المادة كاملة    
إن الله أرسل رسله، وأنزل كتبه، وخلق السماوات والأرض؛ ليعرف ويعبد ويوحد، ويكون الدين كله له، والطاعة كلها له، والدعوة إليه؛ كما قال تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )، فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر: أن يعبد وحده لا يشرك به شيئاً. فلما كان الشرك منافياً بالذات لهذا المقصود، كان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحرم الله على صاحبه الجنة. وما أوقع الناس في الشرك إلا جهلهم بالله، وسوء ظنهم به سبحانه وتعالى، ولو أنهم عرفوه حق معرفته، وقدروه حق قدره، لما أشركوا به شيئاً.
  1. الشرك والتوحيد

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين, أما بعد:
    فإن مما ينبغي أن يُتحدث عنه؛ نماذج من حياة السلف الصالح ممن غلب عليهم جانب الرجاء أو عرفوا به؛ ليعرف الفرق بين الرجاء الإيماني الشرعي، وبين مجرد الغرور والأماني وترك الطاعة, لكن كما هو معلوم أن هذا الكتاب -شرح الطحاوية- تضمن نقولات مجموعة من عدة كتب، وإضافات للمؤلف -رحمه الله تعالى- فترتب على ذلك نقص في الترتيب, وتناسق الموضوعات واجتماع الجزئيات المتعلقة بموضوع واحد في مكان واحد، فالرجاء مثلاً: تكلم عنه المصنف هنا, ثم أدخل فيه الأَسْبَابَ التي تسقط العقوبة ولها علاقة بالرجاء, ثم بعد ذلك أتبعه فقرة أخرى, وهي قوله: ''والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام'' فعاد فذكر الخوف والرجاء والمحبة أيضاً, وذكر كلاماً للهروي؛ فلذلك يحسن أن نؤخر بقية الكلام في الرجاء إلى الفقرة القادمة حتى يكون الحديث عن الرجاء في موضع واحد إن شاء الله.
    وها هنا موضوع عظيم جداً -وإن جاء به المصنف رحمه الله تعالى ضمن الكلام عن الرجاء- بل إنه أعظم أبواب العقيدة كلها، وهو يستحق الحديث عنه لذاته دون أن يكون تابعاً لأي موضوع آخر, بل كل موضوع في العقيدة فهو تابع له، وهو معرفة الشرك وخطره وضرره، وبالمقابل معرفة التوحيد الذي هو حق الله تبارك وتعالى على العبيد.
    1. أهمية التوحيد

      التوحيد هو أعظم ما دعا إليه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)) [النحل:36] وقال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)) [الأنبياء:25] وكل نبي بعثه الله تبارك وتعالى, وقص علينا ما جرى بينه وبين قومه, نجد أن أعظم وأول ما دعا قومه إليه هو قوله: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ))[الأعراف:65] فنوح وهود وصالح وشعيب عليهم السلام دعوا إلى هذا، وكذلك دعا إليه موسى عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه، وكذلك دعا إليه عيسى عليه السلام ((إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) [آل عمران:51] حتى جاء داعية التوحيد الأعظم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فجاهد الناس جهاداً عظيماً على هذه الكلمة -كلمة التوحيد- وعلى ترك الشرك، ونبذ عبادة ما سوى الله تبارك وتعالى، ونبذ الأنداد المتخذة من دون الله أو مع الله عز وجل، والمصنف هنا إنما ذكر الشرك ليبين من الذي لا يرجو رحمة الله، فالذي لا يرجو رحمة الله هو المشرك، أما من عداه فإنه وإن كان من أهل الكبائر فإن له أملاً ورجاءً في رحمة الله, ولا يجوز أن يقطع هذا الأمل.
    2. خطورة الشرك

      أما الذين لا أمل لهم، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ)) [هود:16] فهم المشركون؛ لأن أعمالهم لا تقبل أبداً، كما قال تبارك وتعالى: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ)) [النور:39] وقال سبحانه: ((وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً)) [الفرقان:23] وقال تعالى: ((كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ))[إبراهيم:18] فلا تقبل أعمالهم؛ لأن الشرك هو أقبح القبائح وأعظم الذنوب وأكبر الجرائم والكبائر, وهو الذي يحبط الأعمال كلها, ولا يقبل معه أيّ عمل من الأعمال كائناً ما كان، وإن كان صلاةً أو صياماً أو صدقةً أو دعوةً أو جهاداً أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر, مهما بلغ جهد من يجتهد, ومهما كانت عبادته, ومهما توسل إلى الله تبارك وتعالى بأي نوع من أنواع القربات وهو مشرك, فلا يقبل الله تبارك وتعالى منه صرفاً ولا عدلاً.
      والمصنف رحمه الله تعالى يقول هنا: ''وقال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) [النساء:48] فالمشرك لا ترجى له المغفرة لأن الله نفى عنه المغفرة'' لا ترجى له، ولا يرجوها لنفسه، ولا يرجوها أحد له مهما كانت قرابته أو صلته، فهذا عبد الله بن عبد المطلب أقرب قريب لأعظم رسول وحبيب, فهو أبو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ومع ذلك لم تنفعه تلك القرابة, ولن يشفع له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم القيامة، كما جاء في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: {أبي وأبوك في النار}.
      وكذلك عَمُّه أبو طالب، وإنما شفاعته له أن يخفف عنه العذاب, لا أن يخرج من النار، كما قال تعالى: ((إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ))[المائدة:72] فهذا الشرك بابه عظيم, وشأنه جلل, وهو خطير, ولابد من معرفته والحذر منه, والتنبه له: كبيره وصغيره، دقيقه وجليله.
      ومن أوفى ما كتب في هذا الموضوع الكتاب الذي أشرنا إليه سابقاً, وهو الجواب الكافي لـابن القيم رحمه الله، وله عنوان آخر هو: الداء والدواء، والكتاب في الأصل جواب لسؤال عن كبيرة من الذنوب التي تأتي من قبل الشهوة وأسبابها، لأن الذنوب إما أن تأتي من قبل الشهوة أو من قبل الشبهة، والذنوب الشهوانية مرجعها إلى مرض القلب، وأعظم مرض يصيب القلب من جهة الشهوة مرض العشق.
      فناسب أن يستطرد رحمه الله في الكلام على الذنوب وخطرها وضررها، فتوسع في ذلك إلى أن أتى على الذنب الذي لا يرجى معه خير أبداً وهو الشرك، لأنه إذا كانت الفواحش التي دون الشرك مثل الخمر والزنا والعقوق والنميمة وظلم الناس توعد الله عليها بما توعد، فما بالكم بالذنب الأعظم الذي ترجع إليه هذه الذنوب جميعاً والذي لا ينفع معه عمل صالح كما تقدم؟!
    3. التوحيد هو الحكمة من خلق الإنسان

      قال ابن القيم في الجواب الكافي: ''إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه وخلق السموات والأرض ليُعْرَفَ ويُعْبَدَ ويُوَحَّد, ويكون الدين كله لله، والطاعة كلها له والدعوة له'' هذه قاعدة عظيمة تبين أن التوحيد هو الغاية من خلق الله تبارك وتعالى للثقلين بل والسموات والأرض، وأنه الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب، ومع هذا كله ترى كثيراً من المسلمين قد يتكلم في كل شيء إلا في هذا الباب العظيم.
      قال رحمه الله: ''ويكون الدين كله لله, والطاعة كلها له, والدعوة له كما قال تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56] وقال تعالى: ((وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ)) [الحجر:85] وقال تعالى: ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً))[الطلاق:12] ''.
      فالمقصود أن يَعلم الناس صفات رب العالمين، وأن يعرفوه، وأعداء التوحيد يتهاونون في الأسماء والصفات, ولا يريدون أن يُعَرِّفوا الناس بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا أن يحببوا رب العالمين إلى العالمين, ولكن أهل السنة والجماعة من عقيدتهم أن أعظم شيء في هذا الدين أن يعرف الناس رب العالمين ويوحدوه، والاستدلال على ذلك جلي في كتاب الله؛ فأعظم سورة في كتاب الله هي الفاتحة, وهي تعريف بالله، وأعظم آية في كتاب الله آية الكرسي؛ وهي أيضاً تعريف بالله وبصفاته.
      قال رحمه الله: ''وكما قال تعالى: ((جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ)) -فعلل مرة أخرى- ((لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) [المائدة:97]'' فالذي لا يعلم ذلك لا خير فيه ولا في عبادته، وإنما شرعت هذه الشرائع, وفرضت هذه الفرائض؛ ليُعْرَفَ الله تبارك وتعالى, ويعبد وحده لا شريك له.
      قال: ''فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر...".
      جمع رحمه الله بين الخلق والأمر لأن الله قد جمع بينهما بقوله تعالى: ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)) [الأعراف:54]'.
      والقصد هو الغرض والحكمة، والخلق: خلق العباد، والأمر: أمرهم ونهيهم، لأن الله تعالى لم يتركهم سدى -والسدى هو الذي لا يُؤمر ولا يُنهى- بل إنما خلقهم ليأمرهم وينهاهم، فابن القيم رحمه الله يقول: "فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر أن يُعرف بأسمائه وصفاته، ويُعبد وحده لا يُشرك به، وأن يقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض كما قال تعالى: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ))[الحديد:25].
      فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل.. ومن أعظم القسط التوحيد، وهو رأس العدل وقِوامه، وإن الشرك لظلم عظيم" كما في قول العبد الصالح لقمان الحكيم: ((يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ))[لقمان:13] فأعظم أنواع الظلم الشرك، كما أن أعظم ما يؤمر به هو توحيد الله عز وجل، وأعظم منكر يجب أن ينهى عنه هو الشرك بالله عز وجل، وأعظم العدل توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثم بعد ذلك العدل فيما وليه الإنسان حتى بيته، وكل إنسان له ولاية بقدر حاله، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته} ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: {المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين؛ الذين يعدلون في أهليهم وما وُلُّوا }.
  2. الشرك وعواقبه على الإنسان

