
    3. النسخ في زمن الشرائع

      ويقولون: إن ظاهر الآية - وهذا الذي رجحه المُصنِّف - يدل عَلَى أن الأَنْبِيَاء لا يأتون بآيات، ولابشرائع من عند أنفسهم، وإنما يأتيهم بها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والله جعل لهذه الشرائع آجالاً ((لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)) [الرعد:38]، فإذا انتهى الأجل بطلت تلك الشريعة والعمل بها، وتأتي شريعة أخرى تنسخها،ثُمَّ قال بعد ذلك: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِت وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) [الرعد:39].
    4. القول الراجح في هذه المسألة

      وإن كَانَ لهذا القول الآنف الذكر وجه من القوة إلا أن المتأمل لا يرى تناسباً وتوافقاً بين تفسيرهم لأم الكتاب أنها شريعة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي نسخت جميع الشرائع وبين قوله: ((وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) لكن إن قلنا: إن أم الكتاب هو اللوح المحفوظ كَانَ ذلك المعنى مطرداً، وأما أول السياق ((وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ))[الرعد:38]، فلا تعارض بينه وبين ما بعده؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ يبين أن الأَنْبِيَاء لا يأتون بشيء من عند أنفسهم وإنما يأتون بأمر يعطيهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثُمَّ قال بعد ذلك: ((لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)) [الرعد: 38] أي: أن الآجال مكتوبة ومقدرة سواء ما كَانَ منها للأعمار أو للشرائع أو لغيرها، فالعام ((لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ))، ثُمَّ ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِت وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) تكون خاصة بالأقدار التي يقدرها الله عَزَّ وَجَلَّ، ولا شك أن إعطاء الرسل الآيات هو من أقدار الله عَزَّ وَجَلَّ أيضاً، فيكون في الآية انتقال من معنى إِلَى معنى آخر، مع وجود علاقة ورابطة بينهما، ولا يشترط أن تكون الآية إِلَى آخرها والآيات التي بعدها كلها في موضوع واحد وهو سياق أول الآية الأولى، هذا الذي يظهر والله أعلم، والذي يترجح وهو خلاف ما رجحه المُصنِّف والله أعلم.
      قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [وفي الآية أقوال أخرى والله أعلم بالصواب]، ومن أراد أن يطلع ويستفصل الأقوال الأخرى فليراجع تفسير ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ للآية، فإنه أطال النفس في تفسير هذه الآية، وذكر الأقوال عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
  5. قضاء الله الكوني

     المرفق    
    1. سعة علم الله وإحاطته بما كان وما لم يكن

      قال الطّّحاويّ رحمه الله تعالى:
      [ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم].
      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
      [فإنه سبحانه يعلم ما كَانَ وما يكون، ومالم يكن أن لو كَانَ كيف يكون، كما قال تعالى: ((وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ))[الأنعام:28]. وإن كَانَ يعلم أنهم لا يُردون، ولكن أخبر أنهم لو ردوا لعادوا، كما قال تعالى: ((وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ))[الأنفال:23] وفي ذلك رد عَلَى الرافضة والقدرية الذين قالوا: إنه لا يعلم الشيء قبل أن يخلقه ويوجده، وهي من فروع مسألة القدر، وسيأتي لها زيادة بيان إن شاء الله تَعَالَى] اهـ.

      الشرح:
      قول الإمام الطّّحاويّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: [ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم]. شرحها المُصنِّف -رحمه الله تعالى- بالعبارة المعروفة التي نعتقدها في حق الله عَزَّ وَجَلَّ، وفي علمه، وهو أنه جل شأنه يعلم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كَانَ كيف يكون، وهذه هي الإحاطة الكاملة بكل ما هو مندرج تحت إمكان العلم، فيعلم ما كَانَ جل شأنه لا يخفى عليه شيء مما مضى، ولهذا لما قال فرعون: ((قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى)) [طـه:51] قال موسى عَلَيْهِ السَّلام:((عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى)) [طـه:52] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو يعلم الماضي بكل دقائقه وتفاصيله، وأما نَحْنُ فما كلفنا أن نعلم هذه التفاصيل، وإنما كلفنا أن نأخذ العبرة والعظة من مصارع الله في الكون، وأيضاً يعلم الله جل شأنه ما يكون، ويعلم ما سيكون، وهذه هي العقبة التي تقف عندها جميع العقول ((وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوت)) [لقمان:34].
      أي أن كل العقول البشرية، والعلم البشري مهما توصل إليه، ومهما حاول أن يتقدم لا يمكن أن يعرف ما سيكون بعد لحظة واحدة، وفي هذا إفحام من الله عَزَّ وَجَلَّ لهَؤُلاءِ المخلوقين، فهذا العلم استأثر الله به وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهو الذي يعلم ما كَانَ وما سيكون، ويعلم ما لم يكن لو كَانَ كيف يكون.

