المادة    
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ ومما يوضح هذا: أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلٍ يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياسٍ شمولي يستوي أفراده، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها، ولهذا لما سلكت طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية، لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة والاضطراب، لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها .
ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى، سواء كان تمثيلاً أو شمولاً، كما قال تعالى: ((وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى))[النحل:60] .
مثل أن يعلم أن كل كمال ثبت للممكن أو للمحدث لا نقص فيه بوجه من الوجوه وهو ما كان كمالاً للوجود غير مستلزم للعدم بوجه::فالواجب القديم أولى به.
وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه، ثبت نوعه للمخلوق المربوب المدبر، فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره، فهو أحق به منه، وأن كل نقص وعيب في نفسه، وهو ما تضمن سلب هذا الكمال، إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات، فإنه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الأولى .
ومن أعجب العجب: أن من غلاة نفاة الصفات الذين يستدلون بهذه الآية الكريمة على نفي الصفات أو الأسماء. ويقولون: واجب الوجود لا يكون كذا، ولا يكون كذا، ثم يقولون: أصل الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة، ويجعلون هذا غاية الحكمة ونهاية الكمال الإنساني، ويوافقهم على ذلك بعض من يطلق هذه العبارة، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: { تخلقوا بأخلاق الله }، فإذا كانوا ينفون الصفات، فبأي شيء يتخلق العبد على زعمهم؟!
وكما أنه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته تعالى، لا يشبهه شيء من مخلوقاته، لكن المخالف في هذا النصارى والحلولية والاتحادية لعنهم الله. ونفي مشابهة شيء من مخلوقاته له، مستلزم لنفي مشابهته لشيء من مخلوقاته. فلذلك اكتفى الشيخ رحمه الله بقوله: ولا يشبه الأنام. والأنام: الناس وقيل: الخلق كلهم، وقيل: كل ذي روح، وقيل: الثقلان .
وظاهر قوله تعالى: ((وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ))[الرحمن:10] يشهد للأول أكثر من الباقي. والله أعلم ] ا.هـ .

الشرح:
مما يوضح ويجلي حقيقة إثبات صفات الله تعالى أن العلم الإلهي -وهو العلم بالله سبحانه وتعالى- لا يستدل فيه بقياس تمثيلي، ولا بقياس شمولي، والقياس التمثيلي توضيحه ببساطة: هو إلحاق أصل بفرع، أو: مساواة الشيء بنظيره، إذا كان لهذا النظير حكم معين، وله ما يناظره ويشابهه نلحق هذا بهذا، وهذا هو المعروف في أصول الفقه، وهو قياس الفقهاء، قال العلماء: كيف يصلي إنسان في الطائرة ؟ قالوا: كما يصلى على السفينة، فتقاس الطائرة على السفينة مثلاً، ونحو ذلك من أنواع القياس المعروفة .
الأرز مثلاً يقاس على الأصناف الستة في الربا أو في زكاة الفطر؛ لأن هذا مطعوم وهذا مطعوم، وهذا حب وهذا حب مقتاتان. فنلحق هذا بهذا بجامع مشترك وهو -مثلاً- القوت أو الحبوب أو نحو ذلك، والنتيجة: أن يأخذ الرز حكم البر -مثلاً- أو حكم الحبوب .
فقياس التمثيل: أن يستوي فيه الأصل والفرع، الأصل: هو ما تبين حكمه لدى المخاطب أو السامع، والفرع: هو ما ألحق بذلك الأصل .