     المرفق    
    ثم قال رحمه الله: ''فالشرك أظلم الظلم، والتوحيد أعدل العدل، فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر'' أي ما كان منافياً لما خلق الله تعالى من أجله الناس، ومنافياً لما أمرهم به، فهو أكبر الكبائر.
    قال: ''وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له وما كان أشد موافقة لهذا المقصود فهو أوجب الواجبات وأفرض الطاعات'' يعني تتفاوت الكبائر بحسب قربها من الشرك، وكل معصية ترتكب فإنها تمس العقيدة بقدر ذلك الذنب وتلك المعصية؛ ولهذا فإن أعظم الذنوب هي التي يأتيها الإنسان بدافع الشبهة والبدعة، فهي أعظم من التي تكون بدافع الشهوة؛ لأنها أقرب إلى الشرك، فمن هنا كانت أخطر من الذنوب التي لا يقترن بها شبهة ولا بدعة؛ على أن البدع بذاتها درجات, كما أن الذنوب الشهوانية العملية أيضاً درجات.
    يقول: ''فتأمل هذا الأصل حق التأمل، واعتبر تفاصيله, تعرف به حكمة أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، فيما فرضه على عباده، وحَرَّمَه عليهم، وتَفَاوُت مراتب الطاعات والمعاصي.
    فلما كان الشرك بالله منافياً بالذات لهذا المقصود، كان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحَرَّمَ اللهُ الجنة على كل مشرك، وأباحَ دَمَه ومالَه لأهل التوحيد، وأن يتخذوهم عبيداً لهم؛ لما تركوا القيام بعبوديته"، فالذي رفض وأبى واستكبر أن يكون عبداً لرب العالمين يستحق من العقوبة أن يكون عبداً لمن يعبد رب العالمين.
    وهذا مما يدل على فضل التوحيد وأهله، وعلى إهانة الله تبارك وتعالى للشرك وأهله، فلا مُكرِم لهم, ولا قيمة لهم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    وأما هذه المنظمات الدولية التي ترفع عقيرتها بالمناداة بحقوق الإنسان زاعمة أنه لا رقّ في هذا القرن, فلم يعلموا لجهلهم أن أعظم الحقوق على الإطلاق هو حق الله على عباده بأن يُعبد وحده ولا يُشرك معه أحد, لأنه هو الذي من أجله خُلق الإنسان, ومن أجله قامت السماوات والأرض وبه قامت.. أما أن يكون من حقوق الإنسان -كما جاء في الميثاق الدولي لحقوق الإنسان- أن يغير دينه كما يشاء, ولايحق لأحدٍ منعه؛ فهذا الميثاق إضاعة لأكبر وأعظم حق, وهو حق الله تبارك وتعالى.
    نعم أعطى الإسلام الحرية للإنسان ابتداءً في الدخول في هذا الدين ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ))[البقرة:256] لكن بعد ذلك ليس له الرجوع عنه، وإن ارتد قُتل.
    فهذا الدين دين الحرية الحقة, الذي يحرر الإنسان من الشهوات, ومن عبادة الشيطان, ومن عبادة الأنداد والبشر والأحبار والرهبان والكهان والأباطرة وغيرهم؛ ممن ادعى الربوبية أو الألوهية مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    وإن الكفار الذين يعبدون غير الله لما تركوا القيام بعبودية الله استحقوا أن يكونوا عبيداً لمن قام بحق العبودية لله، وهم المؤمنون، ولذلك إذا ترك المؤمنون التوحيد, سُلِّط الكافرون عليهم عقوبةً لهم, ولأنهم عرفوا الحق وتركوه, وتنكبوا طريقه.
    يقول: ''وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملاً، أو أن يقبل فيه شفاعة، أو يستجيب له في الآخرة دعوة، أو يقيل له فيها عثرة، فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله، حيث جعل له من خلقه نداً، وذلك غاية الجهل به، كما أنه غاية الظلم منه، وإن كان المشرك لم يظلم ربه، وإنما ظلم نفسه''.
    إن الظلم والجهل أسوأ صفتين في الإنسان؛ وكفى بواحدة منها شراً، وإذا اجتمعتا فلا شر أكبر منهما، كما قال الله تعالى: ((إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)) [الأحزاب:72].
    وغاية الجهل أن يجعل الإنسان لله نداً، وغاية الظلم أن يسقط الإنسان حق الله ويعطيه لغير الله -وذلك هو الشرك- فكل شر في الدنيا خَطَرَ على بَالِكَ فهو آت من قبل الظلم أو الجهل، فالمشرك جاهل بالله لأنه ما قدّر الله حق قدره ولهذا عَبَدَ معه غيره, وهو ظالم لنفسه أشد الظلم، لأنه يصرف حق الله الخالص ويعطيه لغيره، ومن عبد مخلوقاً مثله فيكون كما قال فرعون وقومه: ((وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ))[المؤمنون:47] والمقصود أن أصل الشر والبلاء يأتي من قبل العابدين لا المعبودين من دون الله فهم أسماء سماها العابدون، ولو لم يعبدوهم ما كانوا شيئاً؛ فلو قال قوم فرعون لفرعون -حين قال: ((أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)) [النازعات:24]- لو قالوا: لست كذلك؛ بل أنت بشر مثلنا، ما فعل شيئاً، فما بالكم بالحجارة وغيرها؟! فالسبب العابدون، ولذا لا ينفعهم يوم القيامة أن يقولوا: (( رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا)) [الأحزاب:67] لأنه لولا هذا الجاهل ما تفرعن المتفرعن ولا ادعى الألوهية ذلك المدعي.
    1. أقسام الشرك

      ثم بين رحمه الله بعد ذلك أقسام الشرك فقال: ''الشرك شركان -وهذا من حيث الأصل- شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله. وشرك في عبادته ومعاملته''.
      الشرك الأول: في أسمائه وصفاته وأفعاله، أي فيما هو من خصائصه تبارك وتعالى، أما الثاني: فهو في معاملته وفي عبادته، وفيما يتقرب العباد به إلى الله عز وجل.
      يقول: ''وإن كان صاحبه -يعني النوع الثاني من الشرك- يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله''.
      ولذلك كان تعريف التوحيد عند أهل الكلام من الأشعرية والمعتزلة وأشباههم ناقصاً؛ فإنهم يقولون في تعريف التوحيد: التوحيد أن تعتقد أن الله واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، ومعنى اعتقاده واحداً أنه ليس مركباً ولا مبعضاً ولا متعدداً، فليس اثنين ولا ثلاثة، بل هو واحد في ذاته, واحد في أسمائه, واحد في صفاته, واحد في أفعاله، ومعلوم أن هذا ليس هو التوحيد, بل هو جزء من التوحيد، ويجب أن يُكَمَّل التعريف فيقال: وأن يُعْبَدَ وحده لا شريك له ويُتَقَرَّبَ إليه وحده لا شريك له, فيكون إخلاصك ورجاؤك ويقينك ومحبتك وإنابتك ورغبتك ورهبتك وصلاتك وصيامك وحجك ونذرك كله لله.
  3. الشرك بذات الله وأسمائه وصفاته

    1. شرك التعطيل

      قال: ''والشرك الأول -المتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته- نوعان: أحدهما: شرك التعطيل؛ وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: ((وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ))[الشعراء:23]" وليس تفسير هذا القول من فرعون هو ما يقوله المتنطعون من أهل الكلام أنه سؤال عن الماهية، فكأنه -حسب تفسيرهم- قال: أخبرني عن ماهيته, فإن كلام فرعون إنما هو على سبيل إنكار الرب سبحانه، بل قد زعم أنه هو رب البشر الأعلى، قال تعالى مخبراً عن فرعون ذلك القول: ((فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)) [النازعات:24].
      ثم قال ابن القيم: "وقال تعالى مخبراً عنه أنه قال لـهامان: ((وَقَالَ فِرْعَونُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً)) [غافر:36-37]" وهذا الكلام منه إنما هو على جهة الجحود, وإلا فهو مقر بالله باطناً؛ كما قال تعالى: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً))[النمل:14] ولهذا رد عليه موسى عليه السلام: ((قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ))[الإسراء:102] أي أنك تعلم -يا فرعون- أن الله تعالى هو الذي أنزل هذه الآيات وهذا الدين.. ففي الحقيقة كان فرعون يعلم أن الله هو الرب وحده، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه رب العالمين، لكنها الشهوات والملك والغرور ((إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ))[الملك:20] وكذلك كان أتباعه، وكانوا لا عقول لهم، فاستخفهم؛ كما قال الله تعالى: ((فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ)) [الزخرف:54] فالأمة الفاسقة المتحللة الضالة التي تميل إلى الإباحية والفساد وإضاعة الأوقات، يستخفها المجرمون الكذابون وينطلى عليها زورهم وإفكهم.
      ثم قال: ''والشرك والتعطيل متلازمان, فكل مشرك معطل'' التعطيل لغة: هو الإخلاء أو الإفراغ، وشرعاً: هو إنكار صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأسمائه.
      "فكل مشرك معطل, وكل معطل مشرك"، وتفسير ذلك أن كل من أشرك بالله فقد عطَّل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, عطل أسماءه وصفاته، وعطل ما هو له من خصائص ذاته.. وكذلك كل معطل مشرك؛ لأنه لما ترك هذه الخاصية من خصائص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فإنه قد أشرك معه غيره، وغالباً ما يجعلون بعض هذه الصفات في غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      قال: ''لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل؛ بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه وصفاته ولكنه عطل حق التوحيد'' وهذا هو حال أكثر الناس اليوم يقرون بالإيمان بالله لكنهم مضيعون لحقه.
    2. أقسام التعطيل