      ومن ذلك هذه الآية ((وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)) [الأنعام:28] فهَؤُلاءِ الكفار إذا وقفوا عَلَى النَّار يقولون: ((يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا))[الأنعام:27] أي يتمنون أن يعودوا إِلَى الدنيا ولئن عادوا فلن يكذبوا بزعمهم، بل ويكونوا من الموقنين، ومع ذلك يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: ((وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ))[الأنعام:28]؛ لأن مسألة الكفر والإيمان ليست متعلقة بقضية أنهم رأوا الحق أو لم يروا الحق؛ بل هي مسألة استكبار وعناد في نفوس الكفار، كما قال الله في آية أخرى ((وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)) [الحجر:14، 15] فالكبر والعناد الذي في أنفس الكفار يجعلهم لا يقبلون الحق مهما رأوا من آيات الله في ذلك((وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا)) [الأعراف:146] نسأل الله أن يعافينا من الكبر ومن الاستكبار والعناد وأن يرزقنا الإخلاص والانقياد والإذعان لأمره والتسليم له.
      وأيضاً قوله تعالى:((وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُم)) [الأنفال:23] -على افتراض ذلك- ((لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ))[الأنفال:23]
      .
      إذاً هو يعلم جل شأنه ما كَانَ وما سيكون وما لم يكن لو كَانَ كيف يكون.
      قَالَ: وفي ذلك رد عَلَى الرافضة والقدرية.
    2. مسميات الشيعة الرافضة وتأثرها بالقدرية

