قال المصنف: "وإن كان صاحبها متأولاً، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره"، أو يقولون بكفر كل مبتدع، فمثلاً يقولون: من نفى صفة من صفات الله فقد كفر، فهذه العبارة من حيث الجملة صحيحة، وذلك لو قيلت على أساس أن النفي إذا أطلق فإنه يطلق على من ينفي نفي إنكار وجحود لما في القرآن مثلاً.
لكن هذه العبارة أحياناً تطلق على من نفى متأولاً، فتكون في هذه الحالة خاطئة؛ لأن من الناس من يخطئ فينفي بعض الصفات وإن كانت في القرآن، أو ينفي بعض ما ورد في القرآن ويكون متأولاً لا جاحداً ولا منكراً، فبعض العلماء قال في مثل قول الله تعالى في آية الكرسي: ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ))[البقرة:255] الكرسي هو العلم!! وهذا تأويل، فهل يكفر قائله وإن كان متأولاً؟! ونعني بالمتأول الذي لا يكفر: هو من كان له تأويل سائغ، أو كان القول ناشئاً عن اجتهاد له وجه من النظر.
والتأويل له ثلاث حالات: منه ما يكون كفراً، ومنه ما يكون بدعة ضلالة، ومنه ما يكون خطأ.
فالتأويل الكفري مثل تأويلات الباطنية عموماً، وكقول الرافضة : يجب أن تقتل عائشة ؛ لأن الله تعالى يقول: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً))[البقرة:67] فهذا التأويل غير سائغ وليس له أي وجه من النظر؛ لأن هذه الآية نزلت في موسى عليه السلام وبني إسرائيل، وقد ذكر الله تعالى أنهم ذبحوها، فقال: ((فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ))[البقرة:71] فهذا التأويل مردود من أصله.
والتأويل البدعي مثل تأويل قوله تعالى: ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ))[البقرة:255] بأنه علمه، فهذا التأويل له شبهة وله وجه، وهو أن هذا ورد ونقل، وقد يكون النقل غير صحيح؛ ولكن بعض الناس قد يعتمد على دليل ضعيف وهو يرى أنه صحيح، أو أنه نقل عن السلف، فمثل هذا لا نكفره؛ لأن له وجهاً، فالحل الصحيح في مثل هذا أن نكشف الشبهة، ونبين له عدم صحة الدليل إن كان غير صحيح، أو قد يكون الدليل صحيحاً؛ لكنه لا يدل دلالة صريحة على ما ذهب إليه، لكن وقعت شبهة في فهمه رأى أنها هي الدليل، فهذا نكشف له الشبهة ولا نكفره؛ لوجود أدلة وقرائن لديه وشبهات، وهذه الشبهات لا تصلح أن تكون قطعيات، وليست دلائل صريحة بلا شك، ولكن أيضاً لا نتناساها ونلغيها بالكلية؛ إذ هي موجودة عنده، فمثل هذا لا يبادر بتكفيره، وإنما يبين له الحق وتقام عليه الحجة، وذلك كمن ينكر الرؤية متأولاً، فإن أئمة من أهل السنة كفروا من أنكر الرؤية؛ لكن المتأول تقام عليه الحجة وتكشف له الشبهة ولا يبادر إلى تكفيره، ومثله من جهل بأحاديث عذاب القبر ونعيمه ولم تقم الحجة عنده بالآيات، فهذا أيضاً متأول تكشف له الشبهة.
والناس في ذلك مراتب ودرجات؛ فمن الناس من هو عالم جليل له بحار من الحسنات وأخطأ في قول، فالله يغفر له.
ومنهم من هو مبتدع ضال زائغ، ولكن لا يصل بنا الأمر إلى تكفيره، وبينهما درجات متفاوتة تتدرج في الحكم.
فمن كفَّر كل من قال هذا القول ولم يفرق بين المجتهد المخطئ وبين المعاند المكابر فقد أخطأ، وكذلك من قال بكفر كل مبتدع فإنه مخطئ أيضاً.