      قال: ''وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو التعطيل, وهو ثلاثة أقسام: القسم الأول: تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه'' أي تعطيل الخلق عن الخالق كما في قوله تعالى: ((أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ))[الطور:35] واعجباً لمن يرى المخلوقات أمام عينيه ثم يقول: لا خالق لها!! فهذا وأمثاله عَطَّلُوُهَا عن خالقها, أي عن الله تبارك وتعالى.
      لذلك فالذين يشركون بالله من الشيوعيين أو الملحدين أو الغربيين لابد أن يجعلوا خالقاً غير الله في الحقيقة، وفي ظاهر اللفظ يقولون: هذه لا تحتاج إلى خالق، والذي جعلهم يهربون من افتراض وجود خالق أنهم إذا قالوا الله أو الرب فالمقصود به عندهم هو المكون من ثلاثة أقانيم، الذي تجسد في شكل إنسان, وصلب على الصليب, ثم صعد إلى السماء.. وغير ذلك مما يحكونه, فلا يمكن أن يكون هذا الذي خلق السماوات والأرض، فما كان لهم حلٌ إلا أن يقولوا: ليس للسماوات والأرض خالق!! وخاصة إذا كان هذا الخالق هو الرب الذي تذكره الأناجيل المحرَّفة, ويدعيه البابا وأتباعه, والذي يقترن الإيمان به بالعنف وبالقوة وبالسيطرة, فإذا خالف أحدهم أي شيء من كلام رجال الدين, قالوا عنه: كافر وزنديق، حلال الدم والمال, فكان الإلحاد لهم أسهل، فعطلوا الخلق عن الخالق ثم افترضوا الطبيعة، ولكن الطبيعة هي المخلوقات، فبعضهم يثبت للخلق خالقاً واحداً، وينفي عنه ما يقوله الكنيسة في ربهم (كالربوبيين أو المؤلهين) وبعضهم قال: لا أدري، وهم (اللاأدريون)، واليوم لا تجد عالماً في الطبيعة إلا ويؤمن بخالق لكن إيمانه ليس مثل إيماننا فهم (الربوبيون ).
      ثم قال: ''والثاني: تعطيل الصانع'' أو الخالق، وورد الصانع في حديث: {الله صانع كل صانع وصنعته} وفي قوله تعالى: ((صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)) [النمل:88] فيطلق لفظ الصانع على الله, والأفضل أن يقال: الخالق.
      قال: ''وتعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وأوصافه وأفعاله'' هذا النوع الثاني من أنواع التعطيل، فهؤلاء لا ينكرون وجوده ولا أنه هو الخالق، لكن ينكرون أسماءه وصفاته ويعطلونه منها, كما يقول أهل الكلام في وصف الله سبحانه وتعالى: لا داخل العالم ولا خارجه... ولا يغضب ولا يرضى، ولا ينـزل.. يقولون: حتى لا نقع في التشبيه! فينفون صفات الله ويعطلونها, ويثبتون شيئاً شبيهاً بالعدم أو هو العدم.
      ''وقال: وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد'' وذلك يكون بالشرك الكلي أو الجزئي.
      والكلي: كأن يعبد غير الله سجوداً وصلاةً وصياماً وغير ذلك، والجزئي أن يقع في الرياء مثلاً أو في صرف بعض أنواع العبادة لغير الله دائماً أو في بعض الأحيان.
      فهذه ثلاثة أقسام من أقسام التعطيل، الأول: إ نكاره، والثاني: إنكار أسمائه وصفاته، والثالث: إنكار عبادته وحقوقه.
      قال: ''ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون: ما ثم خالق ومخلوق، ولا ها هنا شيئان؛ بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه...'' كمثل جماعة محمود محمد طه وأمثاله، وهم من غلاة الصوفية الذين يقولون: ما ثم خالق ولا مخلوق، والخالق عين المخلوق والمخلوق عين الخالق -والعياذ بالله- وهؤلاء بلغوا من الكفر إلى حدٍ تمجه العقول، وقد قابلني أحدهم لكن ليس هنا، بل في بلاد الحرية -كما يزعمون- وكان المسجد مليئاً بالناس، فجاء يقول: إنه هو الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- قلت: كيف تقول هذا؟! ألست مسلماً؟!
      قال: بلى أنا مسلم، وهذا هو حقيقة التوحيد، فالنصارى كفرت لأنها جعلت الآلهة ثلاثة؛ لكن نحن نقول: كل شيء هو الله -وهذا كما لقنهم شيخهم المخدوع الهالك- وفرعون كفر لأنه قال: ((أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى))[النازعات:24] وكان عليه أن يقول أنه هو وشعبه كلهم رب!! نعوذ بالله من هذا الكفر.
      وهذا الكفر هو شر وأقبح أنواع الكفر عند جميع أهل الملل.
      كل من يعبد الله ويعرف الله ولو معرفة منقوصة كاليهود يعتبرهم كفاراً, على أنه يوجد في اليهود بعض الحلولية والاتحادية, والنصارى عندهم الذي يزيد على الثلاثة كافر, والبوذيون والهندوس يعدون هذه النحلة كفراً، ومع ذلك يدعي هؤلاء الغلاة الاتحادية والحلولية أنهم هم أهل التوحيد.
      والجهمية الذين عطلوا صفات الله وأسماءه يتدرجون ضمن هذا النوع الأول الذي هو شرك التعطيل.
  4. شرك من جعل مع الله إلهاً آخر

    النوع الثاني: قال رحمه الله: ''شرك من جعل مع الله إلهاً آخر, ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة' ويقصد شرك الأنداد، فهؤلاء لم يعطلوا أسماءه وصفاته, لكن قرنوا به غيره، فهم يرون أن الله عظيم وجليل وقدير وسميع وبصير, لكن يقولون: هذه الصفات للربِّ يسوع, ويسوع هذا هو الأقنوم الثاني لله, أو هو ابن الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!!
    ثم قال: ''ومن ذلك شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة'' كما قال الله تعالى: ((وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ))[النحل:51] فـالمجوس يتخذون إلهين: إله النور وهذا خير كله، وإله الظلمة وهو شر كله.
    ثم قال: ''وشرك القدرية القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه، وأنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته وإرادته، ولهذا كانوا أشباه المجوس، ومن هذا شرك الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربِّه...".
    ففرعون قال: ((أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)) [النازعات:24] والذي حاج إبراهيم في ربه ما ادَّعى الربوبيةَ المطلقة, لكنه ادَّعى صفةً من صفات ربِّ العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قال تعالى: ((إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)) [البقرة:258] إبراهيم عليه السلام أراد أن يُعَرِّفَهُ بربِّ العالمين، بالصفةِ التي لا يشترك فيها معه غيره، فكان مدخل إبراهيم عليه السلام أفضل وسيلة للإقناع: ((رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)) لكن الرجل من باب المغالطة قال: أنا أحيي وأميت، فحاجه إبراهيم عليه السلام من باب الإلزام فقال له: ((فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ))[البقرة:258], ولو شاء لقال له: إن إحياء الله من العدم, أما أنت فلم تحيه من العدم، لكنه لم يقل له ذلك، بل حاجه من باب الإلزام، وهذا يبين لنا قاعدةٌ من قواعد مجادلة المشركين والمجرمين وهي أنه ليس شرطاً أن تردَّ على الكلمة بنفس الكلمة, وأحسن من ذلك أن تأتي بشيء أوضح تدمغ به قول الخصم, كما قال إبراهيم عليه السلام: ((فإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)) [البقرة:258] مع أن هذا الرجل لم يقل مثل ما قال فرعون: أنا ربكم الأعلى، إنما قال ما يفعله الله أنا أفعله، لكن الخليل عليه السلام جاء بشيء لا يمكن أن يأتي به قال: ((فإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)) [البقرة:258] فلم يستطع الكافر الاستمرار في الجدال: ((فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ))[البقرة:258].
    فهذا نوع من أنواع المجادلة العظيمة التي علمنا الله إياها من خلال ما قصه عن إبراهيم عليه السلام ومحاجته لمن يعبد الكواكب ويعبد النار.
    ثم يقول رحمه الله: ''ومنهم من يزعم أن معبوده هو الإله على الحقيقة، ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة'' وهذا الكلام الذي نحن نحكيه واقع في الغرب عند الذين يدعون أنهم أهل العقول وأهل الحضارة، فاليونان جعلوا لكل شيء إلهاً أو رباً! -تعالى الله عما يشركون- فالجمال له إله، والمطر له إله، والجبال لها إله، والنور له إله، والشمس لها إله، والشعر له إله، وأيُّ شيء تتصوره في بالك له عندهم إله، مثل "فينوس" إلهة الجمال، و"أبوللو" إله الشعر، و"أطلس" إله العالم الذي يقولون عنه أنه يحمل العالم على ظهره، ثم قالوا: إن هذه الآلهة تتصارع، هذا الإله يصارع هذا الإله، وغير ذلك من الأساطير الخرافية التي توجد في تواريخهم وعقيدتهم.
    فمع هذه الوثنية المنحطة التي يترفع عنها العقل تنسب إليهم الفضائل والحضارة والعلم، ثم ينقل هذا إلى بلاد المسلمين، كما فعل الخبيث نجيب محفوظ في ثلاثياته التي أخذ عليها الجائزة الصهيونية -كما سماها هو قبل غيره؛ حيث قال: لا يأخذها إلا صهيوني- ففي هذه الثلاثية يذكر قصة مصرية قديمة وفيها أن الإلهة غضبت.. والإله رضي.. وهكذا... ولا يتحرجون أن يقولوا: إلهة يذكروا إلهاً غير الله، ونحن المسلمين نقول: لا إله إلا الله, وهي شعارنا، ولا نطلق هذا الاسم (الله أو الإله) على أحد غير الله تبارك وتعالى.
    1. الشرك الأصغر

      وأما النوع الثاني من أنواع الشرك فهو: الشرك في عبادته وحقوقه ومعاملته، يقول رحمه الله: ''فهو أسهل من الذي قبله وأخفّ أمراً، فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله, وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله, وأنه لا إله غيره ولا رب سواه ولكن لا يخص الله في معاملته وعبوديته، بل يعمل لحظ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة'' فهذا أخف من حيث أن فاعله قد وقع في اللبس؛ كما قال تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) [الأنعام:82] أي بشرك العبادة، فهذا مقر أنه لا إله إلا هو، ولا خالق ولا نافع ولا ضار إلا هو سبحانه، بل هو مؤمن بأسمائه وصفاته, لكنه غير مخلص لله تعالى في معاملته وفي عبوديته.
      قال: ''فلله من عمله وسعيه نصيب, ولنفسه وحظه وهواه نصيب, وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب، وهذا حال كثير من الناس'' وهذا هو الشرك الأصغر أجارنا الله منه.
      قال: ''وهو الشرك الذي قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه ابن حبان في صحيحه: {الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة, قالوا: كيف ننجو منه يا رسول الله؟
      قال: قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم
      '' لأنه لابد أن نقع فيه, فنستغفر مما لا نعلمه منه، ونستجير ونستعيذ مما نعلم.
      ثم قال: ''فالرياء كله شرك، قال تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً))[الكهف:110] أي كما أنه إله واحد ولا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يتفرد بالعبودية، فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء المقيد بالسنة.
      وكان من دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً].
      وهذا الشرك في العبادة يبطل ثواب العمل'' فلو صلى لغير الله أو حج أو زكى لغير الله، فهذا كافر مشرك لا شك فيه، لكن إذا صلى مراءاة من أجل الناس، ومن أجل أن يقال عنه: مصلٍ أو يُثْنَى عليه بخير فقد وقع في الرياء.
      وبعض الناس -والعياذ بالله- ابتلوا بهذا الابتلاء، وقد ذكر العلماء أنَّ أعرابياً كان يصلي فدخل عليه بعض السلف فحسَّن صلاته، فقال هذا العالم: (أعرابيٌّ ويصلي هذه الصلاةَ الخاشعة؟! فلما سلم الأعرابي قال: (ومع ذلك أنا صائم)!! عافانا الله وإياكم من هذا البلاء!
      وعلى الإنسان أن يخاف على نفسه الرياء، وعليه أن يكون من هؤلاء، ممن يحبون أن يُحْمَدوا بما لم يفعلوا، ويراءون الناس، ومن علاماتهم أنهم لا يذكرون الله إلا قليلاً.
      والمؤمن في باطنه مع ربه خير منه في ظاهره.
      أما أن يُذْكَرَ الإنسان بالخير, ويُثْنَى عليه بما هو فيه، فتلك عاجِل بشرى المؤمن، لكن لا يعمل من أجلها، فهناك فرق بين أن يعمل من أجل حصول هذه البشرى، وبين أن تقال عنه؛ ولا شك أن الإنسان لا يريدُ أنْ يقال عنه السوء, ويَأْلَمُ إذا قيلت عنه مقالة في عرضه أو دينه أو في إيمانه ولا يرضيه ذلك، لكن هذا أمر والرياء أمر آخر، فهو يحبط العمل؛ كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك.. من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه، وأنا منه بريء}.
  5. أقسام الشرك باعتبار مغفرته وعدم مغفرته

