الإيمان (قول وعمل) هذه العبارة تنقسم إلى أربعة أقسام: فالقول ينقسم إلى قسمين: قول اللسان، وقول القلب، والعمل كذلك ينقسم على قسمين: عمل القلب، وعمل الجوارح.
فأما قول القلب: فمعناه إقراره وتصديقه واعتقاده؛ مثل: أن يقول الإنسان في قلبه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يقر بها في قلبه، ومثل: أن يقر بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا أقر بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، فكل ما عدا ذلك فهو تابع له؛ لأن أعظم ما جاء به هو التوحيد ومنه الشهادتان، ثم الأعمال.
ولا يمكن لأحد أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا وأقر بصدقه؛ سواء أظهر ذلك الإقرار على اللسان أو لم يظهر، وسواءً آمن الإنسان على الحقيقة أو أظهر ذلك بلسانه ولم يؤمن على الحقيقة، فقول القلب هو الركن الأول من أركان الإيمان.
وأما قول اللسان فمعناه أن يقول الإنسان بلسانه: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا يشترط لفظ الشهادتين، بل يكفي أي لفظ يدل على المقصود، ثم يُعلَّم بعد ذلك الشهادتين وغيرها، فإذا قالها ضمناً أو لفظاً، ثبت له حكم الإسلام.
فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم
خالد بن الوليد إلى قوم من العرب يدعوهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صبأنا، لأنهم كانوا يسمعون قريشاً تقول: محمد والصباة، فقالوا: صبأنا.. صبأنا.. يستعيذون من القتل ويقصدون (أسلمنا)، ولم يحسنوا التعبير، فقتلهم
خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {
اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد}.
فمن عبر بما يدل على الإسلام، فإنه يقبل منه، ويكف عنه السيف، ويعصم دمه وماله، ثم يعلم الشهادتين، ثم يعلم ما بعدها من الأحكام.
ولو قالها بالإشارة أيضاً فإنه يقبل منه؛ فقد روى
اللالكائي أن
عمر رضي الله عنه قال: [[
لو أن المسلمين حاصروا أهل حصن، فخرج منهم رجل، فأخرج يده، فرفعها إلى السماء، فقتله رجل، لقتلته به]] لأن من أشار بهذه الإشارة يكف عنه السيف، ويعلم بعد ذلك التوحيد وحقيقته.
أما من لم يقر بالشهادتين فإنه ليس بمسلم، لكن
الأشاعرة يقولون: (من عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم بقلبه، ورآه وصدقه ثم مات، فإنه يكون مسلماً، فإن قصر في عدم النطق بالشهادتين كان عاصياً).
وممن قال ذلك وانتصر له :
الغزالي في
الإحياء وشرحه
الزبيدي شرحاً وافياً، وأكثر كتبهم على أنه إذا صدق بقلبه نجا عند الله.
فما صحة هذا القول في ميزان الشرع؟
القاعدة في هذا كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (من لم يقر بالشهادتين، فإنه ليس بمسلم ولا مؤمن، ولا يأخذ أحكام الإيمان)، فالإقرار بالشهادتين واجب بإجماع المسلمين، وبه وحده يدخل الإنسان في الإسلام والإيمان؛ فهو واجب لتحقيق أن يكون مسلماً، فلابد من الإقرار بالشهادتين، وإن لم يقر بها لم ينفعه تصديقه أو إقراره بالقلب.
ومن الأدلة على أن معرفة الحق بالقلب مع عدم الإقرار باللسان لا ينفع صاحبه مطلقاً -وهو دليل واضح ومعروف ومتفق عليه عند أهل السنة قاطبة، ولم يخالف فيه إلا الرافضة ولا يعتد بخلافهم- قصة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فليس هناك شك في أن أبا طالب كان مصدقاً غاية التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه نبي قطعاً، وإلاَّ فهل يقف معه المواقف، ويحاصر معه في الشعب، ويتحمل كل الأذى، ويضحي كل التضحيات مع من يظن كذبه؟! لا يمكن ذلك؛ فالنفوس تأباه، كل الشواهد تدل على أن أبا طالب كان مقراً ومصدقاً غاية التصديق بأن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق، وأنه على الحق، ومن شعره المنسوب إليه:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
لكنه لم يفصح بلسانه عما كان يختلج في داخله من الحق، وذلك خشية الملامة، حتى إنه عند موته قد حاول النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله ينطق بها وقوله له: (يا عم قل: لا إله إلا الله .. كلمة أحاج لك بها عند الله) إلا أنه لم يفصح بلسانه عن ذلك الحق خشية أن يقال: ترك ملة عبد المطلب : ((إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ))[الزخرف:23].
إذاً: قول القلب مع انتفاء قول اللسان وامتناعه لا ينفع صاحبه بشيء.
وهناك اعتراض يعترض به بعض مشايخ الأشاعرة وأمثالهم -وهم كثير في الأمة- يقولون: هل تثبتون إيمان الأبكم والأخرس الذي لا يستطيع أن يتكلم؟ فنقول: نعم. فيقولون: كيف تثبتون إيمانه وهو لم يقر بالشهادتين؟ ويبنون على ذلك أن النطق ركن قد يسقط؛ كما سقط عن الأبكم واكتفي منه بالإقرار بالقلب.
وشبهة أخرى، يقولون: لو أن إنساناً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، ورأى آياته، فصدقه، فأراد أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فمات من وقته، أتقولون: إن هذا يدخل النار؟
فنرد على الشبهة الأولى: بأننا نكتفي منه بأي وسيلة نعرف بها إيمانه، ما دام عاجزاً عن الإتيان بالنطق؛ فالركن يسقط عن المعذور، وهذا شيء واضح.