      قال المصنف: [وفي ذلك رد عَلَى الرافضة والقدرية].
      قوله: [الرافضة], هم الشيعة, وقد سماهم المصنف من قبل الشيعة, حيث قال في موضوع الحوادث لا أول لها [ومن وافقهم من الكرامية والأشعرية والشيعة], وليس هناك فرق بين العبارتين؛ بل هما مترادفتان.
      وأول ما ظهرت هذه الملة لم تكن تسمى: الرافضة, إنما كانت تسمى: الشيعة, والذي يبدو من التحقيق التاريخي أن أول ما أطلق عليهم اسم الرافضة, هو عندما خرج زيد بن علي بن الحسين على بني أمية, فجاءه هؤلاء الرافضة الشيعة الخشبية, فقد كانوا يسمون: الخشبية, فهناك عدة اصطلاحات؛ حتى نفهم الفرق, وإنما هي مترادفات, ولا تعارض بينها.
      ومن أسمائهم: السبئية, نسبة إلى عبد الله بن سبأ.
      ومنها: الخشبية؛ لأنهم اتخذوا سيوفاً من الخشب, ولا يرون القتال إلا مع الإمام المعصوم.
      ومنها: الإمامية؛ لأنهم يقولون: إن الإمامة ركن من أركان الدين التي لا يجوز السكوت عنها بإطلاق.
      ومنها: الإثنا عشرية؛ لأنهم يقولون بإمامة اثني عشر رجلاً, أولهم علي, وآخرهم صاحب السرداب, الذي دخل فيه ولم يخرج! ولن يخرج أبداً.
      ومن أسمائهم: الرافضة, وهو أشهر أسمائهم عند علماء السلف.
      وكلمة (الشيعة) إذا أطلقت في الجملة, فيدخل فيها من حيث الاصطلاح -وليست كلمة شرعية- كل من شايع علياً رضي الله تعالى عنه.
      وكثير ممن شايع علياً, ومنهم علي رضي الله تعالى عنه نفسه, وابناه الحسن والحسين, هؤلاء كانوا -ولله الحمد- على العقيدة الصحيحة, وعلى دين الإسلام الصحيح, أما مثل عمار بن ياسر والمقداد رضي الله عنهما وأمثالهما, ثم من بعدهم كـالأشتر النخعي وأمثاله, الذين كانوا متحمسين في موقفهم مع علي رضي الله تعالى عنه, فهؤلاء يطلق عليهم: الشيعة, وليسوا رافضة؛ بل هم على عقيدة صحيحة وسليمة, وكذلك لم تطلق عليهم كلمة الرافضة, لأنها لم تطلق إلا في أول القرن الثاني.
      فلما خرج زيد بن علي بن الحسين على بني أمية, واجتمع هؤلاء الخشبية وأمثالهم ممن يدعون أنهم أتباع آل البيت, فقال لهم: أتخرجون معي, حتى ونقيم خلافة لآل البيت؟ فقالوا له: بشرط أن تتبرأ من الشيخين وتلعنهما!!
      فقال: معاذ الله! كيف أتبرأ منهما وهما وزيرا جدي؟! أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن تبرأ من الوزيرين فقد تبرأ من الجد, لأنه إذا كان هؤلاء يفعلون هذه القبائح والشنائع ضد الإسلام, ورسول الله يقربهم ويجعلهم وزيرين له, فإنه بلا شك شريك لهم في كل ما ارتكبوه ضد الدين, على ما يقول أولئك الأخباث!!
      فلما قال لهم زيد بن علي ذلك تبرءوا منه, فقال: ( رفضتموني.. رفضتموني..! ).
      فأطلق عليهم اسم الرافضة من ذلك اليوم, ومن ذلك الحين انقسمت الشيعة إلى: رافضة, وزيدية.
      والزيدية كثير منهم لا يلعنون الشيخين أبا بكر وعمر، ولا يسبونهما, وإنما يكتفون بتفضيل علي عليهما رضي الله عنهم, وهذا لا شك أنه خطأ وبدعة منكرة, لكن من لم يلعن الشيخين من الزيدية فلا يصح أن نسمية رافضياً, وكذلك من كان على مثل ما كان عليه زيد, فإنه كان في معظم عقيدته على أصول أهل السنة والجماعة, إلا في مسألة الخروج على بني أمية, وهذه مسألة عملية أكثر منها مسألة اعتقادية.
      الشاهد: أن السلف استخدموا إطلاق لفظ الرافضة عليهم ليميزوا بين من يلعن الشيخين ويتبرأ منهما, وبين من يفضِّل علياً عليهما فقط.
      وقد ذكرنا أن الشيعة افترقت إلى عدة فرق: المفضِّلة, والسبابة, والغالية, والزنادقة.
      إذاً: الرافضة هي هذه الطائفة التي انتشرت وتسمى الإمامية, أو الإثني عشرية.
      وقد ذكر المصنف هذا الموضوع من قبل, ثم ذكره هنا؛ وذلك لأن هذا الموضوع أثير في كتاب ابن المطهر الحلي منهاج الكرامة, وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية, هذا هو الظاهر: أنه بدون الواو؛ لأنه يقال: هو شيعي قدري, وهذا الحلي وأمثاله شيعة وقدرية.
      والشارح هنا ينقل من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ويرد على هذه الطوائف, ومنهم الشيعة الذين أنكروا القدر, وكان لهم هذا الخلاف مع أهل السنة في القدر, وإلا فإنه لم تكن القدرية شيعة؛ فإن أول من تكلم بالقدر غيلان الدمشقي, وهو لم يكن شيعياً, ولم يتلقَ عن الشيعة, لكن الشيعة فيما بعد مالوا إلى مذهب القدرية, وإلى مذهب المعتزلة, وقد بينا فيما مضى بعض الأسباب التي جعلت الشيعة يميلون إلى مذهب القدرية والمعتزلة ويتبنونه.
      ولذلك فإن الزيدية والرافضة الإثني عشرية يعتقدون في الأسماء والصفات والقدر بمذهب المعتزلة, وكتب المعتزلة هي التي تقرر عندهم وتدرس؛ وذلك نتيجة للاندماج الذي حصل من أيام النوبختي وأمثاله في القرن الثالث الهجري وما بعده.
  6. قضاء الله الشرعي

     المرفق    
    1. الغاية من الخلق

      قال الطّّحاويّ رحمه الله تعالى:
      [وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته]