    ثم قال رحمه الله: ''هذا الشرك ينقسم أكبر وأصغر''. الشرك في المعاملة والعبودية ينقسم إلى أكبر وأصغر، ومغفور وغير مغفور. ''النوع الأول -أي: الأكبر- ينقسم إلى كبير وأكبر وليس شيء منه مغفور'' النوع الأول -الشرك الأكبر- منه كبير، ومنه أكبر, ولا شيء منه أصغر، كمن يصلي لغير الله أصلاً, أو كمن يكون رياؤه في أصل الدين، كالمنافقين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله رياءً، أما الذي يشهد أن لا إله إلا الله, مؤمناً بالله, ومصدقاً بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبالقرآن عن حق, لكنه يرائي في بعض عبادته -في جهاده أو في صلاته أو في دعوته- فإنه قد أوقع نفسه في الكبائر, وقد يحبط رياؤه عمله وقد لا يحبطه, وذلك بحسب قوته, وهذا الذنب مغفور, وليس معنى قولنا: (مغفور) أنه لا يؤاخذ عليه، كلا.. بل نقصد أنه داخل تحت المشيئة.. بخلاف الشرك الأكبر، فإن الله تعالى لا يغفره.
  6. حقيقة الشرك

    ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "إذا عرفت هذه المقدمة انفتح لك الجواب عن السؤال المذكور"، فالسؤال المذكور الذي ورد عن الكبائر وأنواعها، ولماذا كان الشرك أكبرها وأعظمها وأخطرها؟
    فيقول رحمه الله: "حقيقة الشرك التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به" وهذه قاعدة مهمة نستنتجها مما تقدم وهي: أن حقيقة الشرك تنحصر في التشبه بالخالق، وتشبيه المخلوق به، هذا أوجز ما يمكن أن يقال في حقيقة الشرك، ومعرفة لماذا كان أعظم الذنوب وأعظم ما عصي الله تبارك وتعالى به.
    قال رحمه الله: " حقيقة الشرك: هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به، هذا هو التشبيه في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم".
    يريد ابن القيم رحمه الله تعالى أن يرد على الذين نفوا الصفات: حتى لا يقعوا في التشبيه بزعمهم، فقد نفوا صفة العلو وصفة الكلام وغيرهما من الصفات وأنكروا رؤية الله عز وجل.
    فالعلة واحدة عند الذين ينكرون صفات الله تبارك وتعالى من الجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم، أنهم يقولون: لو أثبتنا الصفات لوقعنا في التشبيه، فنقول: أنتم لا تفهمون حقيقة التشبيه، التشبيه الذي هو الشرك عكس ما تظنون، التشبيه هو تشبيه الخلق بالخالق، لا كما تظنونه إثبات صفات الله، أما تشبيه الخالق بالمخلوقين، كمن يقول: إن الله له يد كيد المخلوقين، أو يقول: إن الله له سمع كسمع المخلوقين، أو يستوي كاستواء المخلوقين، هذا نادر الوقوع.
    فالله تعالى فطر النفوس على استحالته واستبعاده، ووقوعه من بعض المشبهة قليل وإن وقع فهو مما ينكره عامة المسلمين ولا شك أنه منافٍ للتوحيد.. ولا ريب في ذلك.
    والسلف الصالح لا يثبتون الصفات لله تبارك وتعالى كصفات المخلوقين، ولكنهم يقولون كما قال عز وجل: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))[الشورى:11].. يثبتون السمع والبصر وجميع الصفات مع إثبات أنه ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ُ))[الشورى:11] وليس له كفواً أحد، و((هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا))[مريم:65]^، وإن وقع الاشتراك اللفظي في الاسم فالحقيقة غير الحقيقة، كما أن الوجود غير الوجود، والذات غير الذات، وكافة المسلمين متفقون أن ذات الله تبارك وتعالى لا تشبهها ذات، وأن وجود الله تبارك وتعالى لا يماثله وجود، إذاً: فبقية الصفات تتبع الذات، وتتبع صفة الوجود المجمع عليها، وهذا مذهب واضح، ومنهج سهل الفهم، ولا ينكره إلا مكابر.
    والتشبيه الذي يحذر منه هو تشبيه المخلوقين بالخالق، أما تشبيه الخالق بالمخلوقين فهو نادر الوقوع، وإن زعم عكس ذلك من زعم، كـالرازي وأمثاله، وذكروا في ذلك مقالة نسبوها إلى رجل لا عقل له ولا نقل، وهو المنجم المشهور أبو معشر الفلكي منجم من المنجمين، كان في الإسلام لا يعرف له فضل ولا خير ولا سابقة ولا دين، يقول في مقالته: إن أول شرك وقع أن الناس اعتقدوا أن الله سبحانه وتعالى له يد كيد المخلوقات، وله عين كعين المخلوقات، فعبدوا الأصنام.
    وهذا الكلام مغاير للحقيقة وللواقع التاريخي، ولما صحت به الأحاديث، وكل الدلائل تشهد أن الذين عبدوا الأصنام شبهوها بالله، ولم يشبهوا الله بالأصنام.
  7. الخصائص الإلهية

    فيقول: "لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعكس من نكَّس الله قلبه وأعمى عين بصيرته، وأركسه بكسبه، وجعل التوحيد تشبيهاً، والتشبيه تعظيماً وطاعة، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية".
    1. التفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع

      وقال رحمه الله: "فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع" كما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : {لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت} هذا مما يملكه الله سبحانه وتعالى وحده.
      وقال: "وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده" لأنه هو الذي يملك العطاء والمنع والضر والنفع، من يدعى؟! من يرجى؟! من يستغاث به؟! من يُلاذ به عند الشدائد؟! إنه الله وحده.
      وأما المشركون فقد عكسوا ذلك، فأصبحوا يدعون من دون الله آلهة في وقت الرخاء، وأما في وقت الشدة فإنهم ينسون تلك الوسائط -كما كان المشركون الأولون- قال تعالى في وصف حالهم: (( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ))[يونس:22] في هذه اللحظة، نسوا الوسائط، لكن إذا أنجاهم إلى البر إذا هم يشركون به ويدعون غيره معه أو من دونه، فوقعوا في الشرك مرة أخرى.
      ويقول رحمه الله: "فمن علق ذلك بمخلوق"، يعني: الدعاء والخوف والرجاء "فقد شبهه بالخالق" من جهة أنه أضفى عليه خصائص الإلهية، "وجعل من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً -فضلاً عن غيره- شبيهاً لمن له الأمر كله فأزمة الأمور كلها بيده ومرجعها إليه"، جعله كالحي القيوم سبحانه وتعالى، الذي بيده كل هذه الأمور، وإليه مرجعها، "فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، بل إذا فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد" : ((مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ))[فاطر:2] فهو الذي بيده كل شيء، وعنده سبحانه وتعالى خزائن كل شيء، وإليه المنتهى (( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ))[النجم:42] منتهى الإرادات ومنتهى المطالب ومنتهى المنى، كل ذلك ينتهي إلى الله سبحانه وتعالى.
      أي مخلوق تصورت أنه يمكن أن يعطيك أو يساعدك أو يضرك أو ينفعك، ففكر بعقلك: من الذي خلقه؟! من الذي أوجده؟! من أعطاه؟! تجد في النهاية أنك تستيقن وتعلم قطعاً (( َأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ))، فهو وحده الذي يسأل ويستعان به ولا سيما وهو كما قال الشاعر:
      الله يغضب إن تركت سؤاله            وبني آدم حين يسأل يغضب
      إذاً: اطلب الغني الكريم الذي بيده كل شيء، وبيده خزائن كل شيء، ويريد أن تسأله، ويغضب إن لم تسأله وتطلبه، فكيف تلجأ إلى المخلوقين وتتخذ منهم وسائط من دونه؟!
      إلى أن يقول رحمه الله: "فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات... بالقادر الغني بالذات" تبارك وتعالى.
      شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله لهما هذا المنهج، يستطردان ويوضحان، وهذا المنهج لو تأملناه لوجدنا أنه قرآني، فالله تبارك وتعالى في القرآن، حتى وهو يأتي بقصة أو بخبر، فإنه يأتي بإشارة أو دلالة قوية على أهمية التوحيد، أو تجلية لجانب معين من جوانب التوحيد تتعلق بهذا الموضع، وهكذا الذين يسيرون على منهج القرآن والسنة في الدعوة والفهم والحكمة والبصيرة التي أمر الله تعالى بها، ويستنبطون من القرآن؛ كهذين الشيخين الفاضلين، فـابن تيمية -مثلاً- وهو يتكلم عن مشابهة المشركين ومحبتهم كما في اقتضاء الصراط المستقيم يعرج على موضوع الشرك، وفي الصارم المسلول يعرج على موضوع الكفر وأنواعه وهكذا.
      وهنا كان السؤال عن المعاصي، والكتاب كله يعالج قضية العشق، ومع ذلك عرج ابن القيم إلى الشرك وأطال وأفاد فائدة جليلة وهكذا، لعلمه بأهمية التوحيد وأنه أساس كل شيء في هذا الدين.
    2. الكمال المطلق من جميع الوجوه

      ويقول أيضاً: "من خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه".
      كثيراً ما تثار هذه الأسئلة: هل أسماء الله سبحانه وتعالى توقيفية أم غير توقيفية؟ هل نطلق هذا الوصف أو لا نطلقه؟
      والقاعدة هي أن ما كان كمالاً لا نقص فيه بوجه من الوجوه فإنه ثابت من باب أولى، وقد تقدم هذا عندما تعرضنا لمعنى (المثل الأعلى) في قوله تعالى: ((وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى))[النحل:60].
      المثل الأعلى: الكمال المطلق الذي لا يشوبه نقص بأي وجه من الوجوه.
      ولنأخذ بعض الأمثلة:
      · العلم: فالمثل الأعلى في العلم لله، فله العلم المطلق الذي لا يعتريه الجهل بأي شكل من الأشكال.
      · القدرة: المثل الأعلى فيها لله، وهي القدرة المطلقة بحيث لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يملك هذا إلا الله وحده.
      وكذلك الحكمة والعزة والتدبير.. ففي كل شيء له المثل الأعلى، "الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها لله وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوبة والتوكل والاستعانة".
      كل أنواع العبادة تكون لله وحده؛ لأنه وحده الذي يملك هذا الكمال المطلق، ويكون له الأمران المهمان اللذان هما سبب إيراد هذا الموضوع في شرح العقيدة وهما: "غاية الذل مع غاية الحب" هكذا لابد أن يجتمعا.
      يقول: "كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون له وحده، ويمنع عقلاً وفطرة أن يكون لغيره"، وهذا احتراز من كلام بعض أهل البدع الذي يدل على أنه لا يجب إفراد العبادة لله إلا في الشرع، نعم، فنحن ما عرفنا التقسيم إلا من الشرع، لكن العقل يدل عليه جملة، والفطرة تدل عليه جملة، وإنما تفصيله وبيانه يأتي في الشرع بواسطة الوحي، ومن زعم أن وجوب ذلك بدلالة الشرع فقط، فقد غلط غلطاً عظيماً، وهذا ما سيوضحه رحمه الله.
      إذاً: يقول: "فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه لا ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله" من جعل العبادة والرجاء والتعظيم والذل والخضوع لغير الله فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له سبحانه.
      ومن خلال هذا الكلام خطر الشرك! فلو قيل: حتى لو جعل ذلك الدعاء والرجاء والخوف والرغبة والتعظيم لنبي من الأنبياء أو لملك من الملائكة؟ لقلنا: نعم.. حتى لو جعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيكون أيضاً شركاً وتشبيهاً، ومن الناس من يفعل ذلك، ولا يدري أن هذا من الشرك، وأن أعظم من أبطله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
      فالشرك باطل بأي وجه من الوجوه، وأعظم ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بمحاربته هو الشرك وإن كان متعلقاً بذاته.
      وقال رحمه الله: "ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة".
    3. العبودية المتضمنة غاية الحب مع غاية الذل

