يقول ابن أبي العز رحمه الله: [فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين...] إلخ، يعني بأهل القبلة: كل من أظهر الإسلام بالشعائر الظاهرة، فهو عندهم لا يكفر أبداً، فأطلقوا القول، وقالوا: لا نكفر أحداً، وأوضح مثال على هؤلاء هم المرجئة، وهم أصناف، وهذا هو مذهبهم، وممن ذكر ذلك صاحب المواقف عضد الدين الإيجي في المقصد الخامس في موضوع الإيمان عندما تكلم عن التكفير؛ فقال -في معنى كلامه-: (جمهور المتكلمين والفقهاء على أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة) يعني: مهما اعتقد من اعتقادات فإنه لا يكفر، ثم قال: (وتحامقت المعتزلة بعد أبي الحسين البصري، فكفروا أصحابنا) يعني كفروا الأشاعرة، قال: (فرد عليهم بعض أصحابنا بالمثل)، أي أنه ظهر أيضاً من الأشاعرة من يكفر المعتزلة، فالفتن في هذه الأمة فتن قديمة ومستمرة ما لم تعتصم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (وكفرت المجسمة من خالفهم)، والمقصود بـالمجسمة في الغالب عند أهل الكلام أو عند نفاة الصفات هم أهل السنة والجماعة، ثم قال: (وقال الأستاذ: لا نكفر إلاَّ من كفَّرنا، أو قال: من كفَّرنا كفَّرْناه وإلاَّ فلا)، ويعنون بالأستاذ غالباً أبا منصور البغدادي، وبعضهم يقول: الأستاذ؛ ويعني به أبا إسحاق الإسفرائيني، وإن كان البغدادي عندهم أشهر وقد نسب الإيجي الكلام في هذا إلى جمهور المتكلمين والفقهاء، وهو بذلك يريد أن يقوي هذا القول، وهذه النسبة غير صحيحة، وبيان ذلك:
أولاً: بالنسبة للمتكلمين فإنالمعتزلة هم رأس علم الكلام وأصله وأساسه، وهم مع ذلك ضد هذا القول تماماً؛ حتى إنهم -كما ذكر- يكفرون الأشاعرة أنفسهم.
ثانياً: وأما الفقهاء؛ فنسبة هذا القول إليهم ليس بصحيح؛ إذ أن كل مذاهب الفقه الأربعة وغير المذاهب الأربعة كالظاهرية وما شابهها، تذكر في كل كتاب من كتبها: باب المرتد، أو باب الردة، أو باب أحكام أهل الردة -تختلف الأسماء، ولكن المسمى واحد- فكل الفقهاء مجمعون على أن هناك مرتداً.. لكن ما هي أحكامه؟ ومتى يكفر؟ هنا يفصلون الكلام، وبعضهم أكثر غلواً -إن صح التعبير- من بعض، مثل بعض كتب الفقه الحنفية، فإنها تستطرد وتذكر أموراً غريبة -على الأقل عند المخالف لهم- فمثلاً يقولون: من قال: مصيحف أو مسيجد كفر؛ لأنه صغر المسجد، وهذا يشعر بالاحتقار، وكذلك إذا أهدى إلى مجوسي بيضة في يوم النيروز كفر؛ لأنه عيد من أعياد المجوس، وقد ذكر هذا علي القاري في الفقه الأكبر .
إذاً: فغير صحيح أن الفقهاء لا يكفرون أحداً من أهل القبلة، وهذه القضية ليست قضية نظرية، ولم تكن كذلك عندما ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، حيث ثاروا وقاموا في وجهه في أكثر البلاد، وقالوا: إنه يكفر المسلمين، وهذه هي الشبهة التي يرددونها دائماً ولا ينفكون عنها في كل البلاد، منذ ثلاثة قرون وإلى الآن وهم يكررون ويقولون: إن الشيخ رحمه الله يكفر المسلمين، فإذا قيل: وأنتم كذلك! قالوا: نحن لا نكفر أحداً! وقد أرادوا الطعن في دعوته رحمه الله تعالى بهذا الشيء، وأنه خارج عن الإجماع وأنه يكفر المسلمين، ولكن في حقيقة الأمر أنهم هم الذين خرجوا عن إجماع الأمة، وخرجوا عن الكتاب والسنة بدعواهم أن أهل القبلة فلا يكفر منهم أحد، وأن كل من قال: (لا إله إلاَّ الله) لا يكفر، والغريب أن الأولين من المرجئة كانوا يقولون: إن الذي يقيم أحكام الإسلام الظاهرة لا يكفر، أي: يصلي ويصوم ويزكي -كما سبق بيانه- لكن وصل الحال عند أكثر المتأخرين إلى القول بأنه ما دام يقول: (لا إله إلاَّ الله) فإنه لا يكفر وانتشر هذا حتى أصبح كأنه قضيةٌ بدهية مسلّّم بها.