ثم قال بعد كلام له رحمه الله: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر -وهذا حال أكثر الناس في دار الإسلام- وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته".
أي: إذا كان هناك لص فقير تسوَّر على دكان وكسر الأقفال وسرق ما فيه، فإنه تقطع يده لسرقته، ويُعطى من بيت المال لفقره، فيُعاقب بموجب الذنب، ويُعطى بموجب الاستحقاق الذي هو الفقر.
فديننا كله عدل ورحمة، وحتى في عقوبات الله الكونية، فالأمة إذا عصت الله سبحانه وتعالى وتمحَّضت للشر؛ استحقت العقوبة الكاملة والفناء، وذلك إذا كثر الخبث وغلب، وأصبح أهل الحق في قِلَّة وذِلَّة وضعف، ولم يَعد لهم وزن ولا كلمة ولا منزلة، وأما ما دام فيها خير وشر، فإن العقوبات تأتيها نذراً وغير عامة، حتى تجعل أهل الخير يجتهدون في الدعوة ويخشون وقوع العذاب، وأهل الشر يرتدعون وينزجرون، ويسمعون لدعاة الخير؛ لأنهم يرون العذاب، فإذا جاءت النُذُر وتوالت؛ فإن نفعت وحصلت التوبة والاستقامة، دفع الله تبارك وتعالى البلاء العام، وإن لم تحصل التوبة والرجعة والإنابة، بل ازداد أهل الكفر كفراً، وزِيد في ذُلِّ أهل الإيمان وإيذائهم؛ جاءت العقوبة عامة، ونجّى الله تبارك وتعالى الذين اتقوا برحمته.
يقول رحمه الله: "هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه".