المادة    
قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[خالق بلا حاجة، رازق بلا مُؤنة].
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[قال تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ))[الذاريات:56-58] وقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ))[فاطر:15]((وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاء[محمد:38]((قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ))[الأنعام:14] وقال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من حديث أبي ذر رضي الله عنه: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر} الحديث رواه مسلم. وقوله: بلا مؤنة: بلا ثقل وكلفة] إهـ.

الشرح:
إن الله تَعَالَى خالق بلا حاجة، وهو الذي خلق الخلق ولم يخلقهم لحاجة منه إليهم، لا لحاجة أن يعبدوه، ولا أن يرزقوه، ولا أن يطعموه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو الغني الغنى المطلق عنهم، كما سبق في قوله: القيوم، فقيوميته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تستلزم غناه المطلق عن أن يخلق الخلق لحاجة، وإنما خلقهم لحكمة عظيمة -ليبتليهم، وليعبدوه- ثُمَّ جعل منهم فريقاً في الجنة، وفريقاً في السعير، وليصطفي منهم من يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويتخذهم أولياء وأحباباً، ويرفعهم في الدرجات العلى، وليذل ويهين من شاء منهم في معصيته، فيسكنهم في جهنم وساءت مصيراً.
فلله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِكم عظيمة في إيجاد الخلق، ليس منها أنه تَعَالَى محتاج أو مفتقر إِلَى وجود هذا الخلق، أو إِلَى أي مخلوق كائن من كان، كما بين ذلك في الحديث العظيم الذي رواه أبو ذر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ-، وقال الإمام أَحْمَد: هذا أشرف حديث حدثه أهل الشام: {يا عبادي إني حرمت الظلم عَلَى نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا ...إلى أن قَالَ: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا عَلَى أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً} سُبْحانَ اللَّه تعالى! هو الغني سبحانه ونحن الفقراء إليه، فهو في غنى عن عبادتنا وتقوانا.
وفي المقابل: {لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا}سُبْحانَ اللَّه! فهو في غنى عن طاعتنا وعبادتنا ولا يضيره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في شيء معصيتُنا أو كفرنا ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)) [فاطر:15-16] فنحن الذين في وجودنا وحياتنا وكل أمورنا وفي كل طرفة عين فقراء إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أما هو جل شأنه، فهو الغني الغنى المطلق التام، قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الأنعام: ((قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ))[الأنعام:14] سُبْحانَ اللَّه! هو يطعم المخلوقات جميعاً، وهو الذي يربيهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنعم ولا يُطعم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهل يعبد المطعوم ويترك من يطعمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! ولهذا كما جَاءَ في الحديث القدسي {أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: إني والإنس والجن لفي أمر عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إليهم نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلي بالمعاصي} هذا هو حال العالمين مع رَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يخلق ويعبد سواه سُبْحانَ اللَّه وهذا من جهل الإِنسَان ((إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً))[الأحزاب:72] هكذا طبع الإِنسَان ((قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ)) [عبس:17] فمن جهل الجنس البشري وظلمه وكفره: أن الله هو الذي يرزقه، ومع ذلك فإنه يشكر ما سواه، ينظر إِلَى الأسباب التي أعطته الرزق وينسى الذي خلق الأسباب وهيئها ((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)) [هود:6].

فمن اقتران الخالق مع الرازق أيضاً نفهم كمال الغنى لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وكمال افتقار المخلوقين إليه؛ فإنهم مخلوقون والله هو الذي خلقهم((أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)) [الطور:35].
وقوله: " بلا مؤنة " يدل عليه ما جَاءَ في حديث أبي ذر هذا، من قوله سبحانه: {يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط -يعني الإبرة- إذا غمس في البحر} فهذا دليل عَلَى كمال غنى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ((مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ)) [النحل:96] ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ)) [الحجر:21].