إن وجود الاقتران أو الاشتراك اللفظي هو سبب ضلال الفرق في معرفة الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى خاطبنا ووصف نفسه بكلامنا ولغتنا، فهذه اللغة أوهمت بعضهم حتى قال: نحن لا نتصور الاستواء إلا بالشكل الحسي المعروف، ولا نتصور النـزول إلا بالشكل الحسي المعروف، وهو انتقال جسم من مكان إلى مكان، ولا نستطيع أن نتخيل اليد إلا جارحة، ولا نتخيل السمع إلا بأذن وصماخ ... الخ .
هذا هو منشأ الخطأ في حق الله تبارك وتعالى، مع أن الله تعالى أخبرنا عن الجنة أن فيها حوراً عيناً، وأن فيها أنهاراً من خمرٍ وأنهاراً من لبن وأنهاراً من عسل، وأن فيها فضةً وحريراً وذهباً، وأن فيها ولداناً وأشجاراً وثماراً، وغير ذلك من أنواع النعيم الذي في الجنة، ومع ذلك نعتقد أن ما عندنا من نعيم الجنة إنما هو الأسماء، فنؤمن به مع اعتقادنا أنه يكون لأهل الجنة، ونرجوا الله سبحانه وتعالى أن نذوق هذا النعيم، ونؤمن أنه نعيم لا يشبهه في الدنيا، ولا يشبهه شيء مما تراه أعيننا في الدنيا، ولا يمكن أن تتخيل عقولنا وأذهاننا شيئاً يشبهه .
فكيف نقول: إننا لا نفهم من صفات الله سبحانه وتعالى إلا ما نعلمه من صفات المخلوقين، وأنه يجب أن نؤولها وننفيها، فخفاء صفات الله سبحانه وتعالى عنا أعظم وأكثر من خفاء نعيم الجنة، وكذلك أحوال يوم القيامة، وغير ذلك من العوالم الغيبية التي نعلمها.
فإن الشبهة الكبرى التي وقع فيها من أوّلَ في باب الصفات هي قولهم: إن الله أنزل هذا القرآن بلغة العرب، وخاطب العرب بما يفهمون، ونحن لا نفهم من لغة العرب إلا أن اليد جارحة، وأن النزول والمجيء هو الانتقال من مكان إلى مكان، وأن العين هي هذه الباصرة، وأن الغضب ثوران القلب، والرحمة استعطاف وانكسار في القلب، وهذه شبهه كبيرة، ولكنها ليست بشيء عند أصحاب العقول السليمة والفطر القويمة .
فصفات الله سبحانه وتعالى جاءت بلغة العرب، فلو خوطبنا بشيء لا ندركه تماماً لما فهمنا أي شيء تماماً، فلا بد أن يكون هناك قدراً معيناً بين الألفاظ الموضوعة وبين المعاني التي وضعت لها الألفاظ، وهذا القدر المعين لا يستلزم بحال من الأحوال أن يكون كل من أطلق عليه اللفظ مساوياً للآخر في الحقيقة .
قال الله سبحانه وتعالى:
((إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً))[الإنسان:2] وقال سبحانه:
((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11] فالله سبحانه وتعالى له سمع يسمع به وبصر يبصر به فيحيط به المسموعات والمرئيات والمبصرات.
فنستطيع فهم الصفات واللوازم، وأما العين والحقيقة والذات فهذه لا نستطيع أن نفهم كيفيتها أبداً، فنؤمن أن الله سميع وبصير، وأنه على العرش، وأنه ينزل، وأنه يغضب، وأنه يرحم، مع الاعتقاد بأننا لا نستطيع معرفة كيفية الغضب والرحمة والاستواء وسائر الصفات؛ ولهذا عندما نفى علماء
السلف الكيف وقالوا: نؤمن بلا كيف، ومعناه: إثبات شيء وبمعناه مع جهل كيفيته؛ لأنا إذا كنا ننفي نفس المعنى، فلا نحتاج أن نقول ليس له يد بلا كيف .
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
[واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عينها أو ما يناسب عينها، ويكون بينهما قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى، وإلا فلا يمكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط، حتى في أول تعليم معاني الكلام بتعليم معاني الألفاظ المفردة، مثل تربية الصبي الذي يعلم البيان واللغة، ينطق له باللفظ المفرد، ويشار له إلى معناه إن كان مشهوداً بالإحساس الظاهر أو الباطن.