      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
      [ذِكرُ الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ الأمر والنهي، بعد ذكره الخلق والقدر، إشارةً إِلَى أن الله تَعَالَى خلق الخلق لعبادته، كما قال تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56]، وقال تعالى: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)) [الملك:2] اهـ.
      الشرح:
      بعد أن ذكر الطّّحاويّ أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الخلق، وقدر لهم أقداراً وضرب لهم آجالاً، وأنه لم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، قَالَ: وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته.
      فالكلام الأول يتعلق بالأمر الكوني، وهو أنه عَزَّ وَجَلَّ خلق الخلق وقدر الآجال، وعلم ما كَانَ وما سيكون، وهذا أمره وقضاؤه وقدره الكوني.
      ثُمَّ انتقل إِلَى الحديث عن أمره الشرعي، فقَالَ: (وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته) كما قال تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56] ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً))[الملك:2].
      والأمر والنهي ابتلاء من الله عَزَّ وَجَلَّ لبني آدم، ولذلك كَانَ الخيار لهم فيه، فمع تقديره لآجالهم وأرزاقهم، وعلمه ما سيعملون كوناً وقدراً ابتلاهم بالأمر والنهي؛ ليطيعه من أطاعه فينجو، وليعصيه من عصاه فيهلك، فينجوا هذا عن بينة، ويهلك هذا عن بينة، وتقوم الحجة عليهم من أنفسهم.
    2. آثار صفات الله وأسمائه

      تظهر آثار صفات الله وأسمائه، لما سمى نفسه الغفور الرحيم ظهر أثر مغفرته ورحمته لهذا المخلوق، وهو رحمته به والتوبة عليه إذا أذنب واستغفر، ولما سمى نفسه الكريم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ظهر أثر كرمه، وهو أن العبد يفعل الحسنة التي لا حول له فيها ولا قوة؛ بل هي من الله عَزَّ وَجَلَّ الذي وفقه لها وأعطاه القوة عليها، ثُمَّ يقابله الله عَزَّ وَجَلَّ بأن يجعل له عشرة أمثالها إِلَى سبعمائة ضعف، إِلَى أضعاف كثيرة، ولهذا الموضوع علاقة قوية بالدعاء.
    3. علاقة الدعاء بصفات الله وأسمائه

      ذكر ابن عقيل رَحِمَهُ اللَّهُ في كتابه الفنون أن من حكم مشروعية الدعاء أنه يدل عَلَى صفات الله جل وعلا، فمن ذلك الوجود لأنه لا يدعى إلا وهو موجود، ومن ذلك الغنى لأن الفقير لا يدعى، فمن دعا الله عَزَّ وَجَلَّ فهو مؤمن ومثبت لصفة الغنى، وهو أن الله عَزَّ وَجَلَّ غني والعبد هو الفقير الذي يحتاج إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن ذلك أيضاً أنه كريم؛ لأنه يوجد من الأغنياء من هو بخيل، ولكن الله عَزَّ وَجَلَّ غني ومع ذلك كريم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه يعطي حتى الكافر إذا دعاه في ساعة الشدة، وهكذا نجد أن الدعاء يتضمن هذه الصفات، فكذلك جميع أنواع العبادة تتضمن الإثبات، وظهور آثار صفات الله عَزَّ وَجَلَّ وأسمائه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      فالله عَزَّ وَجَلَّ خلق الخلق وقدر لهم الأقدار، ثُمَّ أنزل لهم هذه الشرائع وأعطاهم المشيئة والقدرة والاختيار عَلَى أن يختاروا: طريق الإيمان أو طريق الكفر،
      وهذا الموضوع كله لا يزال دائراً في مسألة القدر وعلاقة ذلك بعلم الله وتقديره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وبمشيئته جل شأنه.
      ولهذا نجد أن المُصنِّف استمر في هذا الكلام كما سيأتي.
  7. المشيئة الكونية