      ثم يقول: "من خصائص الإلهية: العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب مع غاية الذل" هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين؛ فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبه به في خالص حقه، وهذا من المحال أن تجيء به -يعني: بهذا التشبيه- شريعة من الشرائع به، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر الخلق وعقولهم وأفسدتها عليهم واجتالتهم عنها" كما جاء في حديث عياض بن حمار : {وإني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللته} فالذي صرف الفطرة وحرفها في الأصل القديم هم الشياطين، ثم حرفها البشر أيضاً في حق الآحاد من الناس كما قال صلى الله عليه وسلم: {فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} فالإنسانية كانت على التوحيد حتى صرفها الشيطان إلى الشرك، والآحاد: الأفراد من الناس؛ يولد كل مولود على الفطرة حتى يهوده أبواه أو يمجسانه أو ينصرانه أي: يصرفانه ويحولانه من التوحيد إلى الشرك ويجعلانه يدين بدينهما، فيكون يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً.
    4. السجود من خصائص الإلهية

      يقول: "إذا عرفت هذا: فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به.
      ومنها التوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به".
      وقس على ذلك التوبة، والحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً.
      هذا الكلام يقوله الإمام ابن القيم لأجل الرد على ما يفعله شيوخ الطرق في عصره، فهو يعالج واقعاً مؤلماً مريضاً، فقد كان في عهده من يستغيثون بالشيخ، بل قد كان بعض المريدين يسجد لشيخه، وآخرهم هذا المهدي الذي ظهر في السودان يدعي أنه المهدي، وعبد الله التعايشي كانوا يسجدون له سجوداً، ويستغيثون به ويتوكلون عليه، والشيخ هو الذي يعلمهم ذلك الشرك، يقول بعض مشايخهم: الشيخ الذي لا ينقذ مريده أو تلميذه -وإن كان في أطراف الأرض أو أوساط البحر- ليس بشيخ!
      فيجعلون لشيخهم ما هو من خصائص الله تعالى الله عما يصفون!
      فالذي يستطيع أن ينجي تلاميذه في ظلمات البر والبحر عندهم هو الشيخ!! وأصبحوا يتنافسون في ذلك، حتى قال بعضهم: لو جئتم إلى قبري ودعوتموني ولم أغثكم فلست بشيخ.! انظروا كيف وصل بهم ادعاء الألوهية.. نسأل الله العافية.
      والحلف بالشيخ صار أعظم من الحلف بالله، ولهذا يذكر هذه الأمثلة؛ لأنه يعيش ذلك ويعانيه في زمانه.
      قال: "فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفاً ورجاءً والتجاءً واستعانة، فقد تشبه بالله، ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان، ويذله غاية الذل، ويجعله تحت أقدام خلقه". ولهذا جاء في الحديث الصحيح: {يحشر المتكبرون يوم القيامة على هيئة الذر يطؤهم الناس بأخفافهم}.
      سبحان الله! الجزاء من جنس العمل...!
      يحشر الناس يوم القيامة على خلق أبيهم آدم، طوله ستون ذراعاً، إلا المتكبرين الذين كانوا يتكبرون على خلق الله، ويرون أن من الواجب لهم على الناس أن يعظموهم ويبجلوهم ويخضعوا لهم، ويحبوهم ويطروهم ويمدحوهم... هؤلاء يحشرون على هيئة الذر، يطؤهم الناس بأقدامهم، جزاءً وفاقاً لما كانوا يصنعون في الدنيا، أياً كان السبب الداعي لذلك الكبر.. مالاً.. منصباً.. اعتقادات باطلة.. كشيوخ الصوفية الذين يرون أنه يجب على المريدين أن يعظموهم، وأن يقبلوا أقدامهم وأكفهم وركبهم، أياً كان المتكبر فقد تشبه بالخالق، فإذاً: ينطبق عليه الحديث الذي يقول الله تبارك وتعالى فيه: {العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما عذبته}
      ثم يضرب ابن القيم رحمه الله مثالاً فيقول: "وإذا كان المصور الذي يصنع الصورة بيده من أشد الناس عذاباً يوم القيامة لتشبهه بالله في مجرد الصنعة، فما الظن بالتشبه بالله في الربوبية والإلهية؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون الذين يضاهون بخلق الله}".
      ليست العلة أن الشخص صور فقط، بل يجب أن تطَّرد العلة في كل من ادعى شيئاً من خصائص الألوهية، أو نازع الله تبارك وتعالى فيما هو من خصائصه.
      فهؤلاء من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، لتشبههم بالله في مجرد الصنعة، إذ يحاول أحدهم أن يخلق ويصنع كهيئة خلق الله.. هذا ما فعله المصور، ومع ذلك فهو جريمة عظمى، كان المصور بسببها من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، فكيف من تشبه بالله في الربوبية والإلهية؟
      ليس هناك رسم ولا صنعة، وفي الحديث الصحيح: {لا أحد أحب إليه المدح من الله} فالذي يجب أن يحمد ويعظم هو الله.
      ثم قال: "والمقصود أن هذا حال من تشبه به في صنعته، فكيف حال من تشبه به في خواص ربوبيته وإلهيته؟" وهنا يضرب مثالاً آخر، وهو من الأدلة على أن جانب التوحيد من أعظم ما يراعيه الشرع في كل الأمور، وسد كل الذرائع التي توصل إلى الشرك، فيضرب مثالاً بهؤلاء الناس الذين يحبون الألقاب ينازعون بها الله تبارك وتعالى في ملكه، وفي ربوبيته وإلهيته.
      فيقول رحمه الله: "وكذلك من تشبه في الاسم الذي لا ينبغي إلا له وحده، كملك الأملاك وحاكم الحكام ونحوه..
      وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى بشاهان شاه -أي: ملك الملوك- ولا ملك إلا الله}، وفي لفظ: {أغيظ رجل على الله رجل يسمى بملك الأملاك}".
      كان هذا الرجل أبغض الناس عند الله بمجرد أنه تسمى بهذا الاسم، وقد لا يكون دعا الناس ليعملوا أعمالاً توجب ألوهيته وربوبيته، كما دعا فرعون قومه : ((وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي))[القصص:38].. بل كل ما عمله أنه سمى نفسه باسم لا يجوز إلا لله، ولا يطلق إلا على الله تبارك وتعالى، فبإطلاق هذا الاسم عليه استحق أن يكون أخنع الأسماء، وأن يكون صاحبه أغيظ رجل على الله تبارك وتعالى.
      فهذا مقت الله وغضبه على من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا له، فهو سبحانه ملك الملوك وحده، وهو وحده حاكم الحكام، وهو وحده الذي يحكم على الحكام كلهم ويقضي عليهم كلهم لا غيره.
      وهكذا يفتح لك ابن القيم باباً عظيماً من أبواب العلم، ويؤصل قضية عظيمة بأجمل وأوضح ما يمكن، ثم ينتقل منها إلى قضية أخرى فتجد علماً.. فهو لا يكتب لك كلاماً قليل الفائدة، بل يكتب علماً مؤصلاً مرتباً مبنياً على الأدلة وفق نظرة شاملة.
      وهذه الخاصية التي للإمامين ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله ومن سار على نهجهما لا تجدها عند كثير من العلماء في القديم فضلاً عن المتأخرين، وهي ميزة للمدرسة السلفية تظهر لنا أنها مدرسة قوية.
      هذا المنهج الذي اختطه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمة الله تبارك وتعالى عليهما، ما هو إلا تجديد للمنهج الذي كانت عليه القرون الثلاثة المفضلة، ولم يأت بشيء من عنده قط.
  8. أعظم الذنوب إساءة الظن بالله تعالى

    بعد أن تجلت هذه الحقيقة العظيمة، حقيقة الشرك وأنه هو التشبيه، ينتقل ابن القيم رحمه الله ينقلك إلى حقيقة أخرى عظيمة جداً، فيقول: "إذا تبين هذا فهاهنا أصل عظيم يكشف سر المسألة، وهو أن أعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به".
    فليس الرجاء أضعف منازل المريدين كما يقول الهروي أو يقول الصوفية، لا. بل أعظم الذنوب إساءة الظن بالله سبحانه وتعالى، وهذا باب لموضوع آخر سيأتي فيما بعد، وقد يقال: أليس أعظم الذنوب هو القول على الله تعالى بغير علم كما في الآية؟!
    فنقول: انتظروا... سيفتح الشيخ باباً إلى باب إلى باب.. حتى تجدوا مدناً من مدن العلم والخير في هذه العبارات الموجزة.
    يقول: "فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس، فظن به ما يناقض أسماءه وصفاته". أي أن مسيء الظن بالله ظن به خلاف الكمال الذي تقتضيه هذه الأسماء والصفات التي تثبت له.
    يقول: "ولهذا توعد الله سبحانه وتعالى الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال تعالى: ((عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً))[الفتح:6]" انظروا شدة الوعيد نتيجة هذا الظن بالله تبارك وتعالى.
    "وقال تعالى لمن أنكر صفة من صفاته: ((وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ))[فصلت:23]" ما هي الصفة التي أنكرها هؤلاء؟
    الصفة التي أنكرها هؤلاء هي صفة العلم، وأن الله لا يعلم كثيراً من أعمالهم.
    يقول: "وقال تعالى عن خليله إبراهيم - الذي قال له ربه: ((إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً))[البقرة:124]، وقال له: ((ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً))[النحل:123] شرف عظيم أن يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملته، هذا من أعظم الدلالة على إمامته عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- وأنه قال لقومه: ((مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ))[الصافات:85-87]".. الإفك: هو الافتراء لا أصل له ولا حقيقة ثم يعقب على ذلك فيقول: "((فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ))[الصافات:87].. أي: فما ظنكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ وما ظننتم به حتى عبدتم غيره؟ وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص، حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؟". ماذا ظننتم به حتى عبدتم غيره معه أو من دونه؟!
    يقول: "فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم، وهو على كل شيء قدير، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المتفرد بتدبير خلقه لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور، فلا يخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده -((أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ))[الزمر:36]- فلا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته؛ فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء؛ فإنهم يحتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، ويعينهم على قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وضعفهم وعجزهم وقصور علملهم".
    ما أجمل هذه العبارات العظيمة!!
    1. إدخال الوسائط بين الله وخلقه إساءة ظن به سبحانه

