ولنضرب مثالاً ذكره الله تعالى في القرآن لنبين كيف أن الأدلة يصدق بعضها بعضاً، وأن العقل السليم يصدقها، يقول الله سبحانه وتعالى: (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[إبراهيم:24-25] الآية.
فقد فسر السلف هذه الشجرة بأنها (لا إله إلا الله) أي أنها هي الإسلام وهي الإيمان أيضاً، كيف تكون هذه الشجرة؟ نأخذ هذا المثال لنوضح ولنستدل به على أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الحق، وأن غيره باطل سواء أكان مذهب الخوارج أو المرجئة .. كيف ذلك؟
أولاً: أن الشجر يتفاضل وهذا معروف، فهناك شجرة طويلة تزن أطناناً وثمارها كبيرة، وهناك شجرة صغيرة وثمرتها صغيرة جداً، فهذا واضح وقد تكون الأشجار من جنس واحد، وشجرة الإيمان الجنس فيها واحد وهو جنس الإيمان، لكن هناك اختلاف بين شجرة وشجرة، ثم إن الشجرة لها جذور تحت الأرض ولها أجزاء ظاهرة لا يمكن أن يصدق عليها اسم الشجرة إلا إذا تركبت من النصف الظاهر الذي هو الجذع والأغصان والورق والثمرة، والنصف الباطن، وهو الجذور المتعمقة في الأرض، فلو جاء أحد إلى شجرة ما وقطعها، ثم وضعها فوق الأرض، فعندها لا تسمى هذه شجرة على الحقيقة؛ لأنه ليس لها جذور، ولن تثمر، بل إنها ستجف وتسقط، فهذا مثل من يأتي بالإيمان الظاهر وليس له عمق ولا وجود في الباطن.
إذاً: فكيف يُعقل أن يكون لدى الإنسان الإيمان الظاهر وليس لديه الإيمان الباطن؟! وكذلك لا يمكن عقلاً أن يكون الإنسان لديه إيمان باطن وليس لديه إيمان ظاهر، وهذا ما نص عليه الإمام الخطابي رحمه الله ونقله النووي في شرح مسلم -وإن كان لم يقرره وإنما اكتفى بنقله- فيقال: أي إنسان عنده إيمان ويقين وخشوع وإخلاص وتوكل كامل، ولا يظهر على أعضائه شيء من ذلك! هذا مستحيل في الواقع، وهو كالنصف الباطن للشجرة التي استؤصل جزؤها الظاهر، فيقول لك قائل: هذه شجرة ألا تراها؟ فتجيبه لا يوجد شيء، ولا نرى شيئاً! فيقول: هي موجودة، لكن تحت الأرض! ولو فرض أن هناك جذوراً تحت سطح الأرض مغطاة فإنها لا تسمى شجرة ولا تعتبر شجرة، فإن الشجرة هي ما كانت تجمع بين الجذور وبين الساق والفروع.
والشجرة التي جذورها عميقة وتشرب من الماء المتوفر لها دائماً تكون لها نضارة وجمال، أما الشجرة التي جذورها ضعيفة ولا يتهيأ لها كفاية من الماء فلابد أن يؤثر ذلك في نضارتها، بل قد يكون سبباً في جفافها وهلاكها.
وهناك تناسب وعلاقة بين وجود الجذور وامتدادها، ووجود الماء الذي تشرب منه وصلاحيته للنبات من جهة، وبين نماء الشجرة، وازدهارها وكبرها وتناسقها من جهة أخرى، وضعف هذا أو انعدامه يجعل الشجرة ضعيفة ولا تلبث أن تموت.
والخلاصة: أن الإنسان إذا لم تكن أعماله الظاهرة مرضية عند الله، وفق أمر الله فلا شك عندنا في أن إيمانه الباطن ناقص أو مفقود، فنحن نستدل استدلالاً ظاهراً واضحاً جلياً بالظاهر على الباطن؛ لأن هذا يؤثر في هذا، ولأن هذا فرع عن هذا، فتفاوت الشجر من جهة -وإن كان في مكان واحد، ومن جنس واحد، ويسقى بماء واحد- دليل على تفاوت المؤمنين أيضاً، والشجرة الواحدة أهم ما فيها -مثلاً- الجذع، وهو أهم من أي فرع من الفروع، وبعض الفروع مهم ويمتد منه غصن أقل أهمية.. وهكذا.
فهذا مثال واحد والأمثلة كثيرة على أن الإيمان يتركب ويتجزأ من ناحية الاستدلال بالعقل الصريح الموافق للنقل الصحيح المأخوذ -كما رأينا- من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالإيمان يزيد وينقص، وليس كما زعم -واتفق عليه- طوائف الضلال من خوارج ومرجئة ومن شاكلهم.