     المرفق    
    قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن]
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [قال تعالى: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً))[الإِنسَان:30] وقال تعالى: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ))[التكوير:29] وقال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ))[الأنعام:111]، وقال تعالى: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ)) [الأنعام:112]. وقال تعالى: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً)) [يونس:99] وقال تعالى: ((فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَعَّدُ فِي السَّمَاءِ))[الأنعام:125] وقال تَعَالَى حكاية عن نوح عَلَيْهِ السَّلام إذ قال لقومه: ((وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ))[هود:34] وقال تعالى: ((مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))[الأنعام:39] إِلَى غير ذلك من الأدلة عَلَى أنه ما شاء الله كَانَ ومالم يشأ لم يكن.
    وكيف يكون في ملكه ما لا يشاؤه؟! ومن أضل سبيلاً وأكفر ممن يزعم أن الله شاء الإيمان من الكافر، والكافر شاء الكفر، فغلبت مشيئة الكافر مشيئة الله!! تَعَالَى الله عما يقولون علواً كبيراً.
    فإن قيل: يشكل عَلَى هذا قوله تعالى: ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا)) [الأنعام:148] الآية وقوله تعالى:((وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ))[النحل:35].
    وقوله تعالى: ((وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ))[الزخرف:20] فقد ذمهم الله تَعَالَى حيث جعلوا الشرك كائناً منهم بمشيئة الله، وكذلك ذم إبليس حيث أضاف الإغواء إِلَى الله تَعَالَى إذ قَالَ: ((رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ))[الحجر:39].
    قيل: قد أجيب عَلَى هذا بأجوبة، من أحسنها: أنه أنكر عليهم ذلك لأنهم احتجوا بمشيئته عَلَى رضاه ومحبته، وَقَالُوا: لو كره ذلك وسخطه لما شاءه، فجعلوا مشيئته دليل رضاه، فرد الله عليهم ذلك.
    أو أنه أنكر عليهم اعتقادهم أن مشيئة الله دليل عَلَى أمره به، أو أنه أنكر عليهم معارضة شرعه وأمره الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه بقضائه وقدره، فجعلوا المشيئة العامة دافعة للأمر، فلم يذكروا المشيئة عَلَى جهة التوحيد، وإنما ذكروها معارضين بها لأمره، دافعين بها لشرعه، كفعل الزنادقة، والجهال إذا أُمروا أو نُهوا احتجوا بالقدر.
    وقد احتج سارق عَلَى عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بالقدر، فقَالَ: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره.
    يشهد لذلك قوله تَعَالَى في الآية: ((كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ))[الأنعام:148].
    فعلم أن مرادهم التكذيب، فهو من قبل الفعل، من أين له أن الله لم يقدره؟ أطلع الغيب؟
    ] إهـ.

    الشرح:
    هذه الفقرة كلها متماسكة، وموضوعها هو موضوع الاحتجاج بالقدر، وإثبات مشيئة الله عَزَّ وَجَلَّ، والرد عَلَى المحتجين بالقدر وهو رد عَلَى بعض شبهاتهم، كما في الشبهة الإبليسية والشبهة الشركية، شبهة الْمُشْرِكِينَ وشبهة إبليس اللعين حينما احتج هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ بقدر الله تعالى.
    يقول أبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: [وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن].
    1. الأدلة على المشيئة الكونية

      واستدل الشارح عَلَى ذلك بالآيات الكثيرة المعروفة: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ))[التكوير:29] وأمثال ذلك من الآيات، كما في قوله تعالى: ((فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً)) [الأنعام:125] ونحوها من الآيات التي تدل عَلَى أن مشيئة الله عَزَّ وَجَلَّ شاملة ونافذة، لا يندُّ ولا يخرج عنها شيء رداً عَلَى دعوى المجوس، ومن اتبعهم في ذلك من هذه الأمة، وهم القدرية من المعتزلة وغيرهم.
  8. شبهات في الاحتجاج بالقدر على المعصية

     المرفق    
    إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد كتب مقادير كل شيء، وما شاءه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهو كائن، فلا بد من هداية المهتدي، وإضلال المضل، وكفر الكافر، وإيمان المؤمن فكل ذلك لا يخرج عما شاءه الله عَزَّ وَجَلَّ، وعما كتبه، وعما قدره وقضاه.
    1. الشبهة الإبليسية

      أما الشبهة التي وقعت لإبليس اللعين من قبل لما قال: ((رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْض))[الحجر:39]، كأنه يقول: إن ما سوف أفعله من التزيين ومن الإغواء إنما هو بسب أنك أغويتني، يعني: كأن هذا سببه هذا.
    2. الشبهة الشركية