فيقال له: لبن، خبز، أم، أب، سماء، أرض، شمس، قمر، ماء، ويشار له مع العبارة إلى كل مسمى من هذه المسميات، وإلا لم يفهم معنى اللفظ ومراد الناطق به، وليس أحد من بني آدم يستغني عن التعليم السمعي، كيف وآدم أبو البشر أول ما علمه الله تعالى أصول الأدلة السمعية وهي الأسماء كلها، وكلمه وعلمه بخطاب الوحي ما لم يعلمه بمجرد العقل.
فدلالة اللفظ على المعنى هي بواسطة دلالته على ما عناه المتكلم وأراده، وإرادته وعنايته في قلبه فلا يعرف باللفظ ابتداء. ولكن يعرف المعنى بغير اللفظ حتى يعلم أولاً أن هذا المعنى المراد هو الذي يراد بذلك اللفظ ويعنى به، فإذا عرف ذلك، ثم سمع اللفظ مرة ثانية، عرف المعنى المراد بلا إشارة إليه] اهـ
الشرح:
إن الألفاظ وضعت لتدل على معان معينة، وهذه المعاني لا بد أن يكون بينها وبين اللفظ قدراً مشتركاً ومن هنا كانت اللغة محتاجة إلى التعليم السماعي، ولذلك لو عاش طفل بين بعض الحيوانات -كما في علم الاجتماع - وصار يرضع منها، ويعيش معها، فإنه لا يتكون لديه لغة، لأن اللغة سماعية، ولها مراحل .
الدرجة الأولى: وهي أبسط مراحل تعلم اللغة كأن تشير للطفل وتقول: هذا جبل، هذا قمر، هذا أب، هذه أم. والطفل يرتبط في ذهنه المعنى بالإشارة فيحفظ، ولذلك لو حفظ الطفل خطأ، وخاطب الناس فسيشير إلى الجبل ويقول: هذا ماء؛ لأنه أخذها تعلماً سمعياً .
ولهذا يذكر المصنف -رحمه الله-: أنه لا يمكن لأحد أن يستغني عن السماع، لأن أبانا آدم عليه السلام علمه الله سبحانه وتعالى أسماء كل شيء، وعلمه كيف يطلق الأسماء على مسمياتها، الموضوعه لها .
والدرجة الأولى أقل درجات الخطاب ومعرفة المخاطب، فالمتكلم إذا كان له معنى في نفسه يريد أن يعبر عنه ويشرحه لغيره، فأوضح شيء في الشرح أن يقول: لو سألك أحد عن شيء لا تعرفه تماماً فقل: مثل هذا، فاللفظ هنا يدل على المعنى الذي فهم عن طريق الإشارة، فهذه الدرجة أدنى درجات الإفهام، ولو ذهب أحدنا إلى أي بلد من البلدان وأراد أن يتعلم لغة ما، لتعلمها بهذه الطريقة، بل حتى في الكتب التعليمية تكتب الكلمة، ويرسم شكلها جوار الاسم، فيعرف أن المقصود بالكلمة المكتوبة هي هذه الصورة .
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
[ وإن كانت الإشارة إلى ما يحس بالباطن مثل الجوع والشبع والري والعطش والحزن والفرح، فإنه لا يعرف اسم ذلك حتى يجده من نفسه، فإذا وجده، أشير له إليه، وعرف أن اسمه كذا. والإشارة تارة تكون إلى جوع نفسه أو عطش نفسه، مثل أن يراه أنه قد جاع فيقول له: جعت، أنت جائع، فيسمع اللفظ ويعلم ما عيَّنه بالإشارة أو ما يجري مجراها من القرائن التي تعين المراد، مثل نظر أمه إليه في حال جوعه وإدراكه بنظرها أو نحوه أنها تعني جوعه. أو يسمعهم يعبرون بذلك عن جوع غيره] اهـ.
الشرح:
الدرجة الثانية: هي الشيء غير المحسوس كالجوع والظمأ .
عندما يكون الشيء معقولاً، وليس أمراً مشاهداً؛ فإنه يفهمه إذا أحس من نفسه هذا الشيء أو من غيره، واحتفت قرائن تدل على أن هذا هو الشيء المراد، فمثلاً. الطفل يفهم معنى كلمة الجوع أو العطش، إذا أحس في نفسه هذا الشيء ووجد أن أمه تقول: أنت جائع، فتقدم له الطعام أو الحليب، وفي كل مرة يتكرر هذا العمل، أو تقول: أنت عطشان، وتأتي بالماء، فيقترن في ذهنه أن الماء للعطش، وأن الطعام للجوع، فيفهم أن هذا الشيء الذي ينشأ في داخله وهو الحاجة إلى لطعام يسمى جوعاً، والحاجة إلى الشراب تسمى عطشاً، فيفهم الطفل هذا الشيء ويتلقاه، مع أنه غير مشار إليه، فهذا النوع عقلي باطني يدرك بالعقل، فعندما يرى الطفل إنساناً عليه ملامح التجهم والانقباض ويقول أبوه: هذا غضبان، ويأتي إنسان عليه علامات الانشراح والابتسام فيقول الأب: هذا فرح، يفهم الطفل أو غيره معنى كلمة غضبان، ومعنى كلمة فرح .