ونرد على الشبهة الثانية، فنقول: إننا في أحكام الدنيا نحتاج إلى الإقرار بالشهادتين لإجراء الأحكام الظاهرة عليه، وكونه عند الله سبحانه وتعالى مؤمناً؛ لأنه قدر أن يموت فجأة، فهذا عند الله، أما نحن في الدنيا فلا نعده مؤمناً. وبمعنى آخر: كوننا في الدنيا لم نعتبر هذا الإنسان مؤمناً لا يغير من الحقيقة شيئاً إن كان عند الله تعالى مؤمناً حقيقة وعجز عن القول، فلا يضره حكمنا عليه بشيء، لكن يضرنا أن نجري عليه أحكام المسلم بغير بينة.
وأيضاً: فإن الرجل في الوقت الذي آمن فيه لم يكن هناك وقت موسع لينطق بالشهادة، فمن كان وقته مضيقاً فيحكم له بذلك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها؛ لأنه كان ينوي أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله فمات، وليس كلامنا في حالات نادرة ولا في حالات افتراضية، ونصوص الشرع وكلام الأئمة وقواعد العلم عموماً إنما تبني على العام الغالب، وكذلك أي علم من العلوم، فإنه ينبني على الأسس والأصول والقواعد العامة، وليس على الشواذ.
ولو أننا لا نصحح أي قاعدة لها شواذ، لما صحت قاعدة في الدنيا تقريباً، فلابد أن يستثنى ويشذ من القاعدة بعض أفرادها، وبالذات قواعد الشرع.
وهنا فائدة وهي: أن الاستثناء من أعظم الفوارق بين مذهب أهل السنة والجماعة وبين مذاهب أهل الكلام، وأن علم الكلام لا يصلح أن نأخذ منه ديننا؛ لأنه رتب العقيدة ترتيباً عقلياً على القواعد المنطقية والقواعد الرياضية، ولا يمكنك أن تبني قاعدة منطقية أو قاعدة رياضية فيها استثناء، فلا تسمى هذه قاعدة في علم الرياضيات ما دام لها استثناءً وأنها لا تصدق أحياناً، فالذي لا يصدق مرة في حكم العقل يمكن ألا يصدق مرات كثيرة.
فشتان ما بين القواعد الشرعية والقواعد العقلية التي يسمونها منطقية أو رياضية.
مثلاً: قاعدة أن الماء يتبخر بالحرارة، فلو جاء أحد العلماء وأثبت أن الماء لا يتبخر بالحرارة لكانت القاعدة خطأ، ومن القواعد الفلكية المعروفة أن كل كوكب له مدار، فلو جاء شخص بعد مائة سنة أو مائتي سنة واكتشف أن هناك كوكباً لا يدور بطلت النظرية، فلا يقال: إن هذه النظرية يستثنى منها كذا، فالأصل في الأحكام العقلية ألا يكون فيها استثناء وهذا بخلاف الأحكام الشرعية.
ومن الخلط والخطأ الذي يقع من بعض الأصوليين أن بعضهم يؤصل قاعدة، فإذا وجد حديثاً يخالفها، فإنه يرد الحديث، ويقول: هذا حديث آحاد مخالف للأصول الكلية!
وهذا من بعض الأصوليين خطأ وخلل في عقولهم؛ لأنهم ظنوا أنه ما دامت المسألة قد ثبتت بالقاعدة فما خالفها فهو باطل! وهذا غير صحيح.
فمثلاً: من القواعد الفقهية المقررة: أن اليقين لا يزول بالشك، وهي قاعدة صحيحة في الطهارات والأحكام، فنحن نطبقها، لكننا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحكام بنى الحكم ورتبه على أمر مظنون، مثل حديث الرجل الذي خطب امرأة، فجاءت من تقول له: إنها قد أرضعتهما، فحاول الرجل أن يجد له مخرجاً فقال له صلى الله عليه وسلم {كيف وقد قيل؟!} ما دام قد قيل فقد انتهى الأمر؛ مع أننا لم نتأكد ولم نجزم.
إذاً: الشرع قواعده ليست كالقواعد العقلية التي لا يدخلها الاستثناء، وإذا دخلها الاستثناء بطلت القاعدة، ويكفي أن تأتي بمثال لكي تبطلها.
أما الشرع والدين، فالله سبحانه وتعالى جعله أوسع من ذلك: ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا))[النساء:82].
فمن فضل الله وحكمته وسعة ورحمته أن القواعد الشرعية تقبل الاستثناء فهي قواعد مرنة، فتجد هناك قواعد قطعية وتطبق على آلاف الحالات، ثم في الوقت نفسه تجد أنه يخرج عنها أمر من الأمور، وهذا الذي يخرج عنها لا يعارضها، بل نقول: إنه يستثنى من تلك القاعدة، والحكم يبقى على عمومه فيما عدا الحالة المستثناة.
فقولهم: إن الأبكم أو الأخرس الذي آمن فمات ولم ينطق بالشهادتين مؤمن.
نقول: نحن لا نتكلم عن الحالات النادرة أو الحالات الاستثنائية أو الشاذة، بل نتكلم عن الحالات الأصلية الأساسية العامة، ولا معارضة بين الحالات العامة وبين ما قد يثبت له الحكم استثناءً، إنما المعارضة تكون في القواعد العقلية والكلامية، أما القواعد الشرعية، وكما أنه لا تعارض بين كون القيام ركناً من أركان الصلاة، وبين أن المعذور ليس عليه قيام، فكذلك لا تناقض بين قولنا: إن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة، وقولنا: إن المسبوق إذا أدرك الركوع فقد أدرك الركعة، لأن هذه الحالة لا تدخل ضمن حديث: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} لأن وقتها قد فات.