      قال: "فأما القادر على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء" كما قال سبحانه: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ))[فاطر:15] وكما في حديث أبي ذر القدسي المشهور في خطاب الله تبارك وتعالى لعباده.
      "العالم بكل شيء، الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه نقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء" هذا الظن أسوأ الظن بالله.
      "وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر جوازه، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبيح" أي فليس من المعقول أن يشرع الله سبحانه وتعالى للناس أن يتخذوا بينه وبينهم وسائط، وهو العليم بكل شيء، القادر على كل شيء، الغني عن كل أحد، المتصرف في كل أمر، الذي رحمته وسعت كل شيء.. أفيحتاج ربنا عز وجل لمن يدخل بينه وبين خلقه فلا يعبد إلا من طريقه، فيدعى هذا من دونه بزعم أنه يوصل العبادة إلى الله؟! تعالى الله عما يشركون!
      يقول: "يوضح هذا أن العابد معظم لمعبوده، متألِّه له، خاضع ذليل له، والرب تعالى وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والإجلال والتأله والخضوع والذل". وفي كلمة: لا إله إلا الله -كلمة التوحيد العظيمة- كلمة (إله)، وإذا عُرف معنى (إله) عرف معنى كلمة: لا إله إلا الله، فما معنى الإله؟ أوجز وأفضل تعريف لهذه الكلمة أن الإله هو الذي تألهه القلوب... والوله: غاية الحب ونهاية الحب، فالإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وخضوعاً وذلاً وتعظيماً وانقياداً ورغبة ورهبة ورجاءً.
      إذاً: فغاية الحب مع غاية الذل كمال العبودية التي لا تصلح إلا لله تبارك وتعالى.
  9. ما قدروا الله حق قدره

    يذكر ابن القيم رحمه الله تعالى بعد هذا الكلام أمثلة عظيمة جداً ونافعة، رداً على جميع الطوائف، مما يدل على ما له من الفقه والحكمة، فإنه رد على جميع الطوائف من خلال هذه القاعدة العظيمة، وهي قاعدة أن شر الذنوب وأعظمها وأقبحها هو سوء الظن بالله، وهو الذي أوقع في الشرك.
    وذكر رحمه الله قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ))[الحج:73]: الله أكبر! كل من يُعبدون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وأيضاً: ((وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ))[الحج:73]).
    فهذه الآلهة من البشر أو من الشياطين أو غيرهم ضعفهم كضعف الذباب؛ لأنهم يضعفون ويعجزون عن خلق مخلوق ضعيف كالذباب، ومع ذلك لو أنه أخذ شيئاً منهم لا يستنقذونه منه، بل هم أضعف.
    ثم قال تعالى: ((مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ))[الحج:74] أي: لم يحسنوا الظن به، بل وأساءوا الظن به تعالى؛ لأنهم ما قدروه حق قدره، ولا عرفوه حق معرفته، فحالهم كحال كثير من الغافلين؛ عندما تكلمه عن الله -تعالى الله عما يصفون- فكأنك تكلمه عن أي شخص، بل ربما لو كلمته عن بعض المخلوقين الذين لهم هيبة وقوة، لارتجف وأرعاك أذنيه، لكن إذا قلت: يا أخي اتق الله! يا أخي! أنا أخبرك بكلام الله، فتجده غير مبالٍ؛ لأنه ما قدر الله تعالى حق قدره، ولا عرفه حق معرفته.
    وهذا يؤكد وقرر أن مشكلة الناس في جميع العصور والأوقات، وفي كل زمان ومكان، فلأنهم ما عرفوا الله، وما قدروه حق قدره، أشركوا به، واتبعوا شرائع البشر وتركوا شريعته، ولأنهم ما قدروا الله حق قدره أحبوا بعض الخلق أكثر من محبتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم، فهم ما قدروا الله حق قدره فكيف يعرفون قدر رسوله صلى الله عليه وسلم؟! مع أن منهم من يدعي أنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    1. ما قدر الله حق قدره من عبد غيره معه

      يقول رحمه الله بعد أن ذكر الآيتين السابقتين: "فما قدر الله حق قدره من عبد غيره معه ممن لا يقدر على خلق أضعف حيوان وأصغره، وإن سلبه الذباب شيئاً مما عليه لم يقدر على استنقاذه منه، وقال تعالى: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ))[الزمر:67]".
      وهذه الآية قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعاه حبر اليهود وقال له: {إن الله يضع الأرض على إصبع والجبال على إصبع -سبحانه وتعالى- فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً لقول الحبر -وإقراراً له- وقرأ: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ))[الزمر:67]} أبعد هذا يعبد أحد من دونه؟! إنساناً كان أو حجراً أو شجراً أو قبراً؟! سبحان الله عما يشركون!
    2. ما قدر الله حق قدره من أنكر الرسل

      وقال: "وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه لم يرسل إلى خلقه رسولاً، ولا أنزل كتاباً، بل نسبه إلا ما لا يليق به ولا يحسن منه من إهمال خلقه وتضييعهم وتركهم سدى، وخلقهم باطلاً وعبثاً".
      وفي هذا الكلام رد على منكري الشرائع، وفيه أيضاً ترتيب أنواع الكفر والكفار، فإن أعلى درجة من درجات الكفر كفر الفلاسفة، فهم أشد الناس كفراً، فإن منهم من ينكر النبوات والشرائع بالجملة، وفي القديم كان هناك قلة من الناس تسمى الفلاسفة، أما الآن فقد أصبحت أمم الغرب الآن بأكمله تقريباً على مذهب الفلاسفة؛ فـالشيوعية والنازية والفاشية كل هذه تنكر النبوات والوحي، فأكفر وأعلى درجات الكفر هم هؤلاء، فابتدأ بهم.
      إذاً: من قال: إن الله تعالى لم يرسل إلى خلقه رسولاً ولم ينزل كتاباً، هل قدر الله حق قدره؟ كلا والله..! لأن معنى كلامه هذا: أن الله سبحانه وتعالى أهمل الخلق وتركهم سدى -وقد فسر الإمام الشافعي رحمه الله، السدى بأنه الذي لا يؤمر ولا ينهى- وتركهم هملاً وخلقهم عبثاً، وهذا غاية سوء الظن بالله، هؤلاء ما قدروا الله قدره، فقالوا هذا القول.
    3. ما قدر الله حق قدره من نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العلى

      ثم ذكر رحمه الله الدرجة الثانية في الكفر فقال: "ولا قدره حق قدره من نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فنفى سمعه وبصره وإرادته واختياره وعلوه فوق خلقه، وكلامه وتكليمه لمن شاء من خلقه بما يريد".
      كـالجهمية الذين نفوها بالكلية وأشباههم.
      يقول: "أو نفى عموم قدرته وتعلقها بأفعال عباده من طاعتهم ومعاصيهم فأخرجها عن قدرته ومشيئته وخلقه وجعلهم يخلقون لأنفسهم ما يشاءون بدون مشيئة الرب، فيكون في ملكه ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، تعالى الله عن قول أشباه المجوس علواً كبيراً" وهؤلاء هم المعتزلة والقدرية.
    4. ما قدر الله حق قدره من زعم أن الله يعاقب عبده على ما لا يفعله

      يقول: "وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه يعاقب عبده على ما لا يفعله العبد، ولا له عليه قدرة، ولا تأثير له ألبتة! -وهذه الطائفة هي الجبرية- بل هو نفس فعل الرب جل جلاله، فيعاقب عبده على فعله، هو سبحانه الذي جبر العبد عليه، وجبره على الفعل أعظم من إكراه المخلوق للمخلوق"، يعني: المخلوق لا يمكن أن يكره المخلوق إكراهاً كلياً، ولا يستطيع أي مخلوق أن يملك ما يضمر مخلوق آخر مهما كان، وهم يقولون: إن الله تبارك وتعالى أجبر المخلوقين، تعالى الله عما يصفون!!
      قال: "وإذا كان من المستقر في الفطر والعقول أن السيد -أي المالك- لو أكره عبده على فعل وألجأه إليه ثم عاقبه عليه لكان قبيحاً، فأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين كيف يجبر العبد على فعل لا يكون للعبد فيه صنع ولا تأثير؟!"، وهذا مذهب الجبرية، هل هناك فرقة تسمى الجبرية الآن؟ نعم، الأشعرية، ماذا يقولون؟
      والفعل في التأثير ليس إلا            للواحد القهار جل وعلا
      أي: الفعل كله لله، فما دام الفاعل والمؤثر هو الله، فهل يعاقب العباد على فعل نفسه؟!
      فهو الذي فعل، أما العبد فلم يفعل شيئاً ولم يؤثر في شيء، فهم ينظرون جانباً وينسون جانباً آخر.
      ونحن نقول لهم: إذا كنتم تقصدون بذلك أن العبد لا يملك أن يطيع ولا يملك أن يعصي حتى تجعلوا إرادة الله هي كل شيء، فقد نسيتم الأفعال الأخرى، فنقول: إذا ارتكب العبد فاحشة فمن فعلها؟! إن قالوا: الله -تعالى الله عما يصفون- وقعوا في الكفر، وإن قالوا: العبد، أثبتوا للعبد فعلاً وتأثيراً وإرادة، لكن هم ينسون ذلك ويغفلون عنه.
      إذاً: الطائفتان الجبرية والقدرية ما قدروا الله حق قدره.
    5. ما قدر الله حق قدره من زعم أنه حل في كل مكان

      وقال: "وكذلك ما قدر الله حق قدره من لم يصنه عن نتن ولا حش ولا مكان يرغب عن ذكره، بل جعله في كل مكان" وهذا مذهب الحلولية من الصوفية ومنكري العلو، الذين ينكرون علو الله، يقولون: الله في كل مكان، فنقول لهم: هناك أماكن قذرة نجسة يترفع الإنسان أن ينطقها، فكيف تقولون: إن الله في كل مكان؟!
      إذاً: ما قدر الله حق قدره من نفى علو الله واعتقد أن الله في كل مكان بذاته.
    6. ما قدر الله حق قدره من نفى الصفات الفعلية

