قال المصنف رحمه الله: [وأيضاً فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلاَّ قتل كافراً مرتداً].
فلو أن إنساناً أنكر أن الزكاة واجبة، أو أنكر أن الصلاة واجبة، أو أنكر أي واجب من الواجبات -ونقصد بها ما كان ظاهراً متواتراً معلوماً من الدين بالضرورة، فجاء أحد فأنكره فقامت عليه الحجة- فإنه كما يقول المصنف: "يستتاب، فإن تاب وإلاَّ قتل كافراً مرتداً"؛ لأنه أصر وعاند في إنكار أمر ظاهر معلوم من الدين بالضرورة.
وأما استحلال المحرم فكأن يأتي من يقول: إن الزنا -والعياذ بالله- حلال، أو أن الخمر حلال، وجاهر بذلك، فإنه يكفر بذلك؛ لأنه قد استحل أمراً مجمعاً على تحريمه، معلوم لكل مسلم أنه محرم، ولا يدخل في ذلك من أسلم حديثاً، أو من جاء من بادية أو غيرها، ولم يعرف أحكام الإسلام فإن المقصود بالحكم هو حال أغلب الناس، أي: من كان مسلماً ويعرف شيئاً من دينه، فيعلم وجوب الصلاة، ويعلم حرمة الزنا، فمثل هذا إذا استحل شيئاً من ذلك، وقامت عليه الحجة، واستتيب فلم يتب وقتل؛ فإنه يقتل كافراً مرتداً، وسيأتي مزيد بسط لهذا قريباً إن شاء الله تعالى.
ومن الأمثلة على ذلك: حديث قدامة بن عبد الله لما شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة متأولين قوله تعالى: ((لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))[المائدة:93]، فلما ذكر ذلك لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه، اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا. وثبت في حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن رجلاً تزوج امرأة أبيه، فأرسل إليه من قتله؛ لأن هذا استحلال لأمر قد علم من دين الإسلام بالضرورة أنه حرام.. وهكذا، فالحال في مثل هذا أن من شرب الخمر وأُتي به، فإن اعترف بالتحريم جلد؛ لأن غالب من يشرب الخمر فإنه يشربها عصياناً، لكن لو جاء أحد وقال: هي حلال؛ فإنه يقتل في هذه الحالة ردة وكفراً والعياذ بالله! وكذلك لو استحل شخص الزنا؛ كحال كثير من الناس في هذا العصر الذين يرون أن الزنا مباح، ويسمونه: حباً، ويقتدون في ذلك بالغربيين الذين لا يرون هذه الفاحشة إلاَّ مجرد علاقة شخصية، ولا يرون فيها جريمة إلاَّ إذا كانت اغتصاباً! أو كانت من الزوجة على فراش الزوجية! أما إذا كانت علاقة مع أحد خارج البيت -عياذاً بالله- أو مع امرأة غير متزوجة، فتعاشر هذا يوماً وهذا ساعة كما تفعل الكثيرات منهن، وهي راضية وهو راضٍ، فإن هذا الأمر لا يعد جريمة في عرف الغرب! والقوانين الغربية صريحة في إباحة ذلك.
فجاء بعض من ينتسب إلى الإسلام وأخذوا يبثون هذه الأمور: الشعراء منهم في شعرهم، والكتاب في كتاباتهم، والصحفيون في صحافتهم.. ومما عرض علينا من ذلك ما كتبته تلك المرأة التي كانت عميدة كلية الشريعة والحقوق في جامعة الكويت، فقد كتبت تطالب بتعديل قانون الأحوال الشخصية -وهي تعني تعديل الشريعة- فتقول: لابد أن تعدل الأعراف، أو ما هو مألوف عندنا نحن في الشرق بأن المرأة أقل من الرجل، وأنها ترث نصف ميراث الرجل، وأن القوامة للرجل، وإباحة الحب للمرأة، وهي تطالب بتعديل ذلك بحجة مواكبة العصر!! وما أكثر ما كنا -وما نزال- نقرأ ونسمع عن ذلك! نسأل الله العفو والعافية.
المقصود: أن استحلال المحرمات الظاهرة المعلوم تحريمها كفر وردة، وإن كان صاحبها يدعي أو يزعم أنه مسلم، حتى مسألة الحجاب، فإن المرأة التي تخرج متبرجة متكشفة، وهي تعلم أن هذا معصية، ولكن دواعي الهوى والشهوة والغفلة دعتها إلى ذلك، فهي عاصية مذنبة فاجرة، ولكن لو أنها خرجت بناءً على أن الحجاب غير واجب عليها، وإن كان في القرآن، وإن كانت الصحابيات ملتزمات به، وإن رددت ما يزعمه البعض بقولهم: إن الحجاب كان في عصور الظلمات، ونحن الآن في عصور التحرر والانطلاق والحرية والتقدم والتطور! فهي إن نزعت الحجاب معتقدة أنه غير واجب عليها، فليس فعلها مجرد معصية، وإنما ردة وكفر والعياذ بالله!