قياس الشمول: هذا يستخدم عند المناطقة في علم الكلام، وليس في علم الفقه والأصول، وهو مساواة الشيء بالمستوي معه المماثل في الحقيقة بجامع اندراجهما معاً تحت أصل كلي شامل لهما .
فقياس التمثيل: أن نلحق شيئاً بما يشبهه، لكن في قياس الشمول نلحق الشيء بما هو مثله تماماً، والجامع هو اسم مشترك أو كلي -كما يسمونه- يشمل هذا وهذا، فمثلاً: نقول زيد مثل علي، فهذا قياس شمول؛ لأن زيداً إنسانٌ وعلياً إنسانٌ، وكل إنسانٍ حيوانٌ ناطق .
والشيء الكلي: هو ما كان له إفراد مستوون في الحقيقة، مثل الإنسان، هذا يسمونه كلى؛ لأن له أفراداً متساوون في الحقيقة، فما أثبت لأحدهم يثبت للآخرين بجامع أن الكلي يشملهم، ولهذا يسمى قياس الشمول الكلي .
فـالمناطقة "فلاسفة اليونان" -الذين استخدموا قواعد المنطق- يعتمدون في إثبات الصفات أو نفيها على قياس الشمول، فيقولون مثلاً: إذا قلنا: إن له يداً، فمعنى ذلك أن له جسماً، وإذا قلنا: إنه مستو على العرش أو يسأل عنه "بأين"، فمعنى هذا أنه جسم، وكل جسم هو جواهر وأعراض، إذاً فله جواهر وأعراض، فجعلوا حقيقة الله -سبحانه- فرداً من كلي معين يتخيلونه هم.
وهذا القدر هو أصل ضلالهم، فلا نستخدم في العلم الإلهي لا قياس التمثيل ولا قياس الشمول؛ لأنه تعالى ليس كمثله شيء، فالمثلية منفية عن الله -سبحانه وتعالى- فما هو الأصل الذي نقيس الله تعالى عليه ونلحقه به بجامع علةٍ بينهما؟! وما هو الكلي؟ وما هو الكلي الذي تستوي أفراده في الحقيقة بحيث نجعل الله -تبارك وتعالى عن ذلك- جزءاً أو واحداً من أفراده المتساويين في حقيقته المشتركة؟! نحن لا نعلم حقيقة الله -سبحانه وتعالى- حتى نجعل له حقيقة مشتركة، وذات تشترك مع غيرها من الذوات في كلي له حقيقة واحدة، بحيث نلحق هذا بهذا في الأحكام.
والعلم بإلحاق المجهول بالمعلوم لا يخرج عن هذين الطريقتين عندهم، إما القياس بمصطلح الأصول الفقهي، وإما القياس بالمصطلح الكلامي المنطقي، فما دام أننا قد قررنا أنه لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الإفهام، ولا يحيطون به علماً -كما أخبر سبحانه وتعالى- فلا يجوز أن يستدل في باب العلم الإلهي، لا بقياس الشمول ولا التمثيل .
وإنما يستخدم قياس الأولى -وهو الذي لم يتنبه ولم يفطن له هؤلاء المعطلون للصفات- وهو: أن كل كمال للمحدث أو للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالله أولى به، فمثلاً: العلم كمال للمخلوقين، فكل عامي من عوام المسلمين يدرك بفطرته أن الله عليم، فهذا قياس فطري جلي؛ لأن العلم صفة كمال لا نقص فيها، فالله -تبارك وتعالى- أولى وأحق بها من المخلوق.
وقلنا: لا نقص فيه بوجه من الوجوه؛ لأن الإنسان يتزوج، وهي صفة كمال في حق الإنسان، فالذي لا يتزوج حصور، لكنها بالنسبة لله -عز وجل- نقص؛ لأنه ليس له صاحبة ولا ولد -سبحانه وتعالى- .

وهذا من الأدلة الفطرية العقلية التي تتفق مع الأدلة النصية النقلية على إثبات صفات الله -سبحانه وتعالى- أما قياس الشمول والتمثيل، فإنما أورثت علماء الكلام الحيرة والشك والتناقض؛ لأنهم يقيسون على ما لا يعلمون حقيقته، ويجعلون هذه الذات -التي لا يدركونها ولا يمكن أن يدركوا حقيقتها- أفراداً من كلي تستوي في الحقيقة ثم يقيسون ويتكلمون في الاسم والتركيب والأعراض والجواهر وكذا وكذا، وكأنهم قد علموا حقيقته سبحانه، وعرفوا ذاته، وجعلوها كسائر الذوات.
فالله -سبحانه وتعالى- أعلم بنفسه وبصفاته سبحانه وتعالى((قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه))[البقرة:140]، فلذلك لا نثبت لله إلا ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نخوض فيها بهذين القياسيين الباطلين في موضوع العلم الإلهي، وإن كان في مجال الأصول أو المنطق قد يصحان وقد يبطلان .

وإنما القياس الذي يسمى قياساً اصطلاحاً، وإلا فهو معرفة فطرية بدهية -إن صح التعبير عنه- هو قياس الأولى، فكل كمال للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالله أولى به؛ لأن مصدر هذا الكمال للمخلوق هو الله -سبحانه وتعالى- .