      ثم ينتقل ويقول: "وما قدر الله حق قدره من نفى حقيقة محبته ورحمته ورأفته ورضاه وغضبه ومقته".
      وهذه اسمها الصفات الفعلية، والذين ينفونها هم الأشاعرة وأمثالهم ممن يؤولون الصفات وينفونها، خاصة صفات الرضا والغضب والمحبة؛ لأنهم يزعمون أن فيها تشبيهاً، فلم يثبتوها.
      إذاً: ما قدروا الله حق قدره إذا نفوا أنه يحب، وأنه يبغض، وأنه يريد، وأنه ذو انتقام، وأنه رءوف، وأنه يمقت.. إلى آخر ذلك.
    7. ما قدر الله حق قدره من نفى حكمته وغايته

      قال: "ولا من نفى حقيقة حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله".
      الذين نفوا حكمة الله، لم يقولوا: إنه ليس بحكيم وإنما قالوا: ليس لأفعاله غاية ولا علة، يظنون أنهم بهذا الكلام ينزهون الله، تعالى الله عما يقولون! أما نحن فإننا نقول: إنه إذا فعل شيئاً فمن أجل شيء وله فيه حكمة مثل: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ))[الذاريات:56] فهو ما خلقهم إلا لأجل العبادة، أما نفاة الحكمة فقالوا: هذا لا يليق، ولا نثبته لله، الله سبحانه وتعالى ما يفعل شيئاً من أجل شيء، ظنوا بهذا أنهم ينزهون الله، فوقعوا في المصيبة الكبرى وهي نفي الحكمة عن الله.
      فكأنه إن خلق شجرة أو حجراً أو أرسل نبياً فالأمر واحد، وكلها أفعال تخضع لمطلق المشيئة أو الإرادة فقط، ليس لها حكم ولا علل، فنفوا مقصوده وحكمته وغرضه من خلقه.
    8. ما قدر الله حق قدره من جعل له صاحبة وولداً

      قال: "وكذلك لم يقدره حق قدره من جعل له صاحبة وولداً"، وهؤلاء معروفون قاتلهم الله.
    9. ما قدر الله حق قدره من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

      قال: "وكذلك لم يقدره حق قدره من قال: إنه رفع أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وأعلى ذكرهم وجعل فيهم الملك والخلافة والعز، ووضع أولياء رسوله وأهل بيته وأهانهم وأذلهم وضرب عليهم الذلة أينما ثقفوا، وهذا يتضمن غاية القدح في جناب الرب، تعالى الله عن قول الرافضة علواً كبيراً!"
      لو صح التوحيد عند هذه الطوائف وقدروا الله حق قدره، ما وقعوا في هذه المصائب، يقولون: صنما قريش، يقصدون أبا بكر وعمر ! فأعدى أعداء الدين عندهم أبو بكر وعمر، ثم بنو أمية، ويرون أن بني أمية هم الشجرة الملعونة في القرآن، وأنهم شجرة خبيثة ملعونة وأنهم كفار... إلى آخر ما يقولون.
      إذا كان هؤلاء هم أعدى أعداء الدين، فمن هم أولياء الله؟!
      أما هم فقالوا: علي وذريته والأئمة ممن يعتقدون إمامتهم، ولكن الواقع أن الله تعالى مكّن لبني أمية وأعطاهم الملك والولاية، ففتحوا البلاد، وأقاموا الجهاد، أعطاهم الله ولاية حتى على هؤلاء.
      أما أهل البيت فقد ضربوا وسجنوا وأوذوا وعذبوا وقتلوا وما تولى منهم أحد، وهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى، وما تولى الخلافة أحد ممن يدعي الروافض أنه إمام إلا علياً رضي الله عنه؛ لأن بدعة الإثني عشرية ما جاءت إلا متأخرة بعد أحداث كربلاء، أي: بعد مقتل الحسين رضي الله عنه، بعد ذلك جاءت هذه البدع، فمنذ أن جاءت هذه البدعة ما ولي إمام من أئمة الرافضة قط.
      إذاً: أحسنوا ظنكم بالله يا من تدعون أنه لم يول أحداً من أوليائه الذين تقولون: إن الله اختصهم بغاية العلم والحكمة، ويعلمون الغيب، ويدبرون كل شيء، وأعطاهم مفاتيح الكون، كل هذا الاعتقاد العظيم فيهم وهم لم يتولوا الخلافة.
      إذاً: ظنكم بالله ظن عجيب غريب من أين تأتون به؟!
      وأعجب من ذلك أنه يمكن لأعدائهم ويوليهم وينصرهم، ويفتحون البلاد وتثني عليهم الأمة، وتؤلف فيهم الكتب، إذاً: لابد أن تصححوا ظنكم بالله تعالى.
      ونأتيك بجواب مفحم لا يستطيع الروافض أن يرفعوا رءوسهم بعده، نقول: مثل هذا القول في حق أهل البيت وفي حق أعدائهم -كما تزعمون- قالته اليهود والنصارى في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقاعدة واحدة، فإن اليهود والنصارى كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنه مفترٍ، افترى على الله الكذب وجاء برسالة، قلنا: فما الدين الحق الذي يقبله الله ولا يرضى غيره؟ قالوا: ما عليه اليهود والنصارى كما قال الله تعالى عنهم: ((وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا))[البقرة:135] فقلنا لهم: أفيسلط الله كذاباً دجالاً مفترياً فيستولي على ممالك دينكم الحق، ويقتلكم ويأسركم، ويضرب بالسيف رقابكم، ثم يستعبد من شاء منكم، ثم يظل الملك والشأن والرفعة والمجد له ولأمته أبد الآبدين؟!! هذا ظن سيئ بالله!
      إما أن يكون الله لا حكمة له في أفعاله، حيث ينصر عدوه وهو يفتري عليه زاعماً أنه رسول من عنده، ويأتي بكلام مختلق فيقول: هذا كلام الله، ويدعي الرسالة من الله، وأن الوحي ينزل إليه، ويجعل الديانة الحقة اليهودية والنصرانية -كما تزعمون- ذليلة مهانة مضطهدة معذبة، ويقضى عليها في أغلب بقاعها الأساسية المهمة لها، وهي منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، وإما أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم على حق وأنتم على الباطل؛ فأنتم بين خيارين لا مفر لكم من أحدهما، فإما ألا يكون هناك حكمة أبداً، وتتهمون الله بالعجز عن عاجز أن ينصر أولياءه على أعدائه، وإما أنكم أنتم ظننتم به غير الحق وما قدرتموه حق قدره، ويكون هو -حقيقة- نصر وليه ونبيه ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، ويكون دينكم باطلاً لا حقيقة له، هذا دليل يتفق مع حكمة الله ومع أفعال الله تبارك وتعالى في خلقه.
      قال ابن القيم: "وهذا القول -أي قول الرافضة- مشتق من قول اليهود والنصارى في رب العالمين إنه أرسل ملكاً ظالماً، فادعى النبوة لنفسه، وكذب على الله، ومكث زمناً طويلاً يكذب عليه كل وقت، ويقول: قال الله كذا.. وأمر بكذا.. ونهى عن كذا.. وينسخ شرائع أنبيائه ورسله، ويستبيح دماء أتباعهم وأموالهم وحريمهم، ويقول: الله أباح لي ذلك..! والرب تبارك وتعالى يؤيده ويظهره ويعليه، ويعزّه ويجيب دعواته، ويمكنه ممن خالفه ويقيم الأدلة على صدقه، ولا يعاديه أحد إلا ظفر به، فيصدقه بقوله وفعله وتقريره، ويحدث أدلة تصديقه شيئاً بعد شيء" إلى يوم القيامة.
      يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليست آياته ومعجزاته آنية ثم تنتهي كما كان الرسل من قبل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة}
      كلما جاء زمن تجدد فيه ما يدل على صدقه، وتظهر في كل عصر الدلائل على أنه نبي، وهكذا ما يقع من أخبار وأحداث أخبر عنها صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها، ولا يمكن أن يتوقعها بشر، ولا أن يقولها أحد إلا بعلم من الله تبارك وتعالى.
      يقول: "ومعلوم أن هذا يتضمن -أي: كلام اليهود وأتباعهم- أعظم القدح والطعن في الرب سبحانه وتعالى وعلمه وحكمته ورحمته وربوبيته، تعالى الله عن قول الجاحدين علواً كبيراً.
      فوازن بين قول هؤلاء -أي: اليهود- وقول إخوانهم من الرافضة، تجد القولين كما قال الشاعر:
      رضيعي لبانٍ ثدي أم تقاسما            بأسحم داجٍ عوض لا نتفرقُ
      وعوض معناها: أبداً، فكأن اليهود والرافضة أخوان رضعا من ثدي واحد وأقسما ألا يتفرقا أبداً، فما يقال في حق اليهود يقال في حق الروافض.
    10. ما قدر الله حق قدره من نفى التحسين والتقبيح للعقل

      ثم قال: "وكذلك لم يقدره حق قدره من قال: إنه يجوز أن يعذب أولياءه ومن لم يعصه طرفة عين، ويدخلهم دار الجحيم، وينعّم أعداءه ومن لم يؤمن به طرفة عين، ويدخلهم دار النعيم، وأن كلا الأمرين بالنسبة إليه سواء، وإنما الخبر المحض جاء عنه بخلاف ذلك".
      وهذا من إنكار الحكمة، فهو تابع لموضوع إنكار الحكمة أو إنكار التعليل.
      لكن هنا أيضاً ملحظ آخر وهو أنهم يقولون: إن العقل لا يحسن ولا يقبح، فلو أن الله تبارك وتعالى -كما يقولون- أتى بأفضل الأولياء وأدخله النار فذلك جائز، وأتى إلى أعدى أعدائه وهو الشيطان وأدخله الجنة، فذلك جائز عقلاً، لكن الشرع جاء بخلاف ذلك، فلولا أن الخبر الشرعي جاءنا لقلنا: يحتمل هذا وهذا، تعالى الله عما يصفون!
      لا والله!.. لا نعتقد ذلك، فإن الله تعالى أعطانا من العقول ما نعرف أن هذا الأمر لا يليق به.
      إذاً: العقل له دخل في معرفة التمييز بين الحق والباطل، وفي معرفة الصواب من الخطأ؛ من خلال ما جاء تفصيله وبيانه في الوحي، ولهذا وصف الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه الرسول النبي الأمي الذي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، قال تعالى: ((وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ))[الأعراف:157] وهي تدل على منهج أهل السنة والجماعة ولا تدل على مذهب الأشاعرة؛ وذلك لأن الله وكل إلينا معرفة الطيبات من الخبائث بعقولنا، ولو كان العقل لا يحسن ولا يقبح، لما كان لهذه الآية أية دلالة.
      وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى فطر الناس، وجعل في عقولهم قدراً يعرفون به الحق، فيأتي الشرع فيصدقه، ولو عرض عليهم دين آخر باطل محرف لما قبلته عقولهم، بل يقولون: لا يمكن أن يكون هو دين الله تبارك وتعالى.
      يقول: "وقد أنكر سبحانه على من جوّز عليه ذلك غاية الإنكار، وجعل الحكم به أسوأ الأحكام، قال تعالى: ((وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ))[ص:27-28]" سبحان الله! هل يمكن هذا؟!
      كل الأمم اليوم -إلا من عرف الله- تعتقد ما نفاه الله..! إن أمم الأرض إلا من عرف الله يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً، وأنه يجعل المتقين كالفجار، والفجار كالمتقين، والمفسدين كالمصلحين، لأنهم ينكرون البعث والجزاء والحساب.
      "وقال: : ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ))[الجاثية:21-22].. وقال: ((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ))[القلم:35-36]" لا يليق بالله تبارك وتعالى أن يجعل هؤلاء كهؤلاء حاشاه سبحانه من ذلك.
    11. ما قدر الله حق قدره من كذب بالقيامة