وقد كتب في مسألة عدم وجوب الحجاب الكثير من المفكرين والكتاب، وحاربوا الحجاب أشد المحاربة، ومن هؤلاء: درية شفيق، وأمينة سعيد، وقاسم أمين، وأمثالهم ممن لا يزالون يكتبون ويدعون إلى مثل ذلك، وبعضهم قد أهلكه الله عز وجل. فمستحلة التبرج والسفور مرتدة كافرة وليست مجرد عاصية؛ إذ أن العاصية إذا خُوفت وذكرت فإنها تقر وتلتزم بالحجاب، أما هذه فإنها تعاند وتكتب وترد على من يستدل بالآيات والأحاديث، ولو قيل لبعضهن: إما أن تتوبي وإلاَّ قتلناك؛ لاختارت -عياذاً بالله- أن تموت على غير توبة؛ لأنها أصبحت عندها عقيدة ومنهجاً.
وكذلك في الربا، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى مستدلاً على كفر التتار، أن أناساً من ثقيف امتنعوا عن تحريم الربا، مع أنه من آخر ما نزل من المحرمات -ومعنى قوله رحمه الله: مع أن الربا من آخر المحرمات: أنه أي قد يخفى تحريمه بالنسبة لمن كانوا حديثي عهدٍ بالإسلام- ومع ذلك أنزل الله سبحانه وتعالى: ((فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))[البقرة:279]، فدل ذلك على وجوب قتال الطائفة إذا اجتمعت على فعل محرم أوترك واجب، وهذا القتال ليس من جنس قتال البغاة، ولكن من جنس قتال أهل الردة، كما قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة، وذلك لأن الطائفة اجتمعت لتدافع عن هذه القضية بالسيف، فمعنى ذلك: أنها أصبحت لديها عقيدة ومبدأ، وليست مجرد معصية، ولو أن رجلاً واحداً في ذاته شرب الخمر فيحمل في الأصل على أنه عاصٍ، لكن إذا كانت قبيلة -أو مدينة أو دولة- أعلنت أن الخمر من روافد اقتصادها، وأنها تعصر الخمر وتبيعه وتصدره، فكتب إليها المسلمون وناصحوها، فقالت: لا نمتنع أبداً! ونحن مستعدون أن نقاتل دون هذا الشيء، وتجمعوا وحملوا السلاح، وجاءوا لقتال من يقاتلهم من أجل هذا الحرام، فهؤلاء يقاتلون قتال ردة وليس قتال بغاة؛ لأن الباغي أو قاطع الطريق يُقَاتل مع اعتقاد أنه مسلم، أما هؤلاء فقتالهم قتال ردة؛ لأنهم اجتمعوا على هذا الأمر.
ويذكر شيخ الإسلام رحمه الله في ضمن الفتوى أن بعض أهل العلم قال بقتال من عطل شيئاً من الشعائر، وحتى ما هو أقل من الشعائر مثل ركعتي الفجر أو صلاة الاستسقاء، أو ما أشبه ذلك، وإذا امتنعت أمة عن الجهاد في سبيل الله وقالت: لا نجاهد في سبيل الله، ولا نضرب الجزية على أهل الكتاب، فإنها أيضاً تقاتل؛ لأنها تركت أمراً معلوماً من الدين بالضرورة وهو الجهاد وفرض الجزية. وهذا من باب الامتناع عن أداء واجبات معلومة من الدين بالضرورة، ويشهد لهذا الحديث الصحيح الذي ذكرناه فيما سبق، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل السرية، فإن سمعوا الآذان وإلاَّ أغاروا؛ لأن سماع الأذان يعني أن هذه دار إسلام، فهم معصومون، وإن لم يسمعوا أذاناً أغاروا عليهم، فهم ليسوا بمعصومي الدم والمال؛ لأنهم لو كانوا مسلمين لأذنوا للصلاة، وهذا هو الفرق بين الدارين.
إذاً: المثال الأول على أن بعض أهل القبلة كفار: هم المنافقون، والمثال الثاني: هم الممتنعون عن الالتزام بالشريعة. ولا يستطيع المرجئة إنكار ذلك؛ فدل ذلك على خطأ دعواهم في عدم تكفير أحد من أهل القبلة.