قال المصنف -رحمه الله تعالى:
[ إذا عرف ذلك، فالمخاطب المتكلم إذا أراد بيان معان، فلا يخلوا إما أن يكون مما أدركها المخاطب المستمع بإحساسه وشهوده، أو بمعقوله , وإما أن لا يكون كذلك، فإن كانت من القسمين الأولين، لم يحتج إلا إلى معرفة اللغة، بأن يكون قد عرف معاني الألفاظ المفردة ومعنى التركيب، فإذا قيل له بعد ذلك: ((أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ))[البلد:8- 9] أو قيل له: ((وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))[النحل:78] ونحو ذلك، فهم المخاطب بما أدركه بحسه. وإن كانت المعاني التي يراد تعريفه بها ليست مما أحسه وشهده بعينه، ولا بحيث صار له معقول كلي يتناولها حتى يفهم به المراد بتلك الألفاظ، بل هي مما لم يدركه بشيء من حواسه الباطنة والظاهرة، فلا بد في تعريفه من طريق القياس والتمثيل والاعتبار بما بينه وبين معقولات الأمور التي شاهدها من التشابه والتناسب، وكلما كان التمثيل أقوى، كان البيان أحسن، والفهم أكمل .
فالرسول -صلوات الله وسلامه عليه- لما بين لنا أموراً لم تكن معروفة قبل ذلك، وليس في لغتهم لفظ يدل عليها بعينها، أتى بألفاظ تناسب معانيها تلك المعاني، وجعلها أسماءً لها، فيكون بينها قدر مشترك، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والإيمان، والكفر. وكذلك لما أخبرنا بأمور تتعلق بالإيمان بالله وباليوم الآخر، وهم لم يكونوا يعرفونها قبل ذلك حتى يكون لهم ألفاظ تدل عليها بعينها، أخذ من اللغة الألفاظ المناسبة لتلك بما تدل عليه من القدر المشترك بين تلك المعاني الغيبية، والمعاني الشهودية التي كانوا يعرفونها، وقرن بذلك من الإشارة ونحوها ما يعلم به حقيقة المراد، كتعليم الصبي، كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور آبائهم] ا. هـ
الشرح:
إذا أردت أن تبين معنى من المعاني، فعليك باللفظ الذي يعرفه الناس إما معرفة حسية أو معرفة عقلية، كالأمثلة التي ضربها المصنف ومنها قوله تعالى: ((أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ))[البلد:8، 9] فاللغة كفت لبيان الأمور المحسوسة والمشاهدة، كما تكفي لمعرفة الأشياء المعقولة لدى الإنسان، كالعلم والرضا والجهل والكرم والغضب وأمثال ذلك من الأمور غير المشاهدة، وهي معلومة بعقول بني آدم.
مثاله: لما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: { لا تغضب } فعرف الرجل معنى: لا تغضب؛ لأن الغضب معروف لديه ولدى غيره من المخاطبين، وكذلك العلم والرحمة معروفة عند بني آدم.
ومن أمثلة ذلك أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله سبحانه وتعالى بمعان جديدة، كالصلاة؛ فإنها في لغة العرب بمعنى: الدعاء، والزكاة في لغة العرب بمعنى: التطهير، والصيام عند العرب بمعنى: الإمساك، وكذا الحج بمعنى: القصد إلى الشيء .
فلما جاء الشرع من عند الله سبحانه وتعالى وخاطب الناس بلغتهم: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ)) [إبراهيم:4] عبر عن المعاني الجديدة التي لم يعرفوها قط عن طريق التمثيل والتقريب، وكلما كان المخاطِب أبلغ كان بيانه أجلى، وتمثيله أعظم.
فأتى بالقدر المشترك، كالصلاة فطبقها النبي صلى الله عليه وسلم أمامهم فبدأ بتكبيرة الإحرام، وانتهى بالتسليم، بما في ذلك من قراءة وركوع وسجود، وكذلك الحج: قصد البيت الحرام وأداء النسك .