      والمُشْرِكُونَ لما قالوا: ((لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا)) [الأنعام:148]، وَقَالُوا: ((لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ))[الزخرف:20].
      فاحتجوا عَلَى عبادتهم للأصنام بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لو شاء ما أشركوا، وعلى تحريم ما أحل الله بأن الله عَزَّ وَجَلَّ لو شاء ما حرموا من دونه من شيء، كما في سورتي الأنعام والنحل، وأنهم لو شاء الله ما عبدوا هذه الآلهة. والرد عَلَى إبليس وعلى الْمُشْرِكِينَ قد سبق بيانه في أكثر من مرة عند تعرضنا لموضوع القدر، ومن الردود عَلَى ذلك ما ذكره المُصنِّف بقوله:
    3. الرد على الشبهة الإبليسية والشركية

      (من أولى الأوجه ومن أحسنها: أنه أنكر عليهم ذلك لأنهم احتجوا بمشيئته عَلَى رضاه ومحبته) فحجة الْمُشْرِكِينَ قولهم: ما دام أن الله شاء أن نعبد الأصنام إذاًً هو راضٍ أن نعبدها، ولهذا جَاءَ تكذيبهم بأن الله بعث الرسل، وقد قال تَعَالَى في سورة النحل: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)) [النحل:36] فليس الأمر كما يزعمون، فإذا كَانَ الله تَعَالَى راضياً بما هم عليه من الشرك فلماذا يرسل رسلاً ينهون عنه، وينزل عليهم كتباً فيها تكفيريهم واستباحت دماءهم وأموالهم؟!! إذاً لا تدل مشيئته عَلَى رضاه ومحبته، ولا تلازم بين المشيئة وبين المحبة.
      الوجه الثاني في الرد عَلَى شبهتهم في اعتقادهم أن مشيئة الله دليل عَلَى أمره به، فيقولون: إنه ما دام أن الله شاءه، فقد هو أمر به ((وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا))[الأعراف:28] والعياذ بالله، وهذه حجة من حجج الكفار الباطلة وهي: أنهم يحتجون عَلَى ما يفعلون بأن الله أمر به، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يأمر بالفحشاء، ولذلك قَالَ: ((أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [الأعراف:28] هذا من التقول عَلَى الله بلا علم؛ لأنه لا يأمر بالفحشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      الوجه الثالث: أنهم عارضوا مشيئة الله وقدره بشرعه، فردوا شرعه الذي أنزله عَلَى رسله وكتبه بمشيئته، وهذا من باب العناد ومن باب الاستكبار عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ أن يرد أمره ووحيه بمشيئته وقدره، ولذلك قال في سورة الأنعام: ((كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ))[الأنعام:148] أي أن هذا التكذيب حصل من الكفار، فليس قول هَؤُلاءِ الكفار أو إبليس اللعين يعني أنهم يثبتون قدر الله عَزَّ وَجَلَّ ويؤمنون به، لا.
      إنما قالوه اعتراضاً منهم عَلَى الأمر وعلى التوحيد، ومثل هذا ما اعترض به السارق عَلَى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقال السارق: كيف تقطع يدي يا أمير المؤمنين وما سرقت إلا بقدر الله وقضاءه؟! واحتج بالقدر عَلَى فعل المعاصي.
      فأجاب أمير المؤمنين بجواب الموحدين. فقَالَ: أنت سرقت بقدر الله وأنا أقطع يدك بقدر الله.
      فقطع يده فعلمنا أن الله قدر أن تقطع يده، ولو لم يشأ الله أن تقطع يده، لما قطعها عُمَر.
      إذاً هذه بقدر الله وتلك بقدر الله، لأنه لا تعارض بين أمر الله شرعه وقدره، ولا تعارض بين إقامة الحد وبين القدر؛ لأن الحدود إنما تقام بقدر الله عَزَّ وَجَلَّ، وهذا دليل عَلَى كمال فهم الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم لهذه الأمور، لا كما يقول المتفلسفة والمتكلمون: إن الصحابة ما عرفوا هذه المسائل ولا أتقنوها ولا فهموها ولا استوعبوها؛ بل كانوا مشتغلين بالجهاد في الفتوحات، وليس الأمر كذلك؛ بل كانوا يفهمون ذلك غاية الفهم، ولكن لم يخوضوا فيها ولم يحتاجوا أن يتحدثوا عنها إلا بما ورد، وهو كثير وكافٍ لمن أراد الحق، ومن ذلك هذا الأثر المشهور.