يقول شيخ الإسلام : "والصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية، أن الخطاب لا يثبت في حق أحدٍ قبل التمكن من سماعه".
وهو القول الثاني من الأقوال الثالثة، ومن الحجة له أنه كيف يثبت الخطاب في حق أحد وهو لم يسمعه؟ والوقائع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله الكثيرة تشهد وتدل لهذا القول بعد أن يبلغه، فإذا لم يبلغ المكلف الخطاب بقي على البراءة الأصلية، فلا يجب عليه شيء، وعليه قال شيخ الإسلام :
"فإن القضاء لا يجب عليه في الصور المذكورة ونظائرها"، فإذا جاءنا شخص وقال: كنت لا أدري أن الصلاة واجبة، قلنا له: صل من حين علمت وجوبها، ولا يجب عليك قضاء ما قبل علمك بوجوبها.
وآخر كان يترك الصلاة لعدم وجود الماء ولم يبلغه حكم التيمم، أو تيمم على غير الكيفية المشروعة، والآخر كان يأكل في رمضان حتى يتبين له الحبل الأبيض من الأسود يفسر الآية بذلك جهلاً، فالصحيح من أقوال العلماء أنه لا يجب عليه القضاء، وكل هذه الصور قد وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحداً ممن وقع له ذلك بالقضاء، وهذا دليل صحيح صريح على أنه لا يثبت حكم الخطاب في حق أحدٍ إلا بعد تمكنه من سماعه، وقيام الحجة عليه.
ويدخل في هذا أيضاً: لو أنه بلغه النص ولكن لم يفهم منه الوجوب، كأن فهم منه الندب مثلاً، أو فهمه على غير وجهه، فإنه أيضاً لا يجب في حقه؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما تعبدنا بأن نطيعه في حدود ما نعلم أنه شرعه، فمن لم يعلم أن الله شرع هذا فلا يؤاخذ به.
ما سبق يذكرنا بما يحدث هذه الأيام من الفتوى، ونذكر ذلك لشدة الحاجة إليه، ولخطأ من يفتي في هذه الأيام -وهم كثيرون مع الأسف-! يفتون أن من تاب وعمره أربعون سنة أو ستون أو أكثر، ولم يكن يصلي ولا يصوم قبل ذلك؛ بأن عليه أن يقضي جميع الصلوات التي فاتته، وصيام جميع شهور رمضان التي فاتته، وهذه الفتوى تجعل التوبة أمراً عسيراً، مما ينفر الناس عن التوبة!
والصحيح أنه لا يقضي، لكن هل ذلك لأنه لم يبلغه الحكم مثلما قلنا هنا؟
الجواب: ليس انتفاء وجوب القضاء لكون الحكم لم يبلغه، بل لأنه كان كافراً حيث لم يكن يصلي، والآن نقول له: أسلم حقيقةً، وصلِّ، فإذا ابتدأ الصلاة فقد استأنف الإسلام، وكل ما يفعله الإنسان في حال الردة فإنه لا يجب عليه أن يقضيه.