فقربت هذه المعاني من جنس كلام العرب حتى يفهموها، وأصبح الإنسان بعد ذلك لا يفهم من الصلاة أنها الدعاء، وإنما يفهم منها الصلاة المعروفة، مع أن الصلاة المعروفة الآن بأركانها لا تشبه في مدلولها مجرد الدعاء، الذي يعرفه العرب في الجاهلية، فخوطب الإنسان بما يؤديه، ومن الممكن أن يفهمه، فكيف بما يتعلق بالإيمان بالله سبحانه وتعالى والآخرة؟ وما يتعلق بالأمور الغيبية المطلقة التي لا يعلمها الإنسان ولا يمكن أن يفهمها .
فلا بد أن هناك قدراً مشتركاً بين ما خوطب به الإنسان، وبين حقائقها الغيبية، فمثلاً: النار أو جهنم -والعياذ بالله- إذا قرأها الإنسان في القرآن، فإنه يعلم أنها لا تشبه نار الدنيا، لكن هناك قدر مشترك يجعل هذه تشبه هذه، وكذا الجنة وردت في القرآن بمعنى: الروضة الجميلة، والبستان -مثل أصحاب الجنة في سورة القلم وصاحب الجنتين في سورة الكهف- وليست هي مثل جنة الخلد، والعلاقة بين الطرفين أن فيهما نعيم ورخاء، وكلتاهما تستلذ وتستطاب، ومن أجل هذا القدر المشترك قرب لنا اللفظ، وسميت الجنة لنفهم ونعرف أن فيها نعيم.
والذين أنكروا الصفات قالوا: إن الجنة في كلام العرب لا تعقل، إلا أنه هذا النخل والعنب والشجر والماء، فجنة الآخرة مثلها، وهذه الجنة تفنى؛ لأنها أجسام معينة ونباتات، والنباتات من خواصها ولوازمها الفناء، فدخلوا في قضايا عقلية قياسية بسبب قولهم: إن اللغة وضعت هذه اللفظة هكذا .
ونرد عليهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن نعيم الجنة: {فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر}، وكما قال ابن عباس: (ما عندكم في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ) أي: الاشتراك اللفظي فقط، فهذه جنة وهذه جنة، وهذا نهر وهذا نهر، وهذا خمر وهذا خمر، لا يعني أن جنة الدنيا كجنة الآخرة، ولا أن أنهارها كأنهارها، ولا أن خمرها كخمرها؛ لكن لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يفهمنا ويُعْلمَنا بهذه الجنة، وكانت مما لا ندركه بحواسنا ولا بعقولنا، خاطبنا بأمر نعقله عن طريق التمثيل للتقريب .
وصفات الله سبحانه وتعالى أعظم من ذلك وأجل، فإن الله سبحانه وتعالى عليم، سميع، بصير، رحيم، كما أخبر عن نفسه، فهناك قدر مشترك لفظي فقط، بينها وبين صفات الإنسان، وهو أن الإنسان يدرك المسموعات التي تليق به، والله تبارك وتعالى يدرك المسموعات التي تليق به، وهو سبحانه قد أحاط بكل شيء علماً، ولا يفوته شيء، ولا يعجزه شيء، بخلاف الإنسان فإن سمعه محدود.
وكذلك البصر فإنه لا يخفى على الله -تبارك وتعالى- شيء، وأما الإنسان فبصره محدود.
فخوطبنا بهذه الكلمة من كلام العرب لكي نعرف حقيقة المعنى، ونميز بين هذا المعنى والمعنى الآخر، فكون الله سبحانه وتعالى سميعاً غير كونه بصيراً، وكذلك الإنسان له سمع وبصر، وكونه سميعاً يفرق عن كونه بصيراً، فإذا قلت لك: هذا إنسان بصير، فإنك تفهم أن له عيناً يبصر بها.
وإذا قلت لك: هذا إنسان سميع، فإنك فهمت شيئاً آخر، ولذلك جاءت الألفاظ في القرآن والسنة لتبين هذه المعاني، ونعرف القدر المشترك البسيط من إدراك المسموعات أو إدراك المبصرات، ولكن ليس الإدراك مثل الإدراك، أما حقيقة الذات المعني بها اللفظ فلا يمكن إدراكها، ولا يمكن للعقول أن تتخيلها أو تتوهمها، لأنك لا تستطيع أن تتخيل ما هو أهون من ذلك، وهو نعيم الجنة الذي هو أقل من ذلك بكثير .
فالدرجة الثالثة: إذاً هي درجة الأشياء التي لا تدخل تحت معرفة البشر الحسية أو العقلية، ولكن الخطاب يكون بما يماثلها ليقربها، وكلما كان البيان أكمل كلما كان تقريب المعنى لديه أعظم .