      قال رحمه الله: "وكذلك لم يقدره حق قدره من زعم أنه لا يحيي الموتى، ولا يبعث من في القبور، ولا يجمع خلقه ليوم يجازي فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ويأخذ للمظلوم فيه حقه من ظالمه، ويكرم المتحملين للمشاق في هذه الدار من أجله وفي مرضاته بأفضل كرامته، ويبين لخلقه الذي يختلفون فيه، ويعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين" قال تعالى: ((وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ))[النحل:38] انظر كيف ظن الكفار بالله، ظن السوء، .. ((وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ))[النحل:38-39] هذه حكمة عظيمة جداً، والأخرى: ((وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ))[النحل:39].
      فالحكمة الأولى: ليبين لهم الذي يختلفون فيه؛ مسلمين كانوا أو كفاراً؛ فالدماء تسفك يومياً على هذه الأرض منذ أن جعل الله تبارك وتعالى الحق والباطل؛ فمنذ أن خلق الله السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، وجعل جيشاً للإيمان وجيشاً للكفر.. جيشاً للتوحيد وجيشاً للشرك.. جبهةً لأهل الطاعات وجبهة لأهل المعاصي، والمعارك قائمة في كل مكان، وفي كل مجتمع، والدماء تراق وتهدر.
      خلاف كبير جداً، ألا يبين ربنا سبحانه وتعالى الحق في هذا الخلاف؟! سبحان الله! إن عدم تمييز الحق من الباطل لا يليق بالله تعالى!
      هناك ناس يقولون: إن المسيح هو الله كل يوم، بألف ومائتي لغة ترجم إليها الإنجيل، وفي محطات إذاعية تقارب الألف محطة بجميع اللغات في العالم؛ كلها تقول: الرب (يسوع) الإله المخلِّص.. ويأتي اليهود فيقولون: هذا ابن زنا..! حاشا لله أن يكون عبده ونبيه وكلمته كذلك.
      فهؤلاء غلوا فيه فكفروا، وهؤلاء تنقصوه فكفروا، والمؤمنون يقولون في عيسى عليه السلام: هو عبد الله ورسوله، وهذا خلاف كبير بين هذه الأديان الثلاثة في العالم، خلاف كبير جداً الآن، فمن يبين لكل منهم إذا لم يكن هناك يوم قيامة؟ لو مات اليهود وهم يعتقدون أنهم على الحق، والنصارى وهم يعتقدون أنهم على الحق، والمسلمون يظلون على اعتقادهم الحق؟ والأجيال تمر وكل واحد يظن أنه على الحق لكان ذلك منافياً للحق والعدل والحكمة الإلهية، لكن يأتي يوم القيامة ليبين لهم الذي يختلفون فيه، قال تعالى: ((إِذْ قَال الله يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ))[المائدة:116] هنا يظهر، عيسى نفسه عليه السلام، ويخاطبه ربه جل وعلا: أأنت قلت ما يقوله النصارى عنك؟! وهنا تبطل كل وسائل وإذاعات الإنجيل والتبشير، كل ما يقولونه ويزعمونه ويسمعون الجواب من عيسى نفسه، وعندئذٍ يعلمون أنهم على باطل، والمسلمون -والحمد لله- يعلمون أنهم على الحق، واليهود يعلمون أنهم كاذبون: ((وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ))[النحل:39] وقس على ذلك.
      إذاً: فمهما حلف الكفار : ((وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ))[النحل:38-39].
      يأتي المشرك بالعظم فيفته : ((قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ))[يس:78] ويجيبه الله سبحانه وتعالى : ((قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ))[يس:79] لكن لو لم يكن ثمة بعث؛ فلن يعرف من هو الكاذب ومن هو الصادق، وسوف تختل الأمور والموازين، فمن أحسن ظنه بالله، وقدر الله تعالى حق قدره آمن بالقيامة وبالبعث والنشور، أما من كان غير ذلك فإنه هو الذي يكفر بالقيامة وبالبعث وبالحياة بعد الموت.
    12. ما قدر الله حق قدره من هان عليه أمره

      قال: "وكذلك لم يقدر الله تعالى حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه".
      كأن الشيخ ابن القيم رجع إلى موضوع الكتاب الأساس (المعاصي والعشق) لكن هو يأتي بالأشياء المهمة الأساسية العقدية ثم يأتي بهذه التي هي ناتجة عن سَوْرة الشهوة.
      ويلاحظ أن المقارف للمعاصي إذا قيل له: اتق الله يا أخي! هذا حرام! يقول: هذا ولا يضر.. وإذا قيل له: يا أخي! اتق الله وصل! افعل كذا! يقول: ليس هناك مشكلة؛ فقد هان عليه أمر الله، فهل قدره حق قدره؟!
      لم يقدره.
      قال رحمه الله: "وحقّه فضيعه، وذكره فأهمله، وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعته فلله الفضلة في قلبه وعمله" يعني: جعل لله الفضلة من قلبه وعلمه وقوله وعمله وماله.
      وهذه مشكلة المعاصي، فهي تدل على أننا نجعل لله الفضلة من قلوبنا وأعمالنا وأموالنا وكلنا كذلك -نسأل الله أن يرحمنا برحمته- ما قدرنا الله حق قدره؛ لأننا لم نجعل لله إلا الفضلة من قلوبنا، وجعلنا صلب همنا وتفكيرنا في الدنيا، على السيارات والعمارات والزوجات والأبناء والوظائف.
      قد يبتعث شخص خمس عشرة سنة للعلم وليس لله منها كلمة واحدة...!
      وكذلك يوجد أناس كل يوم يكتبون قصائد، ويصدرون مجلدات من الشعر ليس لله منها شيء، ويقيمون المجالس والسمرات، يبدأ أحدهم في الحكاية ويضحك الناس ويحكي لهم طوال الليل كل يوم، وليس لله شيء من هذا القول، نسأل الله العفو والعافية.
      وعمله كدح.. ليل نهار.. كم لله من هذا الكدح؟!
      فتراه يغضب لكن ليس لله، ويرضى لكن ليس لله، ينتقم لكن ليس لله؟ وإنما لنفسه وشهواته.. ماذا جعل لله؟!
      حتى ماله قضاه في: شهوة.. تمشية.. نزهة.. رحلة... إلخ، وإذا قيل له: خذ ما شئت مما أحل الله لك من المال، لكن أعط عشرة ريالات لله فربما لا يستجيب، وإن أعطى لله فإنما هو الفضلة، مثلاً: لو نجح واحد من أولاده لأعطاه هدية، لو كان من أولاده لاعب كرة وأتى بهدف يعطيه سيارة أو مليون ريال أو أي شيء، ولو أن أحد أولاده حفظ جزءاً من القرآن أعطاه عشرة ريالات أو خمسين ريالاً.
      إذاً: هل هذا يحسن الظن بالله تعالى؟!! وإذا قيل له: هل أنت حسن الظن بالله؟!
      يقول: والله نحن نحسن الظن بالله..
      يا شيخ! ما أحسنتَ الظن به..!
      ومن هذا حاله فوالله ما أحسن الظن بالله، ولا أحسن الرجاء، ولو أحسن الظن لأحسن العمل، لو أحسنت الظن به لعظمت أمره ونهيه، ووقفت عند حدوده، وسعيت إلى مرضاته بكل طريقة، وكنت مع أوليائه؛ فإن لم تجاهد أعداءه فكن محباً لأوليائه بقلبك.
      من عظيم البلاء أن تجد أناساً يتفكهون في المجالس ويتندرون بالدعاة .. بالهيئة.. بالمقاومة.. سبحان الله! تحاربون أولياء الله الذي رزقكم وأعطاكم المال والمناصب والخير، فإن لم تكونوا مع أوليائه فلا تقفوا مع أعدائه، لكن الشيطان أعماهم وأصمهم، فهذا موقفهم من الله سبحانه وتعالى.
      قال ابن القيم: "فلما كان الشرك أكبر شيء منافاة للأمر الذي خلق الله له الخلق، وأمر لأجله بالأمر، كان من أكبر الكبائر عند الله.
      وكذلك الكبر وتوابعه كما تقدم، فإن الله سبحانه خلق الخلق وأنزل الكتاب لتكون العبادة والطاعة له وحده، والشرك والكبر ينافيان ذلك، ولذلك حرم الله الجنة على أهل الشرك والكبر" يقول الله تعالى: ((إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ))[المائدة:72] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر} لهذا كان أعظم وأكبر الذنوب.
  10. القول على الله بلا علم

    قال: "ويلي ذلك في كبر المفسدة القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله ووصفه بضد ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، فهو أشد شيء مناقضة ومنافاة لحكمة من له الخلق والأمر، وقدحاً في نفس الربوبية وخصائص الرب".
    ونستدل على أن القول على الله من أعظم الذنوب بآية الأعراف؛ قال تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ))[الأعراف:33] فقد رتبت هذه المحرمات حسب درجتها في عظمة الإثم، وجاء القول على الله بغير علم في آخرها فهو أعظم الذنوب، وهكذا تذكر الآية أعظم المحرمات الأعظم فالأعظم.
    وقال ابن القيم رحمه الله: "فإذا صدر ذلك عن علم فهو عناد أقبح من الشرك وأعظم إثماً عند الله؛ فإن المشرك المقر بصفات الرب خير من المعطل الجاحد لصفات كماله، كما أن من أقر لملك بالملك ولم يجحده ملكه، ولا الصفات التي استحق بها الملك، لكن جعل معه شريكاً في بعض الأمور يقربه إليه؛ خير ممن جحد صفات الملك وما يكون به ملكاً.. هذا أمر مستقر في سائر الفِطَر والعقول".
    يعني: إذا كان القول على الله تعالى بغير علم صادراً من عالم بالحق، فهو أعظم الذنوب جميعاً، واختصاص هذا الذنب بالعلم لأن الذين يفترون على الله الكذب أكثرهم ممن يعلمون الحق، ويعلمون أن الله تعالى لا يليق به ما يفترون عليه من الكذب، فهؤلاء عارضوا أصل القضية ونازعوها، فهم أعظم إثماً وأكبر جرماً.
    نسأل الله أن يتولانا بولايته وأن يعفو عنا بفضله وأن يجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، وأن نشرك به ما لم ينزل به سلطاناً، وأن نقول عليه أو على خلقه مالا نعلم.
    وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.