يقول الله -سبحانه وتعالى-: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) [الزمر:9] فالعلم صفة كمال، فإذا جاء أحد من المعتزلة أو المعطلة نلزمه بقياس الأولى، نقول: إذا كان العلم صفة كمال للمخلوقين ومدح وثناء فهو في حق الله أوجب وألزم؛ لأن هذا الكمال الموجود في الإنسان إنما أعطاه الله، فالذي أعطاه هذا الكمال - في نظرك - يكون هو ناقصاً خالياً منه .
فغاية ما تقولون: ليس بجاهل، ولو قيل لكم: كيف علم الشيخ؟ وقلتم: إنه ليس بجاهل، كان هذا حطٌ من قيمته، فهذا غاية ما يصفون به الله عز وجل: أنه ليس بجاهل، ولا يقولون: هو عليم ولا عالم .
ومن أعجب العجب أن غلاة نفاة الصفات الذين ينفون جميع الصفات عن الله، يقولون -في كتبهم القديمة-: غاية الفلسفة هي التشبه بالله على قدر الطاقة، والتخلق بأخلاق الله، وجاء المتفلسفون من المسلمين ومن اقتفى نهج هؤلاء من الصوفية، وأخذوا ينقلون هذا الحديث الذي هو "تخلقوا بأخلاق الله"، كما في إحياء علوم الدين وأمثاله، فكيف قلتم: ما له صفة، وإنما هو وجود مطلق فقط، ولا يوصف بشيء، فنتشبه بأي شيء إذن؟! وهذا من أعجب العجب، تناقض هؤلاء النفاة في مثل هذه الأقوال التي يقولونها .
ويقولون: إن الله موجود مطلق ليس له أي صفة، فغاية الكمال وهذا خاص بـالفلاسفة الذين يسمون في الإسلام صوفية-أن تمحى صفات المخلوق ويفنى حتى تتحد ذاته بذات الحق الخالق سبحانه وتعالى، فلا يبقي للإنسان صفة .
فكيف يمكن أن يدافعوا عن أنفسهم بهذا الكلام، وهو يخرجهم من الملة والدين لاعتقاد زوال البشرية بالاتحاد بذات الخالق الإله -سبحانه وتعالى-، وهذا الكلام في غاية الكفر، والله -سبحانه وتعالى- قد كفر النصارى في ما هو أقل من ذلك فكيف بهؤلاء؟
وقد سبق الحديث بالتفصيل عن الحلولية والاتحادية، وأمثال هؤلاء القوم الذين يشبهون المخلوق بالخالق فالتشبيه نوعان:
1-تشبيه الله بخلقه .
2-وتشبيه المخلوق بالخالق سبحانه وتعالى.
وأكثر ما وقع فيه الناس وبسببه عبدت الأصنام أنهم شبهوا المخلوق بالخالق، فعبدوا الأحجار وشبهوها بالله، وظنوا أنها تنفع أو تضر أو تشفع عند الله إلى آخر ما ظنوا فيها من صفات الألوهية، مع أنها أحجار لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنهم شيئاً، فشبهوها بالله -سبحانه وتعالى- وكذلك عندما أطاعوا الملوك أو الأحبار أو الرهبان، وعبدوا الكهان والأحبار والرهبان وشبهوهم بالله -سبحانه وتعالى-، وزادوا بأن شبهوا المخلوق بالخالق في نفس صفات الألوهية مثل ما قال النصارى عن عيسى أنه هو إله بذاته، وأنه يحي الموتى ولا يعتريه الفناء السابق ولا اللاحق، وكذلك الحلولية والاتحادية الذين يشبهون المخلوقات أو الأقطاب أو الأغواث بالله -سبحانه وتعالى- ويطبقون عليهم صفات الألوهية، حتى أن بعضهم يقول: تركت قولي للشيء كن فيكون، تأدباً مع الله تعالى -والعياذ بالله- .
فنفي مشابهة شيء من المخلوقات لله مستلزم لنفي مشابهته لشي من مخلوقاته، فكل منهما يستلزم الآخر، فلا يشبه الأنام سبحانه وتعالى ولا يشبهه الأنام سبحانه وتعالى، والأنام هم الناس أو المخلوقات، كما ذكر في الخلاف في تفسير هذه الآية .