وهذا يستعمل حتى في الأشياء البشرية المستجدة؛ فلو أن هناك جهازاً اُخترع، وتريد أن تعرفه لإنسان وتشرحه له، وهو لم ير هذه الآلة من قبل، ولم يفكر فيها، فتضرب له مثلاً وتقول: هذه الآلة مثل الطائرة -مثلاً- ليعرف أو يتصور شيئاً معيناً يميز به هذا الشيء، فإذا أريته الآلة، وقلت له: هذه الآلة التي كنت أشرحها لك، فإنه سيجد شيئاً غريباً لم يخطر على باله، والذي خطر على باله أولاً إنما هو شيء يميز به هذه عن غيرها.
وهذا هو فائدة الاسم في اللغة العربية، أن يميز به الشيء عن الآخر، فالأسماء توضع للتمييز بين الأشياء فقط، فهذا أحمدُ، وهذا عليٌ وهكذا، ولكن قد يكون هناك شخصان كلاهما اسمه علي، وتختلف حقيقة كل منهما، فالألفاظ تأتي للتقريب والدلالة، وأسماء الله تعالى وصفاته وضعت لها ألفاظ ليميز بعضها عن بعض.
وكذلك القدر المشترك اللفظي بين ما وصف الله سبحانه وتعالى به نفسه، وما وصف به خلقه من بنى الإنسان، أمر معقول في كل ذهن، لا في الحقيقة والواقع والذوات؛ فليس هناك أي تشابه على الإطلاق .
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ وأما ما يخبر به الرسول من الأمور الغائبة، فقد يكون مما أدركوا نظيره بحسهم وعقلهم، كإخبارهم بأن الريح أهلكت عاداً، فإن عاداً من جنسهم والريح من جنس ريحهم، وإن كانت أشد، وكذلك غرق فرعون في البحر، وكذا بقية الأخبار عن الأمم الماضية. ولهذا كان الإخبار بذلك فيه عبرة لنا، كما قال تعالى: ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ))[يوسف:111] وقد يكون الذي يخبر به الرسول مما لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه، لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه، كما إذا أخبرهم عن الأمور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر، فلا بد أن يعلموا معنى مشتركاً وشبهاً بين مفردات تلك الألفاظ وبين مفردات ألفاظ ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم.
فإذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد، ويريد أن يجعلهم يشهدونه مشاهدة كاملة ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب، أشهدهم إياه، وأشار لهم إليه، وفعل فعلاً يكون حكاية له وشبهاً به، يعلم المستمعون أن معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الأمور الغائبة، فينبغي أن تعرف هذه الدرجات:
أولها: إدراك الإنسان المعاني الحسية المشاهدة.
وثانيها: عقله لمعانيها الكلية.
وثالثها: تعريف الألفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية والعقلية.
فهذه المراتب الثلاث لا بد منها في كل خطاب.
فإذا أخبرنا عن الأمور الغائبة، فلا بد من تعريفنا المعاني المشتركة بينها وبين الحقائق المشهودة والاشتباه الذي بينهما، وذلك بتعريفنا الأمور المشهودة، ثم إن كانت مثلها، لم يحتج إلى ذكر الفارق، كما تقدم في قصص الأمم، وإن لم يكن مثلها، بين ذلك بذكر الفارق، بأن يقال: ليس ذلك مثل هذا، ونحو ذلك، وإذا تقدر انتفاء المماثلة كانت الإضافة وحدها كافية في بيان الفارق، وانتفاء التساوي لا يمنع منه وجود القدر المشترك الذي هو مدلول اللفظ المشترك، وبه صرنا نفهم الأمور الغائبة، ولولا المعنى المشترك ما أمكن ذلك قط ] اهـ
الشرح:-
لكي نفهم هذه المراتب الثلاث: المعرفة الحسية، والمعرفة العقلية، ومالا يدخل تحت الحس أو العقل، ينبغي أن نعرف الرد على الذين ينفون صفات الله سبحانه وتعالى ويقولون: الألفاظ الموضوعة لا يفهم منها إلا هذا الشيء، فنحن لا نفهم من اليد إلا الجارحة، ولا نفهم من النزول إلا الانتقال،ولا نفهم من المجيء إلا الانتقال وهكذا، فنقول: ما أتفه هذه العقول وما أضلها، يقول تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11] فنحن لا نستخدم أي لفظ لم يأت به الشرع، بل هذا دليل على أن التشبيه في قلوبنا إن استخدامنا غير الألفاظ الشرعية، أما علماء الكلام ونفاة الصفات ففي قلوبهم وأنفسهم تشبيه فهم يحرفون كلام الله، ويضيفون إليه ما لم يضفه .